التفكير والتعلُّم من منظور ريادة الأعمال
مناهج دراسة الشخصية
في الفصل الثاني، أشرنا إلى أن روَّاد الأعمال يخوضون المخاطر (أو يتحمَّلون المخاطر). ويعتمد خوض المخاطر على إدراك الموقف و/أو إدراك صانع القرار لكونه خبيرًا. فالشخص سيتجنَّب خوضَ المخاطرة إذا أدركَ أنه في موقفِ خسارة. بينما يسعى المرءُ نحو المخاطر إذا أدركَ أنه في موقف فوز. فالأفراد الذين يشعرون بالكفاءة سيخوضون مزيدًا من المخاطر. وبوجه عام، يكون الأشخاص الأكبر سنًّا والأكثر تعليمًا وذوو الخبرة والتجارب العملية الأطولِ أكثرَ تجنبًا للمخاطر.
أبعاد الشخصية | الوصف |
---|---|
الميل نحو خوض المخاطر | استعداد المرء لاتخاذِ قراراتٍ أو لاتباع مساراتِ عملٍ تنطوي على نتائج نجاح أو فشل غير أكيدة |
الرغبة في الإنجاز | رغبة الفرد في تحقيقِ إنجازٍ مهم، أو إتقان مهارات، أو السيطرة والتحكم، أو الالتزام بمعايير مرتفعة، وعدة سلوكيات أخرى مثل بذل جهود مكثَّفة ومطوَّلة ومتكرِّرة لإنجاز مهمة صعبة، والتركيز على مقصد واحد لتحقيق هدفٍ سامٍ وبعيد المنال، والعَزم على الفوز |
التكيُّف مع الغموض | يستطيع التعامُل مع حالات الغموض وعدم اليقين. ويتكيَّف مع الغموض بدرجةٍ تجعله يدرك غموضَ المعلومات والسلوكيات بأسلوبٍ محايد ومنفتح، ويرى المواقف المعقَّدة على أنها مرغوبة وتنطوي على تحديات |
مركز التحكُّم | يؤمن الأفراد الذين يتمتَّعون بمركز تحكُّم داخلي بأنهم يستطيعون التحكُّم في مجريات حياتهم والأحداث المؤثِّرة فيهم، وبأن تحقيقَ هدفٍ ما يعتمد على سلوكهم أو سِماتهم الفردية، وبأن ما يُمكِّن الفرد من التحكُّم في مصيره هو قدراته واجتهاده وإصراره وتخطيطه |
الضمير الواعي | يشمل هذا البُعد مستوى إنجاز الفرد، ودافعه إلى العمل، وقدرته على التنظيم والتخطيط، والتحكم في الذات، وقبول المعايير التقليدية، والتحلي بالنزاهة، وتحمُّل المسئولية تجاه الآخرين |
الانفتاح على الخبرات والتجارب | شخصٌ لديه فضول وخيال وقدرة على الابتكار على المستوى الفكري، ويسعى وراء الأفكار الجديدة، والقيم البديلة، والمعايير الجمالية |
الاستقرار العاطفي | يتَّصف الأشخاص المستقرون عاطفيًّا بالهدوء والاتزان والمزاج المعتدل، ويتَّصفون أيضًا بالجرأة والتفاؤل والثبات عند مواجهة الضغوط الاجتماعية والقلق وعدم اليقين. أما الأشخاص غير المستقرين عاطفيًّا (يُشار إليهم أيضًا بالشخصيات المرتفعة العُصابية)، فيشعرون بأنهم عُرضة للاستسلام للضغط النفسي، ويتعرَّضون لمجموعةٍ من المشاعر السلبية؛ منها الخوف والقلق والاكتئاب وعدم الثقة بالنفس |
الانبساط النفسي | الأشخاص الذين يتمتَّعون بمستوًى عالٍ من الانبساط النفسي، يتَّسمون بكونهم اجتماعيين ومنطلقين وعاطفيين وودودين؛ فهم يتمتعون بالنشاط ومُفعَمون بالحيوية، وواثقون من أنفسهم، ولهم هيمنةٌ على المواقف الاجتماعية، وتنتابهم مشاعرُ إيجابية أكثر، ويتحلون بالتفاؤل، ويبحثون عن الإثارة والتحفيز |
القبول | يتمثَّل هذا البُعد في توجُّه المرء نحو الآخرين. فالأشخاص الذين يتحلون بدرجةٍ عالية من القبول هم أشخاص يمنحون الثقة، ويتسمون بالإيثار والتعاون والتواضع، ويُظهِرون التعاطف والاهتمام باحتياجات الآخرين، ويميلون نحو الإذعان للآخرين في مواجهة الصراع. أما الأشخاص الذين لا يتحلون بالقبول، فهم أشخاص مخادعون وأنانيون ومُريبون وقاسون |
تتمثَّل الرغبة في الإنجاز، وهي الفكرة التي تبنَّاها ديفيد ماكليلاند، في رغبةِ المرء في تحقيقِ إنجازٍ كبير وإتقان المهارات، أو إحكام السيطرة، أو الالتزام بمعاييرَ رفيعة المستوى. وتشير الرغبة الشديدة في الإنجاز إلى أن المرء يفضِّل النجاحَ في ظل ظروف تنافسية. ويمكن تمييز الأشخاصِ ذوي الرغبة الشديدة في الإنجاز عن غيرهم بأنهم أصحابُ إنجازٍ عالٍ. وترتبط الرغبة الشديدة في الإنجاز بعدة سلوكيات أخرى، مثل بذل جهود مكثَّفة وممتدة ومتكرِّرة لإنجاز مهمة صعبة، والتركيز على مقصد واحد لتحقيق هدفٍ عالي المستوى وبعيد المنال، والعَزم على الفوز.
ترتبط الرغبةُ في الإنجاز ارتباطًا وثيقًا بتقبُّل المخاطرة وصعوبة المهام التي يختار الأشخاصُ الاضطلاع بها. ويضع أصحاب الرغبة الشديدة إلى الإنجاز نُصْب أعينهم المخاطرَ المتوقَّعة المرتبطة بالموقف والمستوى المتوقَّع لكفاءاتهم. ويختار ذوو الإنجاز المرتفع العواملَ المتمثِّلة في المواقف المرتبطة بتحمُّل المسئولية الفردية، والتحكم الشخصي في النتائج، والخوض المعتدل للمخاطر باعتبارها من صور استغلال الموهبة، وتقبُّل احتمالات الفشل المعتدلة، وتقبل الآراء الآنية حول أدائهم، ومعرفة نتائج القرارات، والقيام بنشاط مؤثِّر مبتكَر، وتوقُّع الاحتمالات المستقبلية. ويفضِّلون الاجتهاد لتحقيق أهداف صعبة نسبيًّا تمثِّل تحديًا، ولكنها لا تتجاوز إمكاناتهم. ويمكن أن يتعزَّز السلوك الريادي بسبب شعور الرضا الناتج عن الإنجاز لا بسبب المكاسب المالية. وعلى النقيض من ذلك، ربما يختار ذوو الإنجاز المنخفض المهامَّ السهلة جدًّا لتقبُّل احتمالية الفشل، أو المهام الشاقة جدًّا، بحيث لا يكون الفشل مزعجًا أو معرقلًا لهم. وتتعزَّز الرغبة الشديدة في الإنجاز من خلال: الآباء الذين يشجِّعون على الاستقلالية في مرحلة الطفولة، والإشادة والمكافأة تعويضًا عن النجاح، وما يولِّده الإنجاز من مشاعر إيجابية، والنظر إلى الإنجاز باعتباره مرتبطًا بالكفاءة الفردية والمجهود المبذول، وليس الحظ.
تشير بعض الدراسات إلى وجود صلة بين تحلِّي الأشخاص بحافز قوي للإنجاز وزيادة احتمالية دخولهم مجال ريادة الأعمال. ومع ذلك، ربما لا تكون الرغبة الشديدة في الإنجاز هي السبب الوحيد أو الرئيسي وراء انخراط الناس في سلوك مغامر. في الواقع، ربما نستخلص مزيدًا من الأسباب لو وضعنا مؤشرًا أوسعَ نطاقًا لحافز إنجاز المهام، وهو مؤشر يَعُد السماتِ التاليةَ سمات مميِّزة لروَّاد الأعمال: تحقيق الذات، وتقبُّل المخاطرة، وتلقي تقرير بالنتائج، والابتكار الشخصي، والتخطيط للمستقبل. وبالفعل، يحقِّق الأشخاص الذين يسجِّلون درجاتٍ أعلى على هذا المؤشر أداءً عمليًّا فائقًا. وربما تتضافر هذه المجموعة من العوامل الأوسع نطاقًا لتشكِّل معًا أدواتٍ للتنبؤ بجدوى دخول مشروع تجاريٍّ ما وتحقيق أداءٍ جيد.
يرتبط مفهوم التكيُّف مع الغموض بتقبُّل المخاطرة. فالأشخاص، الذين يتكيَّفون مع الغموض بدرجةٍ كبيرة، يستقبلون المعلومات والسلوكيات الغامضة والمبهَمة على نحوٍ محايد ومنفتح، ويرون المواقفَ المعقَّدة على أنها مرغوبة وتنطوي على تحديات. فهم يتحلَّون بذهنٍ متفتِّح ويتمتَّعون بسلوكٍ مرن، ويركِّزون على الحقائق الأساسية، ويستجيبون سريعًا للتغيير. وفي المقابل، يسجِّل الأشخاص الذين لديهم درجةٌ منخفِضة من التكيُّف مع الغموض مستوياتٍ عاليةً من التوتر والانزعاج في المواقف المعقَّدة. ويفضِّلون عمومًا المواقفَ المفهومة جيدًا. وتربط بعض الدراسات بين مَن لديهم مَيل أكبر نحو التكيُّف مع الغموض واحتمالية دخول مجال ريادة الأعمال.
مفهوم مركز التحكُّم مرتبط بمدى إيمان الأفراد بقدرتهم على التحكم في الأحداث التي تؤثِّر عليهم. وهذا المفهوم هو أحدُ الأبعاد الأربعة التي تشمل تقييمات الذات الأساسية المرتبطة بالكفاءة الذاتية والاعتداد بالنفس والعُصابية والتقييم الأساسي من المرء لنفسه. ويشير جوليان روتر إلى أن مركزَ التحكُّم يمكن أن يكون داخليًّا أو خارجيًّا. ويرتبط التوجُّه الداخلي العالي بالمواضع التي يؤمن فيها المرءُ بأن تحقيقَ هدفٍ ما يعتمد على سلوكه أو سماتٍ فردية. يمكن للمرء التحكُّم في مصيره من خلال قدراته واجتهاده وإصراره وتخطيطه. يؤمن الأشخاصُ الذين يسجِّلون درجةً عالية من التوجُّه الداخلي أن بإمكانهم تغييرَ الأحداث بصفةٍ شخصية في أي موقف، ومن ثَم يزيدون من توقُّعات نجاحهم. أما التوجُّه الخارجي فهو مرتبط بالمواضع التي يؤمن فيها المرءُ بأن بيئته المحيطة تتعدَّى حدودَ قدرته على السيطرة، وأن ثَمة قوة أعلى أو أشخاصًا آخرين يتحكِّمون في قراراته وحياته. ولذا، ربما يميل إلى الاعتقاد بأن تحقيقَ هدفٍ ما هو نتيجة الحظ أو العوامل الخارجية. والأدلة على دَور مركز التحكم ليست دامغة. فبعض الدراسات لا تُظهِر سوى صلةٍ ما بين ضعيفة إلى متوسطة لدى الأشخاص الذين لديهم توجُّه داخلي وبين ميولهم إلى دخول مجال ريادة الأعمال. ورصدَ عددٌ قليل من الدراسات نزعةً طفيفة لدى مَن لديهم توجُّه داخلي نحو امتلاك شركاتٍ ذات أداء عالٍ.
وفي الآونة الأخيرة، وُجِد أن ثَمة أبعادًا شخصية أخرى مرتبطة بالميل نحو دخول مجال ريادة الأعمال. رصدَ هاو جاو وزملاؤه أربعة أبعاد شخصية، وهي: الاجتهاد المرتبط بحافز الإنجاز، والانفتاح على التجارب والخبرات، والاستقرار العاطفي، والانبساط النفسي؛ وهذه الأبعاد مرتبطة بالنية لدخول مجال ريادة الأعمال والأداء الريادي الفائق. رُبِط بين بُعدٍ شخصي آخر متعلِّق بالميل إلى خوض المخاطر ونية دخول مجال ريادة الأعمال، لكنه لم يُربَط بالأداء الريادي الفائق.
على الرغم من أن المنهج القائم على السمات الشخصية يلقى استحسانًا بديهيًّا، فإن نظريات الشخصية لا تقدِّم تفسيرًا وافيًا للسبب وراء انخراط بعض الأفراد في السلوك الريادي وعدم انخراط آخرين غيرهم. وبالفعل، لاقت الدراساتُ التي تركِّز على السمات الشخصية لروَّاد الأعمال انتقاداتٍ واسعة، وفقدت التأييد. وكما أوضحنا أعلاه، لا يتحلَّى أغلبُ روَّاد الأعمال بجميع السمات الشخصية الإيجابية المثالية. علاوةً على ذلك، قد يتحلَّى مَن هم ليسوا بروَّادِ أعمال بالعديد من السمات الشخصية المثالية.
بالإضافة إلى ذلك، تشوِّه الدراساتُ المتحيِّزة، التي ترصد فقط روَّادَ الأعمال الصامدين في المجال والناجحين فيه، أهميةَ السمات الشخصية. وعندما تخضع جميعُ سمات الشخصية إلى التحليل، يتضح أنه لا يوجد بُعدٌ واحد بعينه أهم من بقية الأبعاد في تحديد ميل الفرد نحو ريادة الأعمال أو الأداء الريادي الفائق. على النقيض من ذلك، نجد أن أمورًا مثل السياق الاجتماعي ورأس المال البشري العام والخاص لروَّاد الأعمال، التي ناقشناها في الفصل الثالث، تفسِّر احتماليةَ أن يؤسِّس بعضُ الأشخاص مشروعاتٍ مغامِرة جديدة، لا سيَّما تلك التي تحقِّق نجاحًا كبيرًا، من عدمها.
تقدِّم نظريةُ السلوك القائم على التخطيط، التي طُوِّرَت من نظرية الفعل المبرَّر التي عرضها أيزك أيزن تفسيرًا واحدًا. ربما لا يكون لتوجُّهات الفرد وسِماته الشخصية سوى تأثير غير مباشر على سلوكٍ بعينه. وقد تعزِّز التوجُّهات والمعايير الذاتية، مثل المراقبة السلوكية المتصوَّرة، وليس الشخصية في حد ذاتها، نيةَ الأفراد في أن يصيروا روَّادَ أعمال ويمتلكوا شركاتٍ فائقة الأداء.
تبرُز مشكلةٌ أخرى مرجُعها أنَّ بعضَ السمات الشخصية المميِّزة لمَن تظهر عليهم صفات روَّاد الأعمال منذ الصغر هي سماتٌ فطرية ولا يمكن اكتسابها. تصف نظريات السمات الشخصية الميول العامة، وتتجاهل أهمية العوامل الظرفية التي قد تغيِّر من سلوك الفرد واختياراته المهنية. ومن ثمَّ، ترتبط نظريات السمات الشخصية بمناهجَ ثابتة تركِّز على «ماهية رائد الأعمال»، وليس على «ما يفعله رائد الأعمال». تلخِّص فكرةُ بيل جارتنر المتعمِّقة التي عرضها في مقال بعنوان «الخطأ أن يكون السؤال «مَن رائد الأعمال؟»» تلخيصًا دقيقًا هذه الحاجةَ للتحوُّل إلى دراسة السلوك الريادي وما يؤثِّر على هذا السلوك. ويقدِّم المنظور الديناميكي النفسي والمنظور المعرفي حُججًا مضادَّة لمنهج السمات الشخصية. ربما يكون تغيير مهارات المعالجة الذهنية لدى الشخص أسهلَ من تغيير شخصيته.
المناهج الديناميكية النفسية
استنادًا إلى نظرية التحليل النفسي التي وضعها سيجموند فرويد لفهم الشخصية، استعانَ الباحثون بالديناميكا النفسية لدراسة سلوكيات روَّاد الأعمال. ويشير هذا المنهج إلى أن عملية التنشئة الاجتماعية في مرحلة الطفولة تحدِّد الصفات الشخصية، مثل الدوافع الغريزية، وأن بعض الأشخاص يسعون إلى الإشباع الفوري لرغباتهم. فإذا كُبحَت السلوكيات الغريزية بصرامة، فمن الممكن أن يولِّد هذا لدى المرء شعورًا بالإحباط، ربما يكون مصدرًا للحافز الريادي بعد ذلك.
يشير مانفريد كيتس دي فريس، مستعينًا بالمنظور الديناميكي النفسي، إلى أن السلوك الريادي قد يكون راجعًا إلى دوافعَ سلبية. إذ يرى كيتس دي فريس أن الإحباطات ومواقف الحرمان المُدرَكة، التي يواجهها المرء في المراحل الأولى من حياته، ترسم شخصيته. تُفسَّر السلوكيات بناءً على تجاربَ متعلقة بطفولة صعبة ومضطربة للغاية يغيب فيها الأب عن المشهد. وهؤلاء الأشخاص تستحثهم مشاعرُ عدم التقدير الذاتي، وعدم الأمان، وعدم الاحترام الذاتي، وعدم القدرة على الاندماج داخل مؤسسة. وربما يُصنَّف هؤلاءُ الأفراد باعتبارهم أشخاصًا مهمَّشين أو ذوي سلوك منحرِف. ويبحث هؤلاء الأفراد عن الاستقلالية والتحكم من أجل تحديد مصائرهم بأنفسهم. ويجد مَن يتولون مناصب السلطة صعوبةً كبيرة في اتباع مساراتٍ مهنية داخل مؤسساتٍ كبرى ذات تنظيم هيكلي؛ وذلك بسبب ما تعرَّضوا له من انعدام الثقة والتشكيك. وربما يغيِّر أمثال هؤلاء وظائفهم على نحو متكرِّر، وربما يكتسبون خبراتٍ ريادية في سياقاتٍ متنوعة. وربما يختارون مواقفَ عالية المخاطرة، ويفضِّلون في النهاية العملَ لحساب أنفسهم روَّادَ أعمال.
يشير كيتس دي فريس إلى أن مواقف العمل والتجارب العملية للأشخاص الذين لا يُعَدون ذوي سلوك منحرِف قد تشجِّع أيضًا سلوكياتٍ ريادية سلبية. قد يحظى الأفرادُ بمساراتٍ مهنية مرتبطة بسلسلة من النجاحات أو الإخفاقات، أو كليهما. ويخشى بعضُ الأفراد، على مستوى اللاوعي، من النجاح (بمعنى أنهم لا يرون أنهم يستحقون النجاح) والفشل. وبسبب شعورهم بخيبة الأمل والإحباط، يكون من المرجَّح أن يُبدي بعضُ الأشخاص سلوكياتٍ مندفِعة، ويتخذون قراراتٍ دون دراسة متأنية. وفي حين أن انغماسَ رائدِ الأعمال بالكامل في المشروع الريادي يمكن أن يكون عنصرًا حاسمًا في النجاح الأوَّلي، فقد يظهر هذا التركيز في أسلوب القيادة الاستبدادي. يقترن هذا الأسلوب في القيادة بالإحجام عن التفويض وتقديم أنظمة رسمية للعمل بها، والميل نحو التركيز على الآفاق القصيرة الأجل. وقد يُعرِّض بقاءُ الشركة والانتقالات الإدارية للخطر. وقد يتمتَّع رائد الأعمال بدرجة عالية من الإبداع والخيال الواسع، لكنه يتسم أيضًا بدرجة عالية من عدم المرونة وانعدام الرغبة في التغيير. ويشكِّك هذا المنظور في وجهة النظر القائلة بأن جميع روَّاد الأعمال هم أشخاص مميَّزون تظهر لديهم دومًا سلوكياتٌ ريادية إيجابية (مثلًا، وجهة نظر شومبيتر). بالإضافة إلى ذلك، يشدِّد هذا المنظور على الحاجة إلى استكشاف السلوك الريادي في وقت الأزمات ومواقف النجاح والفشل.
تواجه مشكلةٌ رئيسيةٌ المنهجَ الديناميكي النفسي في استخلاص دروس عامة بخصوص روَّاد الأعمال، وهي أن النتائج عادةً ما تكون نابعة من عدد صغير من الحالات الموضوعية. فأصحابُ السلوك المنحرِف موجودون في سائر قطاعات المجتمع. ولا يوجد سببٌ وجيه للاعتقاد في أن عددًا أكبرَ نسبيًّا يصيرون روَّادَ أعمال. وبالفعل، تفيد الأدلة بأن غالبية روَّاد الأعمال لا يأتون من خلفياتِ ذوي السلوك المنحرف. فكثيرٌ من روَّاد الأعمال ليسوا أكثرَ اضطرابًا من غيرهم ممن ليسوا من روَّاد الأعمال، وكثيرٌ من روَّاد الأعمال يأتون من أُسر مستقرة عاطفيًّا وماديًّا. وقد يلعب بعضُ الآباء دَور القدوة، لا سيَّما أولئك الذين يمتلكون شركاتٍ عائلية.
يضع المنهج الديناميكي النفسي في الحُسبان جميعَ المواقف والمحفِّزات والعوائق (أي العوامل التي تدفع الأفراد نحو ريادة الأعمال أو تُقصيهم عنها، أو كلا الأمرين) التي قد تشكِّل ميل الأفراد نحو أن يصبحوا روَّادَ أعمال أو أن يمتلكوا شركاتٍ فائقة الأداء. علاوةً على ذلك، يُغفِل هذا المنهج ما يحدث للمرء من تطوُّر على مدى حياته، وقدرة البعض على إعادة تشكيل أنفسهم والتعامُل مع الإخفاقات التي حدثت في مراحلَ مبكرة من حياتهم.
المناهج المعرفية
يتمثَّل الفِكْرُ السائد لدى روَّاد الأعمال في أسلوبِ فلترة المعلومات الذي يفلترون من خلاله الأمورَ التي تقع في مجال اهتماماتهم. وأسلوب فلترة المعلومات هذا أشبه بالإدراك المعرفي لرائد الأعمال. فالنظرية المعرفية تهتم بطريقة معالجة المعلومات الواردة واستخدامها. وربما تفسِّر الاختلافاتُ في العمليات المعرفية من شخصٍ لآخر السببَ وراء تسجيل تفاوتاتٍ في السلوك والأداء بين الأشخاص. تبحث الدراسات التي أُجريت على المعرفة الريادية الطرائقَ التي يفكِّر ويتصرف بها روَّادُ الأعمال مقارنةً بغيرهم ممن لا يعملون في هذا المجال، وكذلك الهياكل المعرفية المستخدَمة في تصميم التقييمات أو إصدار الأحكام أو اتخاذ القرارات المتضمِّنة تقييم الفرص وابتكار المشروعات المغامرة وفرص النمو.
وجدَ روبرت بارون أن روَّاد الأعمال أكثرُ عُرضةً من غيرهم للشعور بالندم على الفرص المُهدَرة سابقًا. يبحث روَّاد الأعمال على الأرجح عن الفرص المُدرَكة ويحددونها ويتصرَّفون بناءً عليها. كما أنهم يميلون على الأرجح إلى الأفكار المتأنِّية البنَّاءة. علاوةً على ذلك، روَّاد الأعمال هم الأكثرُ عُرضة لمستوياتٍ عاطفية أقوى فيما يتعلق بعملهم. وهم أكثرُ عُرضةً لأن تتأثر قراراتهم بالحالات العاطفية غير ذات الصلة بهذه القرارات، كما أنهم على الأرجح أكثر عُرضةً للانحياز إلى المصلحة الذاتية فيما يخصُّ نتائج القرارات. ومع ذلك، يشير بارون إلى أن روَّاد الأعمال الأكثر نجاحًا ربما يكونون أقل ميلًا نحو هذه التحيزات. فروَّاد الأعمال الناجحون أكثرُ عُرضة للمبالغة في الثقة في توقعاتهم بشأن النتائج المستقبلية، وأكثر ميلًا إلى تصعيد الالتزام الذي يؤثِّر على قدرتهم على اتخاذ القرارات.
ربما تقود بعضُ مناهج الحَدْس المهني إلى قراراتٍ سيئة. فنظرًا إلى الثقة المبدئية المفرِطة، ربما يكون صانعو القرار بطيئين جدًّا في دمج المعلومات الإضافية بخصوص موقفٍ ما في تقييمهم. وقد تشجِّع الثقةُ المفرِطة والتفاؤل غير الواقعي روَّادَ الأعمال على استغلال فرصة، إلا أنها قد تدفعهم إلى تأسيسِ شركاتٍ تُعاني نقصًا في رأس المال. والشركات، التي تعاني نقصًا في رأس المال وتبدِّد الموارد الفعلية لروَّاد الأفعال، وليس المتصوَّرة، تكون عُرضة لمعدَّلات فشل أعلى.
البُعد المعرفي | الوصف |
---|---|
التحيُّز التمثيلي | استعداد الفرد للتعميم بناءً على القليل من الملاحظات |
الثقة المفرِطة | مبالغة الفرد في تفاؤله بشأنِ تقييمه المبدئي لموقفٍ ما (أي إيمان غير مبرَّر بقدرات الفرد على تحقيق نتيجة معينة)، في حين أنه يدمج المعلومات الجديدة ببطءٍ |
التفاؤل المفرِط | ميل الفرد إلى الإشارة إلى أنه أقلُّ عرضة من الآخرين للتعرُّض لتجارب سلبية، وأكثرُ عُرضة من الآخرين للتعرُّض لتجاربَ إيجابية |
مدى الإتاحة | استرشاد الفرد بالمعلومات المتاحة بسهولة |
وَهْم التحكُّم | مغالاة الفرد في التأكيد على المدى الذي يمكن به تحسين الأداء في مواقفَ يلعب فيها الاحتمالُ دورًا كبيرًا |
نقطة الارتكاز والتعديل | يستعين الفرد بقاعدةٍ عملية بموجبها تُعَد المعلوماتُ الحالية نقطةً مرجعية، ولكن يمكن بعد ذلك تعديلها لتضع في الاعتبار عواملَ أخرى متنوعة |
التحيُّز التوافقي | ميل الفرد نحو ملاحظة أي معلومات تتوافق مع وجهة نظره |
مغالطة التخطيط | ميل الفرد نحو التقليل من تقدير حجم العمل والوقت اللازم لإنجاز مشروعٍ ما |
تصعيد الالتزام | ميل الفرد نحو الالتزام بقراراتٍ تُسفِر عن نتائجَ سلبية حتى مع استمرار تزايُد النتائج السلبية |
التحفيز الذاتي | تركيز الفرد على اهتماماته ومُتعته بدلًا من التركيز على المكافأة الخارجية |
الكفاءة الذاتية المتصوَّرة | معتقدات الفرد بخصوص إمكاناته وقدرته على تحقيق الهدف |
متلازمة النجاح | اضطرابُ ما بعد النجاح الناجم عن الأعباء المتكبَّدة من تحقيقه |
النقاط العمياء | يميل الفرد نحو رؤيةِ نفسه أقلَّ تحيزًا من الآخرين |
الاستعلاء | يفقد الفرد اتصاله بالواقع ويبالغ في تقدير كفاءته وإمكاناته |
الإنكار | عندما يواجه الفرد حقيقةً يصعب عليه قبولها، فإنه يرفضها، ويؤمن بأنها غير صحيحة رغم الأدلة الدامغة |
المغالطات الاستقرائية | استخلاص استنتاجاتٍ عامة من عددٍ صغير من الملاحظات التي من المحتمَل ألا تصلح للتمثيل الوافي |
تجربة سابقة في ملكية المشروعات التجارية
يدور جدلٌ كبير حول العلاقة بين الخبرة في ريادة الأعمال والشعور بالتفاؤل. يدرك بعضُ روَّاد الأعمال أنهم كانوا يُفرِطون في تفاؤلهم في البداية؛ ومن ثَم يعدِّلون طريقةَ تفكيرهم لاحقًا. ولذا، نجدهم يتبنَّون نظرةً أكثرَ واقعية في المشروعات المستقبلية اللاحقة. ربما يكون من المستبعَد أن نجد فيما بعدُ تفاؤلًا غير واقعي لدى روَّاد الأعمال المحنَّكين ذوي التجارب السابقة في ملكية المشروعات التجارية، لا سيَّما تجارب إخفاق المشروعات. وبدلًا من ذلك، ربما تتراكم التحيُّزات لدى روَّاد الأعمال المحنَّكين؛ ومن ثَم ربما نجدهم في وقتٍ لاحق أكثرَ ميلًا إلى التفاؤل غير الواقعي. تُتيح التجارب السابقة في ملكية المشروعات التجارية فرصًا لتقليل احتمالية الشعور بالتفاؤل غير الواقعي في وقت لاحق، ولكن هذا يعتمد على طبيعةِ التجربة. وعلى الرغم من توافر المزيد من فرص التعلم من خلال التجارب المتعددة لملكية المشروعات التجارية، فإن روَّاد الأعمال المتمرِّسين (أي ذوي التجارب السابقة في ملكية شركة مستقلة واحدة على الأقل) الذين لم يتعرَّضوا لتجربةِ إخفاق مشروع تجاري، أكثرُ ميلًا إلى الشعور بالتفاؤل غير الواقعي مقارنةً بروَّاد الأعمال المبتدئين. وتشكِّك هذه النتيجةُ في قدرة روَّاد الأعمال على التعلم من التجارب الإيجابية وحدَها. وبعض روَّاد الأعمال المتمرِّسين عُرضة لمواجهة عوائق النجاح. فإذا كانت توجد دروسٌ مستفادة من الإخفاق، فربما نتوقَّع أن يكون روادُ الأعمال المتمرِّسون الذين خاضوا تجربةَ إخفاق مشروع تجاري، أقلَّ ميلًا إلى الشعور بالتفاؤل غير الواقعي مقارنةً بروَّاد الأعمال المبتدئين الذين لم يتعرضوا لتجربة إخفاق من قبل. ومع ذلك، نجد أن روَّادَ الأعمال المتمرِّسين، الذين يديرون عدةَ مشروعاتٍ متزامنة وليس متعاقبة، والذين خاضوا تجربة إخفاق مشروع تجاري، أقلُّ ميلًا بوجه عام إلى إبداء تفاؤل غير واقعي مقارنةً بروَّاد الأعمال المبتدئين.
هذه النتائج مثيرةٌ للاهتمام لسببَين مترابطَين. الأول، أن نمط النشاط الريادي الذي في ظله تحدُث تجربة الإخفاق يبدو مرتبطًا بالكيفية التي يستجيب بها رائدُ الأعمال إلى تلك التجربة وطريقة تعلُّمه منها. والثاني، أن ثَمة اختلافات واضحة بين روَّاد الأعمال الذين خاضوا تجربة إخفاق مشروع تجاري. وينبغي ألا يُوضَع روَّاد الأعمال الذين خاضوا تجربة إخفاق مشروع تجاري في مجموعة واحدة غير دقيقة، لا تميِّز بين الإخفاق الاقتصادي للمشروع التجاري والإخفاق في تلبية توقُّعات رائد الأعمال.
يمكن «تخفيف عبء» الآثار الشعورية الناجمة عن إخفاق المشروع التجاري لدى روَّادِ الأعمالِ ذوي المشروعات المتعاقبة؛ ذلك لأن لديهم مشروعًا آخرَ أو مشروعاتٍ أخرى يعوِّلون عليها. ويمكن لروَّاد الأعمال ذوي المشروعات المتعاقبة أن يتبنوا نهجًا تجريبيًّا، وينوِّعون أشكالَ المخاطر التي يخوضونها من خلال إجراء استثماراتٍ أصغر ومتزايدة تدريجيًّا في مشروعَين مغامرَين أو أكثر في الوقت نفسه. وقد يسعون على نحوٍ استراتيجي إلى تقليل التكلفة العاطفية والمالية لإخفاق المشروع التجاري إلى الحد الأدنى. وعلى النقيض من روَّاد الأعمال ذوي المشروعات المتزامنة، ربما يكون روَّاد الأعمال ذوو المشروعات المتعاقبة أكثرَ قدرة على أن ينأَوا بأنفسهم عن المغامرة ويَتَّبعون تقييمًا أكثرَ موضوعية لكل مشروع يمتلكونه.
التحفيز والكفاءة الذاتية
يتعلَّق التحفيز الداخلي بتصوُّر الفرد لما يراه ممتعًا ومُشبِعًا. وربما لا يكون للسلوك القائم على التحفيز الداخلي أيُّ مكافأة مالية واضحة، لكنه يساعد في تشكيل المشاعر والتوجُّهات والأهداف. ومن ثَم، قد يشكِّل أيضًا قدرة رائد الأعمال على أن يكون مبدعًا، ويحدِّد درجةَ انجذابه إلى التحديات، وقدرته على البحث عن المعلومات لاكتشاف الفرصة واستغلالها. بالإضافة إلى ذلك، ربما يعني التحفيز الداخلي أن روَّاد الأعمال، الذين لديهم اهتمامٌ عالي المستوى بأنشطتهم التجارية، سيختبرون شعورًا أكبرَ بالاستمتاع، وسيمتلكون قدراتٍ فائقة على اتخاذ القرارات. وعلى النقيض من ذلك، يرتبط التحفيز الخارجي بسلوك الفرد الذي يتأثَّر بمحفِّزاتٍ خارجية مثل المكافآت المالية، وليس بالاهتمام بالمهمة ذاتها. ويرتبط التحفيز الداخلي ارتباطًا وثيقًا بالمستوى العالي من الكفاءة الذاتية.
يرتبط مفهوم الكفاءة الذاتية المتصوَّرة بمفهوم مركز التحكم الذي أشرنا إليه سابقًا. أوضحَ ألبرت باندورا أن أصحاب المستويات العالية من الكفاءة الذاتية المتصوَّرة لديهم ثقةٌ في إمكاناتهم الخاصة؛ مما يقودهم إلى تحقيقِ إنجازاتٍ لاحقة. فهم أشخاص يملكون الحافز، ويسعون إلى السيطرة على الأحداث في حياتهم.
يتعامل أصحابُ المستوى العالي من الكفاءة الذاتية مع المهام الصعبة باعتبارها تحدياتٍ يجب التغلب عليها، وليس باعتبارها مشكلاتٍ يجب تجنُّبها. على الجانب الآخر، يتجنَّب أصحابُ المستوى المتدنِّي من الكفاءة الذاتية المهامَ الصعبة التي يُنظَر إليها باعتبارها تهديداتٍ شخصية. ويلتزم الأفراد ذوو الكفاءة الذاتية العالية التزامًا صارمًا بتحقيق الأهداف الصعبة، ويُصرون عليها حتى عند مواجهة الفشل. ويميلون أيضًا إلى أن يعزوا الفشل إلى عدم بذل المجهود الكافي ونقص المعرفة. وعلى النقيض، نجد لدى ذوي الكفاءة الذاتية المتدنية انخفاضًا في مستوى الطموح والالتزام تجاه أهدافهم المختارة، كما أنهم لا يحافظون على أيِّ نوع من التركيز التحليلي، ويستسلمون بسهولة. وفي هذه الحالة، يُعزى الفشل إلى عوائقَ خارجية وأوجه قصور شخصية. ونتيجةً لذلك، سرعان ما يفقدون الثقةَ في إمكاناتهم. وعادةً ما يكون مستوى الكفاءة الذاتية لدى الشخص نتاجًا لتجارب النجاح أو الفشل السابقة (سواءٌ التجارب الشخصية أو تجارب أولئك الذين يمثِّلون القدوة له). ومن ثَم، غالبًا ما تصنع الكفاءةُ الذاتية حلقةً مفرغة إيجابية أو سلبية، إما أن يقود فيها النجاح إلى نجاح آخر، أو يقود فيها الفشل إلى فشل آخر.
من المرجَّح بوجه عام أن يؤسِّس الأشخاصُ الذين يسجِّلون مستوياتٍ عالية من الكفاءة الذاتية المتصوَّرة شركاتٍ جديدةً، ويستكشفون فرصًا جديدة. وفي أي موقف بعينه، يكون روَّاد الأعمال أكثرَ ميلًا إلى إدراك وجود الفرص أكثر من غيرهم ممنْ ليسوا روَّاد أعمال، الذين عادةً ما ينظرون إلى نفس الموقف باعتباره يحمل أعباءً أكثر وينطوي على مخاطرَ أكبر. ويتجنَّب بعضُ الأشخاص الأنشطة الريادية؛ ليس لأنهم يفتقرون إلى القدرة، وإنما لأنهم يعتقدون أنهم لا يمتلكون هذه القدرة من الأساس. ومع ذلك، فمن المستبعَد بقدر كبير أن نجد لدى الأشخاص الذين يسجِّلون مستوياتٍ عالية من الكفاءة الذاتية المتصوَّرة النيةَ للنهوض بشركاتهم.
مزايا التجربة وعيوبها
يمكن أن تصيغ التجربةُ الإدراكَ المعرفي لدى الفرد. وربما يتعلَّم روَّادُ الأعمال المتمرِّسون من التغذية الراجعة المستقاة من تجاربهم السابقة في ملكية المشروعات التجارية لتعديل أحكامهم، عندما يتعلق الأمرُ بالتفكير في استغلالِ فرصةٍ لاحقة. ومن خلال التقييم الدقيق للتغذية الراجعة المستقاة من تجاربِ امتلاكِ مشروعاتٍ سابقة، يستطيع روَّاد الأعمال المتمرِّسون أن يشكِّلوا حلقة تعلُّم ديناميكية. وربما تعزِّز هذه التجارب السابقة قُدرتهم على الحصول على المعلومات المعقَّدة، والمنقوصة في الوقت نفسه، المتعلقة بفرصة ريادية جديدة، وتنظيم تلك المعلومات. وباعتبارهم صُنَّاعَ قرار ذوي خبرة كبيرة، ينبغي أن يكونوا في وضعٍ أفضلَ يُتيح لهم استغلال هذه المعلومات على هيئةِ أنماطٍ يسهُل التعرُّف عليها تشكِّل الأساس للأنشطة الريادية. ونظرًا إلى أن روَّاد الأعمال المتمرِّسين يتمتعون بخبراتٍ متعدِّدة يمكنهم أن يعوِّلوا عليها، فربما يميلون على الأرجح إلى معالجة المعلومات المتعلقة بالفرص الجديدة المحتمَلة، مستعينين بمناهج الحَدْس المهني، أكثر من روَّاد الأعمال المبتدئين الذين لا يتمتعون بهذه الخبرة السابقة. وقد يكون لدى روَّاد الأعمال المبتدئين عددٌ أقل من الطرق الذهنية المختصرة المتعلقة بالتجارب السابقة التي يمكنهم أن يَبنوا عليها. في الواقع، يتبنى هؤلاء الأفراد العديمو الخبرة على الأرجح أساليبَ أكثرَ تحليلًا أو منهجيةً لمعالجة المعلومات.
قد تغيِّر المعرفةُ القائمة على الخبرة طريقةَ تفكير روَّاد الأعمال، وقد تقود روَّاد الأعمال المتمرِّسين إلى المزيد من الإبداع في تشكيل الفرص التالية واستغلالها. ومع ذلك، فالجانب السلبي من هذا الأمر هو أن مبالغة روَّاد الأعمال المتمرِّسين في التعويل على الحَدْس المهني ربما تعني أن يواصلوا اتباعَ نفس النهج في اتخاذ القرار بما لا يتناسب مع المواقف الجديدة، لا سيَّما داخل بيئات العمل المتغيِّرة. ونتيجةً لذلك، يمكن أن ينزع بعضُ روَّاد الأعمال المتمرِّسين إلى التحيُّزات المرتبطة بصنع القرارات القائمة على الحَدْس المهني. ومن ثمَّ، ربما تقود تجربة ريادة الأعمال إلى نتائج تعلُّم سلبية وإيجابية على حدٍّ سواء.
على سبيل المثال، ربما يظن بعضُ روَّاد الأعمال المحنَّكين أنهم يعرفون بالفعل ما يكفي بخصوص سياقٍ معيَّن متعلق بفرصة جديدة. ويمكن أن يستخلصوا أكثرَ مما ينبغي من المعلومات المحدودة المتاحة لأنهم يريدون تأكيدَ معتقداتٍ سابقة. وكما حذَّرنا آنفًا، ربما يتقيَّد بعضُ روَّاد الأعمال المحنَّكين بالالتزام بما هو مألوف لهم، ويبالغون في الثقة بأحكامهم، على الرغم من أن السياق الجديد مختلف.
قد يجد روَّاد الأعمال الذين يستغلون ما تعلَّموه من تجاربهم السابقة أن صعوبة إدراك التغييرات الصناعية أو التقنية أو التنظيمية أو السوقية تزداد. وبدلًا من تعديل مناهج الحَدْس المهني التي أتت بثمارها في الماضي لتتناسب مع السياق الجديد، ربما يحاولون تكرار الخطوات نفسها للوصول إلى النتائج التي يمكن توقعها إلى حَدٍّ ما. ويمكن أن يعوق هذا العيب، المتمثِّل في الرتابة الناجمة عن الشعور بأنهم يعرفون كيف تُنجَز المهام، قدرة رائد الأعمال على تحديد فرص العمل الجديدة أو تطوير الاستراتيجيات اللازمة لاستغلال الفرص الجديدة، أو كلا الأمرين.
قد يواصل بعض روَّاد الأعمال المتمرِّسين التركيزَ على العلاقات الشخصية التي استعانوا بها في الماضي. وربما يوظِّفون الموارد والمعرفة التي لديهم في الشركة الجديدة؛ ومن ثَم يقلِّلون النزوعَ إلى اكتساب موارد متعلقة بالسياق. وهذا العيبُ المتعلق بالتشابه التام قد يعيق قدرتهم على التغيير، أو على التكيُّف مع ظروف البيئة الخارجية المتغيِّرة. فربما لا يكون النوعُ الأخير من روَّاد الأعمال قادرًا على تعديل أنماط التفاعُل والتعلُّم لديهم لتتناسب مع متطلبات شركتهم الجديدة. وتساعد هذه العوائق المتراكمة في تفسير السبب وراء احتمالية أن يكون أداء مشروع لاحق يملكه رائد الأعمال المتمرِّس أدنى من أداء مشروعه الأول (أو ببساطةٍ، احتمالية ألا يكون أعلى من الأول إذا تكافأت المميَّزات مع العوائق).
يُعَد كامران الهيان، الذي شارَك في تأسيس شركة «سيريس لوجيك» الناجحة للغاية في صناعة أشباه الموصلات، مثالًا جليًّا على ذلك. ففي وقتٍ لاحق، مضى قُدُمًا في تأسيس شركة «مومينتا» لتصنيع أجهزة الكمبيوتر المعتمِدة على الأقلام الإلكترونية، إلا أنه أُقيل من منصب رئيس مجلس الإدارة حين انهارت الشركة. وذُكِرَ عن كامران الهيان تصريحه بأنه كان واثقًا تمامًا من نجاحه المؤكَّد في رؤية مشكلات البرمجيات بكل وضوح، وعدم استعداد السوق لطرح المنتج، ونفقات التسويق المُبالَغ فيها.
تجربة الإخفاق
ربما تتأثَّر الدروس المستفادة من التجربة السابقة في ملكية المشروعات التجارية تأثرًا كبيرًا بما إذا كانت تلك التجربة تتضمَّن نجاح المشروع التجاري أو إخفاقه لسببٍ اقتصادي (مثل إفلاس الشركة) أو إخفاقه لسببٍ غير اقتصادي، أو كلا الأمرين (أي إغلاق المشروع نظرًا لأن أداءَه كان بطيئًا للغاية مقارنةً بتوقعات رائد الأعمال). والتعامُل مع الإخفاق هو سِمة مهمة لدى روَّاد الأعمال. وثَمة فارقٌ مميَّز بين الإخفاق العادي والإخفاق الذكي. ربما يتعلَّم روَّادُ الأعمال أكثرَ من الإخفاق الذكي، بما في ذلك الإخفاقات المتواضعة التي اتسمت بكونها كبيرة بما يكفي لجذب انتباه رائد الأعمال، ولكنها ليست كبيرة جدًّا إلى حَدِّ استثارة ردود فِعل سلبية.
ربما يفقد بعضُ روَّاد الأعمال المتمرِّسين الحافزَ. وربما يُحجِم هؤلاء الروَّاد المتمرِّسون، الذين حقَّقوا نجاحًا سابقًا، عن بذل نفس القدر من الجهد والمخاطرة في إدارة شركات لاحقة. ويرجع هذا إلى أنهم جمعوا حاليًّا ثروةً شخصيةً كبيرة. وربما يُسفِر النجاحُ السابق أيضًا عن متلازمة النجاح، ووَهْمِ التحكم، والنقاط العمياء، والثقة المفرِطة. وربما لا يتمتع بعضُ روَّاد الأعمال المتمرِّسين، الذين لم يجمعوا الموارد الكافية، بالقدرة أو المرونة لاختيار الفرص المناسبة في المرة الثانية.
عندما لفظَت شركتنا العائلية أنفاسها الأخيرة، انتابت والدي مجموعةٌ من المشاعر المُقلِقة. كانت هناك حالةٌ من البلادة وعدم التصديق؛ لأن الشركة التي كان قد أسَّسها قبل حوالَي عشرين عامًا لم تَعُد «على قيد الحياة». كان هناك قدرٌ من مشاعر الغضب تجاه الاقتصاد والمنافسين والمدينين. وكانت هناك عاطفة أقوى من الغضب، ألا وهي الشعور بالذنب ولوم الذات: شعر والدي بالذنب لأنه تسبَّب في إخفاق الشركة؛ ولأنه لم يَعُد بإمكانه توريثها إلى أخي، ومن ثمَّ شعر أنه لم يُخفِق بصفته رجلَ أعمال فحسب، وإنما أيضًا بصفته أبًا. وتسبَّبت له هذه المشاعر في حالة من الضيق والقلق. وشعر بأن الموقف ميئوس منه، وصار مُنطويًا على نفسه، ومُكتئبًا أحيانًا. (شيبرد، عام ٢٠٠٣)
ربما يتجنَّب روَّاد الأعمال، الذين عانَوا إخفاقَ مشروع تجاري سابق ولكنهم عادوا إلى امتلاك مشروع تالٍ، خوضَ المخاطرِ أكثرَ من ذي قبل، وتتراجع قدرتهم على الابتكار بسبب الخوف من مزيدٍ من الإخفاق. ومن ناحية أخرى، إذا تعمَّد رائدُ الأعمال إغلاقَ مشروع أخفق في تلبية توقعاته أو إعادة تنظيمه، فمن الممكن أن تكون عملية التعلم الناتجة عن هذا النوع من الإخفاق أكثرَ إيجابيةً. ويمكن أيضًا أن تكون الدروس المستفادة من الإخفاقات الريادية مستقاة من أنماط سابقة من النجاح أو الفشل، أو من كليهما. وإذا كان إخفاق مشروع واحد هو حالة فردية بين سلسلةِ نجاحاتٍ، أو بين مجموعة متزامنة من المشروعات المغامرة الناجحة، فربما يكون تأثيره أقلَّ وطأةً على العمليات المعرفية لدى رائد الأعمال.
من ثَمَّ، لا تعتمد قيمةُ التجربة على المعرفة المكتسَبة وحسب، وإنما أيضًا على كيفية استغلال تلك المعرفة فيما بعد. ولا بد من الاستغلال الواعي للتجربة السابقة. يتعيَّن على روَّاد الأعمال أن يدركوا الوقتَ الذي يستوجب ضرورةَ التحوُّل عن معالجة المعلومات بناءً على الحَدْس المهني إلى معالجة المعلومات على نحوٍ أكثر منهجيةً لتوجيه عملية اتخاذ القرار. ويستطيع الخبراءُ إبداءَ درجةٍ أكبر من الوعي بمستوى عدم اليقين الذي تنطوي عليه عملية تحديد الفرص، وهم يتمتعون بالقدرة على التوفيق بين عملياتهم المعرفية والمهمة المسنَدة إليهم. ويتمتع روَّادُ الأعمال المتمرِّسون ذوو الخبرة بالقدرة على التحوُّل إلى روَّاد أعمال خبراء، ومع أن التجربة ضرورية فإنها ليست شرطًا كافيًا ليصبح رائدُ الأعمال خبيرًا.
لا نعرف كثيرًا عن التطبيق الأوسع نطاقًا للنظريات المعرفية المتعلقة بسلوك روَّاد الأعمال خارج الأوساط التجريبية المغلقة. ويوجد عددٌ قليل جدًّا من الدراسات المنهجية المشتملة على عيناتٍ مُمثِّلة لروَّاد أعمال حقيقيين تتضمَّن سيناريوهاتٍ سلوكية فعلية، وليس محتمَلة. بالإضافة إلى ذلك، ليست لدينا أدلةٌ دامغة وثابتة على المهارات المعرفية المحدَّدة التي يتعيَّن على الأفراد اكتسابها واستغلالها في مواضعَ بديلة على مدى عملية ريادة الأعمال. ولا نعرف هل يصبح جميعُ روَّاد الأعمال الذين يتعلَّمون من الإخفاق روَّادَ أعمال أفضل أم لا. وهذا موضوعٌ مهم. فربما تتَّسم السياساتُ الهادفة إلى تشجيع جميع روَّاد الأعمال الفاشلين على معاودة دخول مجال ملكية المشروعات، على أساس أنهم سيكونون قد تعلَّموا من تجاربهم السابقة، بكونها سياساتٍ مفرطة في التبسيط. ما ينقصنا معرفته أيضًا بخصوص السلوكيات الريادية هو أنه على الرغم من أن كثيرًا من المشروعات الريادية تؤسِّسها فِرقٌ، فإننا لا نعرف إلا قليلًا عن كيفية استخدام هذه الفِرق معًا للنماذج الذهنية المشتركة أو المعرفة المشتركة لاتخاذ قرار جماعي بشأن استغلال فرصة ريادية لاحقة وكيفية استغلالها.