الوشاية والوشاة
هداك الله إلى الرشد، وجعلك إلى الرشد هاديًا، وللحق داعيًا. وحماك الله من الغي، وجعلك من الغي حاميًا، وعن الإثم ناهيًا. ودلك الله على الخير، وجعلك على الخير دليلًا، وبالبر كفيلًا، وعصمك الله من الشر، وجعلك من الشر عاصمًا، وللفتنة حاسمًا. ووقاك الله سعي الساعين بالأذى، ودعاء الداعين إلى القطيعة، وإرجاف المرجفين بالكذب، وإسراف المسرفين في الكيد، ومشي الماشين بالنميمة.
فقد كان يقال إن صاحب القلب الذكي، والحكم الراجح، والبصيرة النافذة؛ خليق أن يحذر الساعين إليه بالناس، وأن يقدر أنهم إن يسعوا إليه اليوم فقد يسعون به غدًا، وإن يكيدوا لخصمه عنده، والأيام مقبلة عليه، فقد يكيدون له عند خصمه، والأيام مدبرة عنه. وكان يقال إن الدهر قُلَّب، وإن الأيام لا تؤمن، وإن الزمان كَلِف بالغدر، موكل بالمساءة، يبسم ليعبس، ويعبس ليبسم! وكان يقال إن الرجل الحذر خليق ألا يؤتى من مأمنه، وسبيله إلى ذلك ألا يطمئن إلى الأيام، ولا يستريح إلى الدهر، وأن يستقبل النعماء مقدرًا أنها قد تزول عنه، وأن يستقبل البأساء مقدرًا أنها الغمرات ثم ينجلين!
وإذا كان الحزم للرجل اللبيب ألا يأمن الأيام، ولا يطمئن إلى الدهر، فأحزم من ذلك ألا يأمن الناس، ولا يستريح إليهم … فهم يسعون إلى الرجل ذي السلطان والبأس؛ رغبًا إليه أو رهبًا منه، يلتمسون عنده الخير، ويبتغون إليه الوسيلة، ويسلكون إليه السبل حراصًا على أن يخلو لهم وجهه، ويصفو لهم وده، ويخلص لهم ضميره، فتغمرهم نعمته، وتعدوهم نقمته، وهم يعلمون أن صاحب السلطان والبأس لا بد له من أن يُنعم، فهم يحرصون على أن يستأثروا بأنعامه، ولا بد له من أن ينتقم، فهم يجهدون في أن يصرفوا نقمته عن أنفسهم. وهم في كل ذلك يطلبون إلى صاحب السلطان والبأس أكثر مما يطلبون إلى أنفسهم، ويأخذون منه أكثر مما يعطونه؛ يطلبون إليه أن يخصهم بصفو نفسه، وصدق وده، وشامل معروفه، ولا يعطونه من أنفسهم إلا الكدر والرنق، ولا يمنحونه من ودهم إلا التكلف والرياء، ولا يهدون إليه من معروفهم إلا تربص الدوائر به، وانتهاز الفرص فيه، وانتظار اليوم الذي يتحولون فيه عنه إلى من ينافسه ويناوئه. فهم يعرضون قلوبهم، ونفوسهم، وعقولهم، وضمائرهم للبيع، ويقبلون ما يعرض عليهم لها من ثمن. فأي الناس أرضاهم مالوا إليه، وأي الناس قصَّر في إرضائهم انحرفوا عنه، وتألبوا عليه!
ثم هم بعد ذلك لا يحفظون ودًّا، ولا يرعون حرمة، ولا يذكرون جميلًا. وإنما يسرع النسيان إلى قلوبهم فيمحو منها كل ذكرى، ويلقي بينها وبين ما قدم إليهم من الخير، والمعروف حجبًا وأستارًا. ثم هم بعد ذلك لا يكتفون بالنسيان، ولا يقنعون بنكران الجميل، وكفر النعمة، وإنما يضيفون شرًّا إلى شر، ونكرًا إلى نكر، وجحودًا إلى جحود. قد أقاموا حياتهم على الكذب، وأجروا سيرتهم على الرياء، وطووا ضمائرهم على النفاق. فهم لا يستطيعون أن يعيشوا بأنفسهم، وإنما يستمدون حياتهم من المنعمين عليهم، المحسنين إليهم، ومن المغترين بهم، والمنخدعين لهم … فهم يتملقون من أتيح له السلطان، يسعون إليه من كل سبيل، ويسلكون إليه كل طريق، يرقون إليه على أعناق سادتهم الذين أحسنوا إليهم، وبروا بهم، وغمروهم بالمعروف، لا يتحرجون من غدر، ولا يتأثمون من نكر، قد استحبوا المنافع العاجلة على المنافع الآجلة، وآثروا المكر على الإخلاص، والغدر على الوفاء. فخليق بصاحب السلطان أن يعرفهم حق معرفتهم، وأن يضعهم حيث وضعوا أنفسهم، وأن يخشى أن يمكروا به كما مكروا بمن كان من قبله، وأن يتخذوه وسيلة إلى التماس المنافع عند غيره كما اتخذوا من كان قبله وسيلة إلى التماس المنافع عنده!
وهذا الصنف من الناس — أيَّدك الله — رذل الطبع، موبوء القلب، مدخول الضمير، لا يحسب لشيء حسابًا، ولا يرجو لأحد وقارًا، لا يفرق بين خير وشر، ولا يميز عرفًا من نكر، وإنما الخير ما انتهى به إلى ما يريد، والشر ما حال بينه وبين ما يريد، وإنما العرف ما أداه إلى غايته، والنكر ما باعد بينه وبين غايته، فليس للفضيلة عنده وزن، وليس للخلق الكريم في نفسه قدر، وهؤلاء الناس ينتهي بهم مراسهم للكيد، وإمعانهم في المكر إلى أن يستعذبوا الإثم، ويستحبوه، وإلى أن يكذبوا حبًّا في الكذب، ويشوا إيثارًا للوشاية. يجدون في ذلك رضًى لنفوسهم التي لا ترضى إلا بالشر، ولا تنعم إلا بالوقيعة، ولا تستريح إلا إلى الإفساد بين الناس.
وقد أدَّب الله — عز وجل — رسوله ﷺ فأحسن تأديبه، ونهاه، ونهى المسلمين معه عن طاعة كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم، مناع للخير معتد أثيم، عتلٍّ بعد ذلك زنيم، فما أجدر المسلم الذي ينظر لأمر دينه كأنه يموت غدًا، ولأمر دنياه كأنه يعيش أبدًا، أن يتأدب بهذا الأدب الذي أدَّب الله به الأنبياء، والصدِّيقين، والأبرار الصالحين.
والوشاية — جنَّبك الله شرها، وعصمك من نكرها، ورد عنك أذاها، وصرف إلى عدوك شَباها — تكون على ضروب مختلفة، وألوان مفترقة؛ فمنها ما امتحن به نابغة بني ذبيان في قصر النعمان، وذلك حيث يقول:
وحيث يقول:
ومنها وشاية بين الصديق والصديق، وبين الأليف والأليف تحول الصفاء جفاء، والمودة عداء … ومنها الوشاية بين الحبيبين تلك التي قال فيها الشعراء فأجادوا، وأحسنوا.
والقول في شكوى المحبين من وشاية الوشاة، وعذل العذال، ورقابة الرقباء، خليق أن يطول، وتلتوي مذاهبه، ولكني — أيدك الله — لم أكتب إليك في ذلك، ولم أرد أن أظهرك عليه. وإنما هو شيء عرض أثناء الحديث فألممت به إلمامًا … وأعود إلى ما بدأت به من تحذيرك سعي الوشاة إليك، وسعي الوشاة بك، فأذكرك — وما أنت في حاجة إلى التذكرة — بما ترجم ابن المقفع في كليلة ودمنة، وبما روى الرواة عن ملوك العرب والعجم، وبما قالت الحكماء في ذلك من بارع الموعظة، وروائع الحكم. وأنت — حفظك الله — حين تنظر في بعض ذلك خليق أن تستقبل أمرك بالحزم، وأن تقيم سيرتك على الحذر، وأن تسوس أصحابك بالتحفظ، وألا تُمضي من أمرك ما تمضي، ولا تدع منه ما تدع، حتى تروِّي فتطيل الروية، وتستبصر فتحسن الاستبصار.
ومن حقك على نفسك، ومن حق الناس عليك، أن تتهم الذين يسعون إليك، ويطيفون بك. فإن اتهام فريق من الناس، والتثبت قبل الاستجابة إلى ما يدعونك إليه؛ خير لك، وأسلم عاقبة من ظلم البريء، والإساءة إلى المحسن، والإحسان إلى المسيء، والتجاوز عن المجرم. وقد أمر الله — عز وجل — نبيه ﷺ، وأصحابه رضي الله عنهم أن يتثبتوا إن جاءهم فاسق بنبأ مخافة أن يصيبوا قومًا بجهالة فيصبحوا على ما فعلوا نادمين. والله — عز وجل — قد وضع في أعناق العلماء أن ينصحوا للحكام فيخلصوا في النصيحة، وأن يعظوهم فيحسنوا الموعظة، وأن يذكروهم بآيات الله كلما تعرضوا لنسيانها أو همُّوا أن يتحولوا عنها. ومن أجل هذا كتبت إليك ناصحًا لك أمينًا في النصيحة، وواعظًا لك مخلصًا في الموعظة، ومحذرًا لك من الله الذي حذَّر الناس نفسَه، ومذكرًا لك بآيات الله الذي طلب إليهم أن يتذكروا آياته.
وما أجدر الذين يسوسون الناس، ويدبرون أمورهم، ويقضون في أنفسهم وأموالهم؛ أن يضعوا أمامهم صحيفة يلقون عليها نظرهم بين حين وحين، وقد كُتبت فيها هاتان الآيتان الكريمتان من سورة الحجرات: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ ۖ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ۖ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ۚ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ وَاتَّقُوا اللهَ ۚ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ.
ذلك أحرى أن يعصمهم من المظالم، وأن ينزههم عن الكيد، ويجنبهم كثيرًا من الظن، ويحملهم على ألا يأخذوا الناس بالشبهات.