المستقبَل
في البداية، أشَرنا إلى أن ريادة الأعمال تشهد عصرًا ذهبيًّا. وإذا كان العصر الذهبي لريادة الأعمال يتمثَّل في تركِ أثرٍ دائم على المجتمع، فلا بد إذن من معالجةِ عدةِ مشكلاتٍ ومواجهة عدة تحدياتٍ. ويجدُر بنا أن نذكُر هنا ضرورةَ مراعاة أن لريادة الأعمال أعباءً وأوجُهَ قصور فضلًا عن المزايا. ونُناقِش في الأجزاء الآتية هذه المسائل التي يجب مراعاتها في المستقبَل.
نمو الشركات
تتمثَّل إحدى المسائل المهمة المتعلقة بريادة الأعمال فيما إذا كانت الريادة تتوقَّف عند تأسيس الشركة أم إنها تستمر إلى ما هو أبعد من هذه النقطة. أوضحَت الفصولُ السابقة أنَّ ريادة الأعمال عمليةٌ تحدُث بمرور الوقت، ويمكن أن تستمر في الشركات القائمة بالفعل. إذ يحظى بعضُ الأشخاص بوظائفَ في مجال ريادة الأعمال، وبمرور الوقت يمتلكون عدةَ شركات. ولكي تقدِّم ريادة الأعمال إسهامًا إلى المجتمع، من المهم أن تذهب إلى ما هو أبعد من التركيز على تأسيس الشركات؛ فسرعان ما تغلق كثيرٌ من الشركات بعد تأسيسها كما هو موضَّح في الفصل الخامس. بل إن التأثير الأعظم يشمل معالجة المسائل المتعلقة بالكيفية التي يؤدي بها استغلال الفرصة إلى مشروعاتٍ مُتنامية ومُستدامة.
ومع أنَّ المناهج القائمة على خلق الفرص والارتجال تقدِّم توجيهاتٍ جديدة ومثيرة بخصوص الكيفية التي يمكن بها لروَّاد الأعمال تأسيسُ شركاتٍ جديدة في سياقاتٍ شحيحة الموارد، فإنها تقدِّم حاليًّا رؤًى محدودة فيما يخصُّ كيفيةَ انتقال الشركات الجديدة إلى معدَّل نمو مرتفع، وهي النتيجة التي تسعى إليها حاليًّا الحكوماتُ من مختلف أنحاء العالم المعنية بتشجيع التنمية الاقتصادية.
أكَّدت نتائجُ عدد مهول من الأبحاث التي تدرس الأسبابَ المحيطة بكيفية نمو الشركات، والأسباب التي تؤدي إلى نمو بعض الشركات الجديدة أكثرَ من غيرها، أهميةَ السِّمات الشخصية لرائد الأعمال، ومدى توافُر الموارد، والاستراتيجية التي تتبنَّاها الشركة، وسياق المجال، والهياكل التنظيمية والمنظومات المؤسسية. كان غالبية الاهتمام موجَّهًا نحو نمو الشركات من حيث التوظيف وإيرادات المبيعات. ورغم ذلك، وُجِّه اهتمامٌ محدود نحو ربحية الشركة واستمرارها، بالإضافة إلى المعايير الأوسع نطاقًا الخاصة بقيمة الشركة، بما فيها القيمة الاجتماعية (أي تكوين ثروة إجمالية، والتي قد تكون مالية أو غير مالية)، كما أوضحتها الشركات/المؤسسات الاجتماعية في الفصل السادس. علاوةً على ذلك، لم تجتذب المسألةُ المتعلِّقة بأداءِ رائد الأعمال نفسه، لا أداء الشركة، سوى قَدرٍ ضئيل من الاهتمام.
نسلِّط الضوءُ هنا على لُغزَين محدَّدين لم يُبَتَّ فيهما. والبتُّ في هذين اللغزَين من شأنه أن يُسهِم في زيادة المساهمة الاجتماعية لريادة الأعمال. وهذا التحدي وثيقُ الصلة بموضوعنا؛ نظرًا لأنه في وقت تأليف الكتاب (ربيع ٢٠١٣) كانت الحكومات في مختلف أنحاء العالم تُواجِه التحدي المتمثل في وضعِ سياساتٍ تشجِّع على النمو في بيئةٍ تُعاني قيودًا مالية شديدة وركودًا مزدوجًا.
يتعلق اللغز الأول بالسبب وراء وجود صلة ضعيفة فيما يبدو بين نمو المبيعات ونمو الإيرادات في الشركات الريادية. لا يُعَد هذان المعياران من معايير الأداء بديلَين عن الشيء نفسه؛ فانعدام الصلة يبرهن على أن العمليات الريادية المختلفة تعزِّز نمو الشركة. فعلى سبيل المثال، مع أننا قد نفكِّر عادةً في النمو من حيث بيع المنتَجات إلى المستهلِك النهائي في سوق المنتَجات، فهذه الرؤية قاصرة ومحدودة. وفي أسواق التكنولوجيا الفائقة على وجه الخصوص، قد يبيع روَّادُ الأعمال الذين يؤسِّسون شركةً جديدةً التكنولوجيا الخاصة بهم إلى شركاتٍ كبرى أخرى تعمل في مجالٍ ما، من خلال منْح الترخيص مثلًا. قد تمتلك هذه الشركات القائمة المواردَ التكميلية لتطوير التكنولوجيا إلى منتَجاتٍ نهائية من شأنها أن تتجاوز حدودَ رائد أعمال الشركة الناشئة. قد تركِّز الشركات الريادية الناشئة التي تعمل في قطاعات التكنولوجيا الفائقة أيضًا على بناء قيمة للتكنولوجيا الخاصة بها، كما أوضحنا في الفصل الثالث في حالة شركة «رينوفو». في هذه الحالة، يستطيع روَّادُ الأعمال أن يبتكروا قيمةً من خلال بيع مشروعهم إلى شركة قائمة بالفعل، أو طرحها في سوق الأوراق المالية، رغم أن بعض الشركات ربما لا تحقِّق إيراداتٍ من بيع المنتَجات إلى المستهلِك النهائي. فبدلًا من تنميةِ إمكانات الإنتاج والتسويق والقدرة على توليد إيرادات المبيعات بعد التأسيس مباشرةً، تُواجِه هذه الشركات تحدياتٍ أمام تأمين جولات التمويل لعبور مرحلة تُسمى ﺑ «وادي الموت». وهذه المرحلة فجوةٌ بين استغلال التمويل الأولي أو «استنفاده» وتوليد المزيد من التمويلات، إما من خلال إيرادات المبيعات وإما جولة ثانية من التمويل الخارجي. بالإضافة إلى ذلك، ربما تحتاج الشركات إلى تطوير استراتيجيات التدويل نظرًا لأن أسواقها أسواقٌ عالمية. هنا يجب على الشركات أن تحدِّد شركاء التحالف والمرشَّحين للاستحواذ، وتكوين علاقاتٍ مع الشركات القائمة التي قد تستحوذ عليها في النهاية.
أما عن اللغز الثاني، فإنه يتعلق بالسبب وراء تنوُّع أنماط النمو تنوُّعًا شديدًا. فعددٌ قليل نسبيًّا من الشركات الريادية يحقِّق معدَّل نمو قوي ومُستدام. تنمو بعض الشركات نموًّا سريعًا في البداية ثم تتلاشى. في حين أن شركاتٍ أخرى تُواجِه صعوباتٍ، ولكنها تتعافى لتصير شركاتٍ ناجحة. وأحد تفسيرات هذا أن روَّاد الأعمال يختلفون في قدراتهم على اكتشاف الفرص ذات احتمالية النمو المُستدام، وخلقها، وتقييمها، واستغلالها. كما يختلف روَّاد الأعمال من حيث ما يحفِّزهم نحو نمو الشركة. ورغم ذلك، ما زلنا لا نعرف لماذا يكون الحافز لدى بعض روَّاد الأعمال أكبرَ من غيرهم لنمو شركاتهم، أو لماذا يكون لديهم حافزٌ لنمو شركاتهم بطرقٍ مختلفة. وكما هو موضَّح في الفصل الخامس، فإننا نعرف الآن المزيد عن المعرفة الريادية، ولكن ما زلنا نحتاج إلى تفريغ «الصندوق الأسود» الخاص بعمليات المعرفة الريادية من خلال استكشاف الكيفية التي يتخذ بها روَّادُ الأعمال حقًّا القرارات المتعلقة بتنمية الشركات أو عدم تنميتها. ونظرًا لأن روَّاد الأعمال مضطرون باستمرار إلى فهْم المعلومات المُبهَمة والمتغيِّرة في ظل بيئةٍ خارجية متقلِّبة، ربما يكون الأشخاص ذوو الأسلوب الحَدْسي واللاخطي في اتخاذ القرارات أقدرَ على إدراك فرص النمو.
السياقات
في الفصل الرابع، ناقشنا كيف أن السياق الاجتماعي والجغرافي والمؤسسي يمكن أن يؤثِّر على أن يصبح شخصٌ ما رائدَ أعمال. ولكن الأبعاد السياقية تتخطى حدودَ الموقع الجغرافي أو الحيِّز المكاني داخل دولة أو مجال أو ظروف سوق بعينها. ولا بد أيضًا من فهْم احتمالية أن يصير المرءُ رائدَ أعمال أو احتمالية تنمية مشروعه فيما بعدُ في ضوء البُعد الزمني. فعلى مستوى الشركة، يرتبط هذا البُعد بمراحلَ معيَّنة من دورة حياة الشركة؛ أي ما إذا كان القطاع ناشئًا أم ناميًا أم في مرحلة النضج أم في مرحلة التدهور. بالإضافة إلى ذلك، يشتمل البُعد الزمني على المستوى الفردي الذي وصلَ إليه رائدُ الأعمال على صعيد حياته المهنية الريادية. وكما أوضحنا في الفصل الرابع، ربما تكون الوظائف الريادية في إطارِ شركة واحدة أو في إطارِ مشروعاتٍ مغامرة تُدار على نحوٍ تتابعي أو تزامني كمجموعة من المشروعات المتزامنة. والبُعد الزمني متعلق أيضًا بالسياق الوطني. على سبيل المثال، ربما تتعامل بعض الاقتصادات الناشئة والمتطوِّرة على نحوٍ أقل إلحاحًا مع ضرورة استغلال الفرص في الوقت المناسب. قد تختلف العمليات المعرفية وسلوك روَّاد الأعمال لحشد الموارد في الدول ذات الرؤية الأكثر إلحاحًا لاستغلال الوقت عن تلك الموجودة في الدول ذات المنظور الأكثر تساهُلًا، والتي عادةً ما تكون دولًا نامية، حيث يكون الاتصافُ بحُسن التنظيم وبدء العمل في الوقت المحدَّد وتسليمه في حينه مثالًا أكثرَ تفاوتًا. قد تكون لهذه الاختلافات آثارٌ كبرى محتمَلة على قدرة ريادة الأعمال على المساهمة في تكوين ثروة مجتمعية. وبدلًا من التركيز على الشركة، ينبغي فهْم رائد الأعمال باعتباره وحدةَ التحليل التي على أساسها تُفهَم المراحل الخاصة بعملية الريادة.
يلعب تشجيعُ ريادة الأعمال دورًا مهمًّا في تطوير الابتكار على المستوى الوطني. فعادةً ما تركِّز أنظمةُ الابتكار على إنشاء مؤسساتٍ تبتكر معرفةً جديدة وتنشرها عبْر الأبحاث الطويلة الأجل وبرامج التنمية، بينما كثيرًا ما يتم تجاهل ريادة الأعمال في حد ذاتها. في قطاعات التكنولوجيا ذات الوتيرة السريعة، ربما تكون هذه المناهج غيرَ كافية. يقول ويليام بومول إن الابتكار الريادي هو المصدر الحقيقي للميزة التنافسية الوطنية، ويتمثَّل التحدي في خلق سياقٍ تمكيني حيث يمكن للابتكار الريادي أن يزدهر. وربما تنطوي هذه البيئة على تحديدِ وابتكار وتعزيز نظام بيئي ريادي يتضمَّن تكوين علاقة بين روَّاد الأعمال وشركاتهم، وجامعاتهم، وشركاء المجال المحتمَلين والفعليين، والشركاء التجاريين، والمموِّلين، وجهات الدعم الحكومي. ويمثِّل هذا استقلالًا جذريًّا عن منظومات الابتكار القومية التقليدية والتكتلات الصناعية. ومن ثمَّ، بدلًا من التركيز على الشركات الريادية بمعزلٍ عن غيرها، يستوجب الأمر التركيزَ على دور النظام البيئي الريادي بأكمله، وعلى العمليات الخاصة بكيفية تطويره وتعزيزه وتطويعه واستدامته.
الانتشار والتحوُّل
لريادة الأعمال تطبيقٌ عملي أوسع نطاقًا من مجرد تأسيس شركة جديدة. ومن الملاحَظ، كما هو موضَّح في الفصل السادس، أنها قد تتضمَّن مجموعةَ أنماط مختلفة. على سبيل المثال، تتعلق ريادة الأعمال بريادة الأعمال الداخلية، وريادة الأعمال الاجتماعية، وريادة الأعمال في الشركات العائلية، وريادة الأعمال التي يمكن أن تنشأ من خلال التغيير في الملكية الناتجة عن استحواذٍ إداري.
يبدو أننا نشهد، عَقِب الأزمة المالية لعام ٢٠٠٨، إعادة تقييم مهمة لأهداف ريادة الأعمال. فبدلًا من التفكير من منطلق المكاسب المالية الخاصة البحتة، يمثِّل ظهورُ روَّاد الأعمال الاجتماعيين تطورًا جديدًا يلعب دورًا في سد الثغرات الموجودة في إمدادات الهيئات الرسمية في حِقبة تتَّسم بالقيود الشديدة المفروضة على الميزانية. ومن المثير للاهتمام أن عددًا كبيرًا من طلاب ماجستير إدارة الأعمال في كليات إدارة الأعمال الآن يُعِدُّون خُطط عمل للمشروعات الريادية الاجتماعية بدلًا من المشروعات الريادية التجارية البحتة.
تلعب ريادةُ الأعمال دورًا حيويًّا في إعادة تأهيل الجنود والمحاربين القدامى الذين انضموا إلى صفوف الجيش في أعقاب الحادي عشر من سبتمبر لعام ٢٠٠١، بالأخص أولئك الذين حالت إصابتهم دون عثورهم على وظيفةٍ عادية أو الاحتفاظ بها. ونجد مثالًا بارزًا على كيفية تسهيل ذلك في برنامج «أسرة بارنز التدريبي لريادة الأعمال لتأهيل المحاربين القدامى ذوي الإعاقات»، والذي بدأ في جامعة سيراكيوز عام ٢٠٠٧ في الولايات المتحدة الأمريكية. والآن، تتبنى جامعاتٌ أخرى من جميع أنحاء الولايات المتحدة هذه المبادرة، مثل «كلية مايز لإدارة الأعمال» بجامعة تكساس إيه آند إم، المعروفة سابقًا بجامعة تكساس للزراعة والميكانيكا. يقدِّم البرنامج تدريبًا متطورًا على المهارات الضرورية لنجاح إقامة مشروع جديد وتنميته من خلال دورة دراسية عبْر الإنترنت، وتجربة إقامة مكثَّفة، واثنَي عشر شهرًا من الدعم والتوجيه والإرشاد للمحاربين القدامى ذوي الإعاقة الناتجة عن الخدمة العسكرية متاحة مجانًا للمشاركين.
التصدي للفقر المُدقِع
وفقًا للبنك الدولي، يعيش ما يُقدَّر بنحو ١٫٥ مليار شخص في فقر مُدقِع، بمتوسط ١٫٢٥ دولار أو أقل للفرد يوميًّا. وعلى الرغم من أن الوكالات الدولية والحكومية الوطنية أسهمت لعقودٍ عديدة في تخفيف الأعباء الواقعة على كاهل مَن يعيشون في هذا الفقر المُدقِع، فثَمة اعترافٌ متزايد بأن هذا المنهج التنازلي للمساعدة من الأعلى إلى الأدنى في حد ذاته غيرُ كافٍ. وعملًا بالمَثل القائل «مَن تعطيه سمكة يأكل يومًا، ومن تعلِّمه الصيد يأكل دومًا»، فإننا نشهد طفرةً في المحاولات الرامية إلى تشجيع ريادة الأعمال على المستوى المحلي في الدول النامية.
ومع ذلك، يمثِّل هذا الفقر تحدياتٍ كبرى أمام ريادة الأعمال. وعلى مدار هذا الكتاب، أشرنا إلى أن السياق مهم، وأن عملية الريادة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالسياق. في العديد من الدول النامية، يعوق ضَعفُ المؤسسات الداعمة أو غيابها قدرةَ مَن يعانون الفقرَ على العمل كرُوَّاد أعمال. فعلى سبيل المثال، يهدُف برنامج «اقتحام آفاق الحَدِّ من الفقر» (سي إف بي آر)، الذي يقدِّمه المكتب غير الحكومي لمنظمة بناء الموارد عبْر المحيطات (بي آر إيه سي) في بنجلاديش، إلى التغلُّب على المشكلة المتمثِّلة في أن برامج التمويل المتناهي الصغر التقليدية لا تصل إلى أفقر الفقراء. أحدثَ التفاعُل بين هيكل السلطة القائم، والمؤسسات القديمة، والممارسات المؤسسية المستحدَثة مؤخَّرًا بخصوص التمويل المتناهي الصغر، صَدْعًا في السياق المؤسسي. وتمكَّنَت هذه المنظمة من رأبِ هذا الصدعِ من خلال الاعتماد على تجاربها الداخلية وشبكاتها التي تكوَّنت على مدار سنواتٍ عديدة من العمل في المناطق الريفية ببنجلاديش، وعلى الدروس المستفادة من السياق المؤسسي الخارجي من خلال الانخراط في ممارسات الدعم المعتادة القائمة لكلٍّ من الفقراء والمعتقدات الدينية والعروض المسرحية الشعبية.
وعلى الرغم من أنَّ هذه التطويرات هي تطويراتٌ قيِّمة بلا شك، فربما تكون قُدرتها على تأسيسِ شركاتٍ سريعة النمو مولِّدة لفرص عمل وثروة كبيرة على النطاق المحلي محدودةً. وظهور مثل هذه المشروعات المغامِرة ربما يستلزم انتظار ظهور نموذج أقوى للأُطر المؤسسية وأسواق عناصر الإنتاج. وقد يسهِّل هذا الأمر التطويرات الأساسية، مثل إنشاءِ مؤسساتٍ مالية كبرى، وتحقيق سيادة القانون، وإنفاذ العقود، وكذلك تطوير البِنى التحتية التي تسهِّل حشدَ الموارد وتوزيع السلع والخِدمات. ويتفاوت مدى التطوير الذي تُجريه الاقتصاداتُ الناشئة في مؤسساتها وأسواق عناصر الإنتاج الخاصة بها تفاوتًا شديدًا. لقد صارَ عددٌ متزايد من الدول دولًا ذات «اقتصاداتٍ متوسطة المدى»، تظهر عليها درجاتٌ متفاوتة من خصائص اقتصادات السوق المتقدِّمة. شهدت بولندا تطوُّرًا مؤسسيًّا كبيرًا منذ سقوط سور برلين، كما انضمَّت إلى الاتحاد الأوروبي. ولدى الهند مؤسساتٌ سياسية ديمقراطية قوية نسبيًّا، رغم أن بِنْيتها التحتية لا تزال ضعيفة نسبيًّا. ولقد نفَّذت تايلاند مشروعاتٍ كبرى للبنية التحتية، إلا أن عدم الاستقرار السياسي فيها صار مَدْعاة إلى القلق. أصبحت الشركات الريادية في هذه الدول في وضعٍ جيد على نحوٍ متزايد يؤهِّلها للمنافسة في الأسواق العالمية، ولكنها لا تزال بحاجة إلى دعم حكومات بلدانها لأنشطة التدويل الخاصة بها. وبدلًا من التنافس على أساس التكلفة المنخفضة، تتمتع بعضُ هذه الشركات الآن بالقدرة على اختراق الأسواق المتقدِّمة على أساس منتجاتها التكنولوجية الفائقة المتطوِّرة.
أشكال جديدة من التمويل
مع ظهور أشكال جديدة من ريادة الأعمال، نجد أنها ستمثِّل تحديًا للمفاهيم التقليدية للفجوة بين الاحتياجات المالية لشركات ريادة الأعمال ومصادر التمويل المتاحة. وثَمة تأثيرات مهمة على نحوٍ خاص للتطويرات الثورية في مجال التكنولوجيا. فشركات التكنولوجيا والشركات الإعلامية الجديدة تتحدَّى الدَّور التقليدي لرأس المال المُغامِر الأولي، بل تحلُّ محلَّه. فعلى سبيل المثال، سهَّلت تقنياتُ الهاتف المحمول وأدواتُ وسائل التواصل الاجتماعي وآلياتُ التمويل الجماعي من جمعِ وتوزيع مبالغَ صغيرة من رأس المال الأولي، أو التمويل المتناهي الصغر، من أفرادٍ يرغبون في الاستثمار في المشروعات الريادية المغامِرة أو يرغبون في إقراضها. ويمكن أن تلعب المعجِّلات المالية والمصانع الناشئة، مثل صندوق التمويل الأوروبي «سييدكامب»، دورًا مهمًّا في تمكين روَّاد الأعمال من اجتياز المراحل الأولى من التأسيس. والجدير بالذكر أنها يمكنها توفيرُ مبالغَ صغيرة أثناء مرحلةِ ما قبل التمويل الأولي في مقابل حصة الملكية وكذلك الدعم الأولي لتطوير المشروع.
يلعب التمويل المتناهي الصغر على نحوٍ متزايد دورًا رئيسيًّا في تشجيع وتنمية النشاط الريادي في الدول النامية. وهنا يوفر التمويل المتناهي الصغر لروَّاد الأعمال مبالغَ صغيرة من المال ربما يكون من المستحيل الحصولُ عليها في أي مكانٍ آخر في السياقات المرتبطة بأسواق رأس المال غير المطوَّر وغياب الثروة الشخصية.
وفي حين أن التمويل المتناهي الصِّغر ظهرَ على هيئة قروض لبدء المشاريع بلا ضماناتٍ لمَن يعانون الفقرَ، فإنه تطوَّر ليتخذ أشكالًا متنوِّعة من الإمكانات التمويلية القائمة على الاستدانة ونسبة من حصة المِلكية. تتنوَّع هذه المصادر للتمويل المتناهي الصِّغر وتشمل البنوك ومؤسسات الادخار والقروض، وصناديق الاستثمار الربحية، وشركات التأمين، وشركات تشغيل شبكات المحمول، وكذلك الأفراد الذين يقدِّمون قروضًا متناهية الصِّغر، سواءٌ من المموِّلين الملائكة أو المقرِضين العاديين. ويُعَدُّ العُمَّال المهاجرون من الدول النامية، الذين يرسلون جزءًا من أجورهم إلى أفراد أُسرهم في الوطن، أحدَ مصادر التمويل المتنامية. وبعض هذه المصادر مخصَّصة للمشروعات الهادفة للربح، والبعضُ الآخر مخصَّص للجمعيات الخيرية والمنظمات غير الهادفة للربح.
في الوقت الحالي، نحن بحاجة إلى معرفة المزيد عن أي شكل من أشكال التمويل المتناهي الصغر المستجَدة هي الأنسب والأكثر فاعلية في سياقاتٍ محدَّدة. فربما تختلف أشكال التمويل المتناهي الصغر الأكثر تأثيرًا في تشجيع روَّاد الأعمال المبتكرين في مجال التكنولوجيا الفائقة في اقتصادات الدول المتقدِّمة عن أشكال التمويل التي تدعم روَّادَ الأعمال للتخلص من الفقر المُدقِع في اقتصادات الدول النامية.
ليس لدينا أدلةٌ كافية فيما يخصُّ الأداء الأطول أجلًا لروَّاد الأعمال الذين يتلقَّون تمويلًا مُتناهيَ الصغر. ربما ييسِّر التمويلُ المتناهي الصغر تأسيسَ المشروع التجاري، ولكن ربما يكون محدودًا بدرجةٍ أكبر في مساعدة هذه الشركات على النمو وتوظيف سكان محليين آخرين يمكن انتشالهم من الفقر. يتمثل التحدي حينئذٍ في تطوير آلياتٍ يمكن أن تساعد في مَد جسور التنمية لتحويل هذه الشركات القائمة على التمويل المتناهي الصغر من كونها شركاتٍ ناشئة إلى شركاتٍ ذات نمو مُستدام. وكما نعرف من دراسات الدعم القائم على رأس المال المُغامِر المقدَّم لروَّاد الأعمال، فبالإضافة إلى التمويل، من الضروري أيضًا تقديمُ أشكال أخرى من الدعم إلى روَّاد الأعمال على هيئة مهاراتٍ ورأس مالٍ اجتماعيٍّ لتنمية المشروع بنجاح.
الجانب المُظلِم من ريادة الأعمال
إلى جانب هذه التطوُّرات الإيجابية المثيرة والجديدة التي تُحدِثها ريادةُ الأعمال، أحيانًا تُغفَل الجوانبُ السلبية أو تُتجاهل. تطرَّقنا في الفصل الأول إلى المسألة المتعلقة بارتفاع معدَّل إغلاق الشركات الجديدة من منظور الممارسين الذين يفترضون «هَدْمًا بنَّاءً». وعلى الرغم من أننا ربما نشهد عصرًا ذهبيًّا لريادة الأعمال في جميع أنحاء العالم فيما يخصُّ السياسات والأبحاث، فثَمة جانب مظلم لم ندرك أبعاده بالكامل بعد. ويبرُز وجهان محدَّدان لهذا الجانب المُظلِم.
أولًا، أوضحَ ويليام بومول أن من الممكن أن ينشأ جانبٌ مظلِم أو مدمِّر لريادة الأعمال من أوجُه القصور الموجودة في القواعد المؤسسية للُّعبة، والتي أتاحت، بل كافأت الفسادَ وريادة الأعمال غير القانونية. إذ ربما يستغل بعضُ روَّاد الأعمال ثروتهم لرشوة الساسة الذين سيحمون مصالحهم. وفي الفصل الأول، أوضحنا أن روَّاد الأعمال يمكن أن يوفِّروا عنصرَ المنافسة للشركات القائمة. ومع ذلك، قد يكون لهم تأثيرٌ سلبي من خلال استغلال ثروتهم لمنع الشركات المبتكَرة الجديدة من دخول المجال. ويمكنهم أيضًا تجنُّب المنافسة وعرقلة التقدُّم التكنولوجي وفوائده بالنسبة إلى المجتمع.
تشكِّل بعضُ الأنشطة الريادية الاقتصادَ غير الرسمي، الذي يمكن أن تكون له تَبِعاته الإيجابية والسلبية على حدٍّ سواء على المجتمع. وتشمل أنشطة الاقتصاد غير الرسمي شركاتٍ غير مسجَّلة تتهرَّب من ضرائب الشركات وتنتهك قوانين العمل، وشركاتٍ تبيع منتجاتٍ زائفة. وتشير التقديرات إلى أن الأنشطةَ غير الرسمية تشكِّل نسبةً تقع ما بين ١٠٪ و٢٠٪ من إجمالي الناتج المحلي في الاقتصادات الناضجة، ونسبة تصل إلى ٦٠٪ في الاقتصادات الناشئة. وربما تتَّسم الأنشطة الريادية غير الرسمية بكونها غيرَ قانونية، ولكنها تنشأ حين يَعُد جزءٌ كبيرٌ من المجتمع المؤسساتِ القانونيةَ الرسميةَ مُقيِّدةً أو فاسدةً للغاية لدرجةٍ يستحيل معها أن تكون شرعية. قد يتنافس روَّاد الأعمال غير الرسميين منافسةً غير عادلة مع الشركات الرسمية، ورغم ذلك قد يمكِّنون الشركات الرسمية من العمل بفاعلية في بعض الحالات.
قد يقود التصنيعُ السريع المقتصِر على بعض الأماكن في الدولة إلى الهجرة إلى المناطق الحضرية. وهذا قد يُسفِر عن اضطرار الكثيرين إلى العمل في اقتصادٍ غير رسمي من أجل العيش والاستمرار. تدفع الحاجةُ بعضَ الأشخاص ليصيروا روَّادَ أعمال غير رسميين. وهذا لأن ريادة الأعمال هي المصدر الوحيد للدخل بالنسبة إلى الأشخاص العاجزين عن إيجادِ وظيفة رسمية. وعادةً ما يواجه هؤلاء الروَّاد معوِّقات كبرى في الحصول على الموارد اللازمة لريادة الأعمال، وربما يستعينون بمواردَ أهملها الآخرون (لينخرطوا بذلك في منهج الارتجال الموضَّح في الفصل الثاني) بوصفها مدخلاتٍ في أنشطتهم (في كثير من الدول، مثل الهند، النُّفايات مثل إطارات السيارات القديمة يمكن استخدامها كوقود، أو السلع القابلة لإعادة التدوير يمكن استخراجها من مَكبَّات النُّفايات وبيعها).
يمكن أن تتسبَّب البيروقراطية المفرِطة في كلٍّ من الاقتصادات المتقدِّمة والاقتصادات الناشئة في تكاليفَ وعقبات كبيرة تُعيق ريادة الأعمال الرسمية. ففي الفصل الأول، لاحظنا أن ثَمة اختلافات واضحة بين الدول فيما يتعلق بسهولة تأسيس الشركات.
أما الوجه الثاني من الجانب المظلِم لريادة الأعمال، فيتعلق بالتأثير الشخصي. وفي مقابل المنافع الخاصة المتمثِّلة في جمع ثروة كبيرة من ريادة الأعمال، كثيرًا ما يُغَضُ الطرْفُ عن الأعباء والتكاليف التي تتكبَّدها الأسرة والحالة الصحية. وقد يتمثَّل الجانبُ السلبي لسمات رائد الأعمال الملتزم والراغب في العمل لساعاتٍ طويلة في تأثيرها السلبي على العلاقات الشخصية. قد لا يوجَد بعضُ روَّاد الأعمال بقدرٍ كافٍ للحفاظ على استمرار العلاقات، وهو ما قد يؤدي إلى الانفصال عن شريك الحياة والابتعاد عن الأولاد. وقد يخلُق التفكيرُ الأحادي المبني على الاعتقاد بما هو ضروري لإنجاح الشركة، صراعاتٍ وعدمَ رغبة في التعاون مع أفراد الأسرة. وربما تستفحل هذه التوتراتُ عندما يشارك أفرادُ الأسرة في إدارة شركة ريادية.
قد يؤدي فشلُ الشركات الريادية إلى تضخيم هذه الآثار على الحياة الشخصية والأسرية. وقد تُمثِّل خسارةُ المنازل المرهونة كضماناتٍ لقروض العمل عند إخفاق الشركة تحديًا كبيرًا أمام العلاقات الشخصية. وقد رأينا في الفصل الخامس كيف أن خسارة الشركة التي كان رائدُ الأعمال منخرِطًا فيها على نحوٍ وثيق يمكن أن تولِّد داخله مشاعرَ الحزن والاكتئاب. فقد يُقرِّر هؤلاءُ الروَّاد التوقُّف عن العمل في مجال ريادة الأعمال، وعدم العودة إلى هذا المجال مطلقًا إذا عجزوا عن تخطِّي هذه المشاعر. وقد يعزف أبناؤهم أيضًا عن العمل كروَّاد أعمال — مثل دين شيبيرد وأحد مؤلِّفي هذا الكتاب، اللذين صارا أستاذَي ريادة أعمال بالجامعات بدلًا من ذلك!
تبيِّن الأدلةُ المحدودة التي لدينا بخصوص التأثير السيئ للعمل كرائد أعمال أنَّ روَّاد الأعمال يسجِّلون مستوياتٍ أعلى من العُزلة الاجتماعية مقارنةً بكبار المديرين. إذ يعيش بعضُ روَّاد الأعمال حالةً من عدم الأمان، ليس فقط بخصوص وظائفهم وإنما بخصوص المستقبل أيضًا. علاوةً على ذلك، يسجِّل بعضُ روَّاد الأعمال نسبةً عالية من الصراعات والحوادث والأمراض ومستويات التوتر والإرهاق والإعياء والإنهاك.
ما الخطوة التالية؟
ثَمة توقعاتٌ كبيرة بخصوص قدرة روَّاد الأعمال على تقديم فوائد اقتصادية، بل ربما صارت هذه التوقعاتُ أكبرَ مما ينبغي. ففي حين أن بعض الشركات الريادية قد تحقِّق فوائدَ خاصة واجتماعية كبيرة، فإنَّ نِسب فشل الشركات عالية، ويمثِّل نمو الشركات تحدياتٍ كبرى. توجد سلبياتٌ كثيرة، وإيجابيات كذلك، ناتجة عن ريادة الأعمال. ويستلزم الأمر إيلاء قدرٍ أكبرَ من الانتباه إلى هذين الجانبَين من ريادة الأعمال بين صُنَّاع السياسات والمعلِّمين. لا بد أن تتخطَّى البرامجُ التعليمية ما هو أبعد من الدعوة إلى أفكار جديدة، وتعمل على توعية روَّاد الأعمال المحتمَلين بالمخاطر والصعوبات. وهذا لا يقوِّض أهميةَ ريادة الأعمال، وإنما يساعد في بناء ثقافة ريادية مُستدامة بدلًا من ثقافةٍ هشَّة تنهارُ وسط خيبات الأمل.