رسالة الشكر والكفر
أقبل عليَّ صاحبي مبتهجًا باسم الثغر، مشرق الوجه والنفس جميعًا، يقول: لقد جئتك بطرفة ما أشك في أنك ستنعم بها بالًا، وسترضى عنها كل الرضى، وستؤثرها على كثير من الطيبات في هذه الأيام التي تقلُّ فيها الطيبات.
قلت: وما ذاك؟ قال: كتاب مخطوط لم تعرفه المطبعة بعد. ظفرت به عند بعض الورَّاقين، وفيه رسائل مختلفة للجاحظ، وغير الجاحظ، من كتَّاب القرن الثالث والرابع للهجرة. ولم أكد أنظر فيه حتى بهرني، وسحرني، وكرهت أن أوثر نفسي بقراءته؛ فجئت أظهرك عليه، وأشركك في الاستمتاع به. ثم أخذ يقرأ علي منه رسالةً للجاحظ كتبها إلى محمد بن عبد الملك الزيات، وسماها «رسالة الشكر والكفر»، وابتدأها على هذا النحو:
رسالة الشكر والكفر
يسَّرك الله للخير، ويسَّر الخير على يديك، وهداك الله إلى الحق، وجعلك إلى الحق هاديًا، ودلَّك الله على الصواب، وجعلك على الصواب دليلًا، وعصمك الله من الشر الذي يُلقي بأصحابه إلى التهلكة، وجنبك الباطل الذي يوفي بأهله على النار، وحماك من الخطأ الذي يورط أهله في الحيرة، ويشرف بهم على الزيغ، وألهمك الله شكر النعمة، فإنه تمام المروءة، وكمال الرجولة، وسبيل الاستزادة من الخير، وآية الارتفاع عن النقص، والتنزُّه عما يجعل الرجل نذلًا فسلًا، وخسيسًا لئيمًا. ولهذا أخبر الله — عز وجل — بقلة الشاكرين للنعمة الذاكرين للعرف، فقال: اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ۚ وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ. والله — عز وجل — يريد لعباده الخير، ويأبى لهم الشر، ويدعوهم إلى أن يرتفعوا عن النقائص، ويتنزَّهوا عن الصغائر، فهو يذكرهم بنعمه عليهم، وآلائه فيهم، ويأمرهم ألا ينسوا ما يهدي إليهم من فضل، ويسدي إليهم من معروف، وينذرهم بالعقاب الشديد، والعذاب الأليم إن كفروا النعمة أو جحدوا الصنيعة. يعجل لهم العذاب في الدنيا، ويؤجل لهم العذاب في الآخرة؛ ولهذا قال عز وجل في سبأ: ذَٰلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا ۖ وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ، وقال في أهل مكة كما روي عن ابن عباس: وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ.
وقد أدَّب الله رسله المكرمين، وأنبياءه المعصومين بهذا الأدب فجعلهم حراصًا على الشكر، أباة للكفر لا يمسهم جناح رحمة إلا شكروا، ولا تنزل بهم النائبات إلا صبروا عليها، وشكروا لله إلهامهم الصبر، وتمكينهم من الاحتمال؛ ولذلك قال عز وجل على لسان سليمان — عليه السلام — لمَّا سخر له الريح، والجن، وعلمه منطق الطير، والحيوان: رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ.
ومن تمام الشكر لله وليِّ كل نعمة، والمبتدئ بكل إحسان؛ الشكر للمنعم من الناس، والقيام بمكافأته بما أمكن من قول وفعل؛ لأن الله تبارك وتعالى نظم الشكر له بالشكر لذي النعمة من خلقه، وأبى أن يقبلهما إلا معًا لأن أحدهما دليل على الآخر، وموصول به، فمن ضيَّع شكر ذي نعمة من الخلق فأمر الله ضيَّع، وبشهادته استخف. ولقد جاء بذلك الخبر عن الطاهر الصادق ﷺ فقال: «من لم يشكر الناس لم يشكر الله.» ولعمري إن ذلك لموجود في الفطرة قائم في العقل؛ أنَّ من كفر نعم الخلق كان لنعم الله أكفر؛ لأن الخلق يعطي بعضهم بعضًا بالكلفة والمشقة، وثقل العطية على القلوب، والله يعطي بلا كلفة. ولهذه العلة جمع بين الشكر له، والشكر لذوي النعم من خلقه.
وقد أدَّب رسول الله ﷺ أصحابه بهذا الأدب، وفقههم في هذا النحو من العلم، فضرب لهم فيه الأمثال الرائعة، وعلَّمهم فيه الحكمة البالغة. وقد روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إنَّ ثلاثة من بني إسرائيل أبرص، وأعمى، وأقرع بدا لله — عز وجل — أن يبتليهم؛ فبعث إليهم ملكًا فأتى الأبرص، فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال لونٌ حسن، وجلد حسن، قد قذرني الناس. قال فمسَّه فذهب عنه فأعطي لونًا حسنًا، وجلدًا حسنًا. فقال: أي المال أحب إليك؟ قال: الإبل. فأعطي ناقةً عشراء، فقال: يبارك لك فيها. وأتى الأقرع، فقال: أي شيء أحب إليك؟ فقال: شعر حسن، ويذهب مني هذا، قد قذرني الناس. قال فمسحه فذهب، وأعطي شعرًا حسنًا. قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: البقر. قال فأعطاه بقرةً حاملًا، وقال: يبارك لك فيها. وأتى الأعمى، فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: يرد الله إليَّ بصري فأبصر به الناس. قال فمسحه فردَّ الله إليه بصره. قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الغنم، فأعطاه شاةً والدًا، فأنتج هذان، وولد هذا فكان لهذا واد من إبل، ولهذا واد من بقر، ولهذا واد من الغنم.
ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته، فقال: رجل مسكين تقطَّعت بي الجبال في سفري فلا بلاغ اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن، والجلد الحسن، والمال؛ بعيرًا أتبلغ عليه في سفري، فقال له: إن الحقوق كثيرة. فقال له: كأني أعرفك، ألم تكن أبرص يقذرك الناس، فقيرًا فأعطاك الله؟ فقال: لقد ورثت لكابر عن كابر. فقال: إن كنت كاذبًا فصيرك الله إلى ما كنت.
وأتى الأقرع في صورته، وهيئته فقال له مثل ما قال لهذا. فرد عليه مثل ما رد عليه هذا. فقال: إن كنت كاذبًا فصيرك الله إلى ما كنت. وأتى الأعمى في صورته فقال: رجل مسكين، وابن سبيل، وتقطعت بي الجبال في سفري فلا بلاغ اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي رد عليك بصرك شاة؛ أتبلغ بها في سفري. فقال: كنت أعمى فرد الله بصري، وفقيرًا فقد أغناني، فخذ ما شئت، فوالله لا أجهدك اليوم بشيء أخذته لله. فقال: أمسك مالك فإنما ابتليتم، فقد رضى الله عنك، وسخط على صاحبيك.»
والشاكرون للنعمة بعد ذلك يختلفون، فمنهم من يرى شكر المنعم من الناس حقًّا يجب أن يؤدى، ولكنه يُؤدَّى على الكره والمشقة، وتتعرض النفس فيه لما لا تحب، وتؤثر ألا تتلقى النعمة من أحد، فلا تحتاج إلى الشكر والاعتراف باليد المهداة.
ولما أعان بعض المشركين أبا سفيان يوم أحد فأنجاه من حنظلة بن أبي عامر، وقد كاد حنظلة يقتله، قال أبو سفيان:
أراد أنه خُيِّر بين خزي الفرار — وكان رئيس القوم — وبين الصبر، حتى أنقذه ابن شعوب؛ فاضطر إلى أن يعرف له النعمة، ويشكر له الصنيعة، على ما في ذلك من المشقة والكلفة.
ومنهم من يرى في الشكر لذة، وفي الكفر ألمًا، فهو ينأى بنفسه عن ألم الكفر، وما يورث من نقص المروءة، وهو يمعن في الشكر، ويغالي بالنعمة التي أسديت إليه.
وقد قال العباس الصولي يشكر عمرًا بن مسعدة:
وقال بعض الحكماء: إذا استطاع الرجل الحر ألا يدينه أحد بنعمة يسديها إليه أو صنيعة يصطنعها عنده فليفعل، فإن شكر النعمة شيء لا يطيقه إلا أولو العزم. وقال أزدشير: الدَّين على ضربين؛ أحدهما يمكن أداؤه في غير زيادة، ولا نقص، وهو دين المال الذي تقترضه من الذهب، والفضة، والعروض، والثاني لا سبيل إلى أدائه مهما تفعل، ومهما تبذل، وهو دين النعمة المسداة، والصنيعة المهداة؛ لأن المعاني لا تقوَّم بالثمن، ولا تحدد بالكيل والوزن والعدد. قال أبو إسحاق النظام: فإذا أديت إلى دائنك ما أقرضك من ذهب أو فضة أو عرض، فقد أديت أخفَّ الدينين حملًا، وأيسرهما مئونةً، وبقى في عنقك دين آخر لن تؤديه إلا بالشكر المتصل، والوفاء الدائم، والثناء الذي لا ينقضي. والهزل في هذا الباب — جعلت فداك — متصل بالجد؛ فحياة الناس في جميع أبوابها، وألوانها قد وصل فيها الهزل بالجد، والحق بالباطل، والحزامة الصارمة بالدعابة الحلوة، والفكاهة المسلية.
وكان لنا صديق يعرف بأبي الرمل، لم أرَ أجمل منه وجهًا، ولا أحسن منه منظرًا، ولا أحلى منه حديثًا، ولا أزكى منه ذكاءً، ولا أزكن منه زكانةً، ولا أنفذ منه بصيرةً، ولا أدقَّ منه فطنةً، ولا أصفى منه ذهنًا، وكان مع ذلك من أكفر الناس للنعمة، وأجحدهم للصنيعة، وأنساهم للمعروف، وأعقِّهم للصديق، وأشدهم إنكارًا لحق الولي، والتواءً بدين المحسن إليه. وقد سمعني أيام كنت أملي على أصحابنا فصولًا من كتاب الحيوان في الجن، والغول، وفي السعلاة، والعفاريت، وما قالت العرب في ذلك من الجد، والهزل، ومن الصدق، والكذب، ومن الصحيح، والمحال، فكان يظهر الرضى بما يسمع، والارتياح له. ثم افتقدناه أيامًا، فلما سألت عنه بعض أصحابنا أُخبرت أنه مريض، قد ألزمته العلة داره، فرأيت عيادته عليَّ حقًّا، وزيارته من بعض ما تفرضه العِشرة المتصلة، والمخالطة الطويلة. فسعيت إليه مع أصحابنا، فلم أكد أراه حتى أنكرت من أمره كل شيء. فقد رأيت رجلًا غيرته العلة، وأنهكه المرض، حتى ذهبت نضرته، وذوت زهرته، واستحال جماله قبحًا قبيحًا، وصار إلى شر ما كان يكره له الصديق، ويتمنى له العدو. فلما سألته عن أصل علته، قال: ويحك أبا عثمان عفا الله عنك — وما أراه يفعل — فأنت أصل علتي، ومصدر بلائي، وأنت الذي جرَّ عليَّ المحنة، وصبَّ علي النقمة، وملأ قلب الصديق — وما أقلهم — علي إشفاقًا، وأفعم قلب العدو — وما أكثرهم — بي شماتة، فلولا ما حدثتنا به من أخبار الجان، والعفاريت، والغيلان والسعالي لما أصابني شر، ولا نزل بي مكروه. قلت: وما ذاك أبا الرمل! قال لقد أطلت التفكير فيما سمعت منك، وأكثرت إعادته، والحفظ له حتى شُغلت به عن كل لون من ألوان العلم، وعن كل ضرب من ضروب المعرفة، وعن كل فن من فنون الحكمة.
ودفعت ذات يوم إلى البادية لا أعرف لذلك سببًا إلا إني كنت أحدث نفسي بأني قد ألقى فيها من الأعراب من يحدثني بمثل حديثك عن الجن، والغول. وإني لفي بعض الطريق في الصحراء، وقد ارتفع الضحى، وامتلأت الأرض حرًّا، ونورًا، وترقرق الآل على الكثبان من بعيد … وإذا امرأة تعرض لي لم أر أحسن منها حسنًا، ولا أبرع منها جمالًا، ولا أملح منها قدًّا، وقد اتخذت زي نساء البادية، وتزينت بزينتهن، فأسألها من هي فتنبئني ضاحكةً بأنها هي التي خرجت ألتمس الحديث عنها. قلت مرتاعًا: يا هذه، أوضحي ما تقولين، فإني لا أفهم عنك منذ اليوم! قالت: ألم تخرج ملتمسًا لأنباء الغول متتبعًا لأحاديثها؟ قلت: ومن أنبأك بذلك؟ قالت متضاحكةً: ويحك أيها الرجل! ألم تعلم أننا نتصور فيما شاء الله من الصور، وأنَّا نخالط الناس فنسمع منهم، ونتحدث إليهم، ونشاركهم فيما يأتون، وما يدعون من الأمر، نراهم إن شئنا، ولا يروننا، ونسمعهم إن أحببنا، ولا يسمعوننا، ثم ننصرف عنهم إلى ديارنا، والأرض كلها لنا دار، فإني قد سمعتُ من صاحبك مثل ما سمعتَ من أخبارنا، وأحاديثنا، فأنكرت منه ما أنكرت، وعرفت منه ما عرفت ورأيتك بهذا الحديث معنيًّا، وله حافظًا، وعليه مقبلًا، فعلمت أنك قد خلقت للجن، والغول، ولم تخلق للناس الذين تعيش معهم، وتضطرب بينهم فلزمتك مصبحًا وممسيًّا، ورافقتك غاديًا ورائحًا، وراقبتك يقظان ونائمًا، حتى إذا غدوت اليوم لما غدوت له رأيت أن قد بلغ الكتاب أجله، وانتهى أمرك إلى مدته، وآن أن تبلغ ما أنت ميسر له من عشرة الجن والغول، فتراءيت لك ثم أقبلت عليك، ثم إني لن أفارقك منذ اليوم، فستكون لي رفيقًا، سواء أرضيت عن ذلك أم سخطت عليه.
وقد ولَّيت عنها مدبرًا، وعدت إلى داري مسرعًا، ولكني لم أخطُ خطوةً إلا رأيتها تخطو معي مثلها، وحديثها إلي متصل لا ينقطع، وإذا هي تلزمني لزوم الظل، وإذا هي تبلغ معي هذه الدار، وتقوم بيني وبين أهلي وولدي، لا أقول لهم شيئًا إلا ردته علي، ولا يقولون لي شيئًا إلا ردَّت عليَّ غيره، ثم هي تتشكَّل لي في أشكال مختلفة، وتتلون لي في ألوان متباينة، فإذا أحسَّت مني إنكارًا لبعض ما أرى من أمرها قالت بصوت كأنه صوت الشياطين:
قال أبو الرمل: فأنت كما ترى أصل علتي، والحق عليك أن تجد لي منها مخرجًا، وتلتمس لي منها شفاءً. ولم يكد يبلغ هذا الموضع من حديثه حتى ارتعنا جميعًا، وأخذنا خوف أي خوف، فقد سمعنا صوتًا يأتي من بعض نواحي الحجرة نسمعه، ولا نرى مصدره، وهو يقول: هيهات هيهات أبا الرمل لن يجد لك أبو عثمان من ضيقك مخرجًا، ولن ينتهي بك من علتك إلى شفاء إلا أن تتغير نفسك فتصبح شاكرةً للنعمة، عارفةً للصنيعة، وهي قد فطرت على الكفر والجحود. وقد خرجنا من عند أبي الرمل، وليس منا إلا من يتلو: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَٰهِ النَّاسِ * مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ.
قلت لصاحبي: أجادٌّ أنت في إضافة هذا الكلام إلى الجاحظ؟ قال، وهو يغرق في الضحك: ما أكثر ما أضاف الجاحظ إلى الناس ما لم يقولوا؛ فما يمنعني أن أضيف إليه ما لم يقل …!