كما أنت
كما أنت أيها الصديق الكريم، لا تقم إن كنت قاعدًا، ولا تقعد إن كنت قائمًا، ولا تتحول عن مكانك إلى يمين أو شمال، ولا ترجع إلى وراء، وإنما امضِ إلى أمام إن أحببت المضي، فإنما هو كلام يقال في كل عصر، وفي كل جيل … قلناه حين كنا شبابًا، فلم نغير مما كان حولنا شيئًا بالقول، ويقوله الشباب لنا الآن، فلا يغيرون مما حولهم شيئًا بالقول، وسيبلغون في يوم من الأيام ما بلغنا من السن، وسيصلون إلى ما وصلنا إليه من المنازل، وسيقول لهم أبناؤهم وأحفادهم مثل ما يقولون لنا الآن، ومثل ما قلنا نحن لآبائنا وأجدادنا من قبل، فلا يغيرون شيئًا بالقول، كما لم نغير نحن شيئًا؛ لأن تغيير الأشياء لا يكون بالكلام الذي يقال عن إخلاص أو عن تكلف، وعن تفكير أو عن اندفاع، وإنما يكون بالعمل الذي ينقل الأشياء من طور إلى طور، ويضعها إلى حيث يجب أن تكون.
كما أنت إذن أيها الصديق الكريم، لا تغير من حياتك، ولا من سيرتك شيئًا، بل لا تغير من رأيك في الأحياء والأشياء إلا أن يدعوك التفكير، وتضطرك الأحداث، وطبيعة الحياة إلى أن تغير من رأيك قليلًا أو كثيرًا.
•••
كما أنت لا تُزل عن ثغرك هذه الابتسامة السمحة التي ألفتَ أن تلقى بها الناس، وما يختلف عليهم من الأطوار، وما يلم من الخطوب، ولا تُلق عن وجهك هذا القناع المشرق الوضاء الذي يزيده العزم إشراقًا، والحزم وضاءةً، والذي تلقى به المصاعب مجاهدًا لها حتى تقهرها، وتظهر عليها.
ما أكثر ما كان يقال لك مما تحب، ومما لا تحب، وما أكثر ما كنت تسمع لهذا وذاك، فلا تنحرف عن طريقك حتى تبلغ الغاية، ولا تنصرف عما تممت عليه حتى تنتهي منه إلى ما كنت تريد، فما ينبغي أن تنال الألفاظ منك في هذه الأيام ما لم تكن تستطيع أن تناله فيما مضى من الأيام، إلا أن يكون الضعف قد أصابك، والهرم قد بلغ منك، فأنت حينئذ مضطر إلى أن تريح وتستريح، لا لأن هؤلاء النفر أو أولئك تقدموا إليك في أن تريح وتستريح، بل لأن طبيعة الحياة نفسها هي التي تفرض عليك أن تريح وتستريح.
متى رأيت الشباب يحبون المهل، ويصطنعون الأناة، ويأخذون أنفسهم بالرفق؟ ذلك لا يوافق طبائعهم، ولا يلائم غرائزهم، ولا يتأتى لأمزجتهم.
•••
وقد علَّمنا أرسطاطاليس، منذ أربعة وعشرين قرنًا، أن الاندفاع أخص خصائص الشباب، والخير كل الخير في أن يندفع الشباب، ولا يستأنوا، وفي أن يتحمسوا، ولا يفتروا، وفي أن يغامروا، ولا يحاذروا، وفي أن يتعجلوا، ولا يتمهلوا، بغير هذا لا تستقيم للناس حياتهم، ولا تصلح لهم أمورهم. وقد أنبأنا بيريكليس منذ خمسة وعشرين قرنًا بأن الشباب ربيع الحياة، ومتى رأيت الربيع يستأني في نشر جماله على الأرض؟ ومتى رأيت الربيع يتمهل في إشاعة الحياة والحرارة والنشاط في الطبيعة؟ ومتى رأيت زهر الربيع يتردد قبل أن يتفتح؟ ومتى رأيت الأغصان الخضر تؤامر نفسها قبل أن تطاوع النسيم حين يريد أن يعابثها فتعابثه، وأن يميل بها فتميل معه حيث يميل؟ إنما يقدم الربيع فجأة على رغم ما يوقت له من المواعيد في المراصد والتقاويم. تصبح ذات يوم أو تمسي ذات يوم، فإذا الحياة قد اندفعت في هذه القطعة من الروض فملأتها قوةً وفتوةً ونموًّا، ونشرت عليها زينةً وجمالًا لم نكن نقدرهما قبل ذلك بأيام، بل قبل ذلك بساعات، كذلك الحياة كلها تندفع في إبان الاندفاع، وتستأني في إبان الأناة، ثم يسعى إليها الفتور أو تسعى هي إلى الفتور فيدركها الذواء الذي لا يبقي منها إلا ذماء يسيرًا ثم يصيبها الذبول، ثم يلم بها الحدث الأعظم الذي يجعلها هشيمًا تذروه الرياح. ونحن نرى ذلك كله يجري على سجيته، ويمضي على أذلاله، لا نستطيع أن نغير قوانينه، ولا أن نقدم أو نؤخر شيئًا منه عن موعده المقسوم له. ونحن نبتهج للربيع حين يقبل، ونكتئب للصيف حين يلمُّ، ونبتئس للخريف حين ينثر من حولنا الأوراق، ونستخفي من الشتاء حين يملأ الجو والأرض من حولنا بردًا تنكمش له النفوس، وتقشعر له الأجسام، ولكن ابتهاجنا، واكتئابنا، وابتئاسنا، واستخفاءنا لا يغير من مجرى الفصول شيئًا. ولو استمع الصيف للربيع لما أقبل، ولو استمع الربيع للشتاء لما ملأ الأرض بهجة وجمالًا. فدع الشباب، وما يقولون، وامض أنت لما يسرت له حتى تضطرب الحياة إلى الهدوء ثم إلى الوقوف ثم إلى السكون، والهمود.
كما أنت أيها الصديق الكريم، لا تتحول عن طريقك؛ فإن الحياة لم تحصر في طريق واحدة ضيقة، وإنما انبسطت أمامها طرق لا تحصى، وهي قادرة على أن تسع الأحياء جميعًا. والحياة العقلية خاصة أوسع جدًّا مما يظن المثقفون، والمفكرون، والمنتجون في العلم والأدب والفن. وقد أفهم أن يقول حزب سياسي لحزب سياسي: تنحَّ لي عن طريق الحكم، وانزل عن مناصبه، فأنا أحق بها، وأقدر على تدبيرها منك، ولكن الحكم ليس هو الحياة، وإنما هو فرع ضئيل جدًّا من فروع الحياة، ولعله أن يكون أشدها ضآلة، وأهونها شأنًا، وأقلها خطرًا، ولكن الشيء الذي لم أفهمه، ولن أفهمه؛ لأن أحدًا لم يستطع قط أن يفهمه، هو أن يقول جيل من المفكرين لجيل آخر من المفكرين: كفُّوا عقولكم عن التفكير والإنتاج؛ لأستطيع أنا أن أفكر وأنتج، وأن يقول جيل من الفنانين لجيل من الفنانين: كفوا عيونكم عن أن ترى لأنها قد رأت ما يكفيها، وكفوا قلوبكم عن أن تشعر؛ لأنها قد شعرت بما أطاقت أن تشعر به، وكفوا ملكاتكم عن أن تنتج لأنها قد أنتجت ما وسعها الإنتاج، وأفسحوا لي حتى أستأثر من دونكم بإحساس الجمال، والشعور بدقائقه، وتصويره، كما أستطيع أن أصوره أو كما أحب أن أصوره. هذا شيء لم أفهمه قط، ولن أفهمه آخر الدهر، فليس إلى فهمه من سبيل؛ فالكون، وما فيه من حقائق، ودقائق، ومن جمال وقبح، لم يخلق لجيل من الناس دون جيل، ولم يوقف على فريق منهم دون فريق، وهو لا يتحدث، ولا ينبغي أن يتحدث إلى بيئة منهم دون بيئة، ولا أن يظهر روائعه للشيوخ من دون الشباب، ولا للشباب من دون الشيوخ. وإنما هو يتحدث إلى من يريد أو إلى من يستطيع أن يسمع له، ويفهم عنه، وهو يوحي إلى من يريد أو يستطيع أن يتلقى عنه الوحي. وهو يعرض جماله وقبحه لمن يريد أو يستطيع أن يرى الجمال فيقبل عليه، ويدعو إليه، وأن يرى القبح فيصد عنه، ويزهد فيه.
•••
إنما الكون آية لمن كان له قلب، أو ألقى السمع، وهو شهيد. والله لم يخلق القلوب في صدور الشيوخ وحدهم، ولا في صدور الشباب وحدهم، ولم يجعل السمع في آذان هؤلاء من دون أولئك، أو أولئك من دون هؤلاء. وما أعرف شيئًا يستطيع أن يسع الناس جميعًا كهذه الأشياء التي تتصل بالعقول والقلوب، وما تنتج من آيات المعرفة والفن. والناس يتزدحمون، ويتدافعون بالأيدي والمناكب، ويؤذي بعضهم بعضًا بهذا الازدحام، والتدافع حول مناصب الحكم، ومصادر الرزق، وموارد المال، فجائز أن يقول فريق منهم لفريق؛ دع لي مكانك، وأفسح لي الطريق، وجائز أن يُكره فريق منهم فريقًا على أن يدع له مكانه، ويفسح له الطريق، فأما العلم والأدب والفلسفة والفن، فإنها ميسرة لمن أرادها، واستطاع السبيل إليها، وكان لها ميسرًا، وبها موكلًا، وعليها قادرًا، فلا سبيل إلى الازدحام عليها، ولا التدافع إليها بالأيدي والمناكب؛ لأنها تسع الناس جميعًا.
•••
وإذن فما قول الشباب للشيوخ أفسحوا لنا الطريق إلى الأدب، أو أفسحوا لنا الطريق إلى العلم، أو أفسحوا لنا الطريق إلى الفن؟ فإن الشيوخ فيما أعلم لا يصدُّون الشباب عن أدب أو علم أو فن، وإنما يدعونهم إليه دعاء فيه كثير من الإلحاح. أليس من الممكن أن يكون الشيء الذي ينفسه الشباب على الشيوخ ليس هو الأدب أو العلم أو الفن، وإنما هو ما قد ينتجه الأدب والعلم والفن من إقبال الناس على الشيوخ أكثر مما يقبلون على الشباب؟ وإذن فالأمر ينتهي إلى ازدحام حول أعراض الحياة الباطلة، وأغراضها المادية الزهيدة؛ حول الشهرة، وبعد الصيت، وما قد تتيح الشهرة، وبعد الصيت من مال قليل أو كثير حول غرور الدنيا، وزخرف الحياة. فيا لها من غاية هنية رخيصة! لا ينبغي أن يكون حولها ازدحام، ولا أن يكون إليها تدافع، ولا أن تتقطع من أجلها الأعناق، ولا أن تتمزق في سبيلها القلوب. ومن حق الشباب على الشيوخ أن يؤدبوهم بما ينبغي أن يؤدب المجربون به من لا حظ لهم من تجربة، وأن يعلموهم أنَّ الشهرة لا تكتسب لأنك تريد اكتسابها. فإذا اكتسبت لذلك فليست هي إلا هباءً، وأنَّ المال لا ينبغي أن يؤخذ بغير حقه، فإذا أُخذ بغير حقه فذلك هو الغصب، وما يشبه الغصب مما لا يليق بالرجل الكريم. وإن غرور الدنيا، وزخرف الحياة باطل لا معنى للتهالك عليه، ولا للتنافس فيه، إلا أن تفسد القلوب، وتصغر النفوس، وتقصر الهمم، وتفتر العزائم. وإن الرجل الكريم خليق أن يعمل ويعمل، ويشق على نفسه بالعمل حين يصبح، وحين يمسي، وحين يضطرب مع الناس، وحين يخلو إلى نفسه، وأكاد أملي، وحين يستسلم إلى النوم.
•••
فالعمل وحده هو الذي يستطيع أن يرضي القلب الذكي، ويقنع النفس الكبيرة، ويزيد البصيرة نفوذًا إلى نفوذ، والعزيمة مضاءً إلى مضاء، وهنالك تسعى الشهرة إلى العاملين، وهم أشد ما يكونون زهدًا فيها، وإعراضًا عنها، ويسعى المال إلى العاملين، وهم أشد ما يكونون ابتذالًا له، واستهزاء به. وما أقل ما يسعى المال إلى أصحاب الجد، وإنما المال موكل بقوم آخرين ليسوا من العمل، ولا من الجد في شيء، وليسوا من الأدب، ولا من العلم، ولا من الفلسفة، ولا من الفن في شيء؛ إلا قليلًا من الذين يحققون القاعدة، ولا يهدمونها.
•••
نعم، ومن حق الشباب على الشيوخ أن يؤدبوهم بهذا الأدب اليسير الذي توارثته الأجيال، وتناقلته العصور، وهو أن السلامة في الأناة، وأن الندامة في العجلة، وأن الحياة أشبه شيء بالنهر يجري، ولكن إلى غاية ينتهي عندها حين يصب في البحر العظيم فيصبح ماء من الماء، وإن مياه هذا النهر قد أريد لها أن يجري بعضها أمام بعض، لا يتأخر المتقدم منها على المتأخر، ولا يتقدم المتأخر منها على المتقدم، وإنما يجري بعضها إلى الغاية في إثر بعض. فالشيوخ في طريقهم إلى الراحة الموقوتة أو الدائمة ليس في ذلك شك، وليس عن ذلك محيص، والشباب في طريقهم إلى أن يأخذوا مكان الشيوخ ليس من ذلك بد، وليس عن ذلك متحول، والذوق كل الذوق ألا يتعجل الأبناء مصارع الآباء، فمصارعهم محتومة لا مفر منها، والخير كل الخير أن تقوم الصلات بين الأجيال على المودة والحب، وعلى التعاطف والبر، لا على هذا التنافس الذي يُحفظ القلوب، ويفسد الضمائر، ولا يغير من حقائق الحياة شيئًا.
•••
كما أنت أيها الصديق الكريم، لا تقم إن كنت قاعدًا، ولا تقعد إن كنت قائمًا، ولا ترجع إلى وراء، ولا تنحرف إلى يمين أو إلى شمال، وإنما امض أمامك حازمًا عازمًا ثابت الخطو، والتفت بين حين وحين إلى الشباب مهديًا إليهم ابتسام ثغرك، وإشراق وجهك، وعطف قلبك، وصفاء نفسك، وأشر إليهم بين حين وحين؛ أن أسرعوا، ولا تبطئوا فليس أشد خطرًا على الشباب من التثاقل، والإبطاء.