رسالة القصد والغرور
يسرك الله للخير، ويسر الخير لك، وصرفك الله عن الشر، وصرف الشر عنك، ودلك الله على الحق، ودلَّ الحق عليك، وساقك الله إلى الصواب، وساق الصواب إليك، وأشاع الله في قلبك الغبطة، وأسبغ على نفسك البهجة، وأنزل على ضميرك السكينة، ونقى دخيلتك من الموجدة والضغينة، وجعل ما ظهر من أمرك بشرًا ويمنًا، وما خفي من سرك دعةً وأمنًا، ووطأ كنفك للصديق المقارب، ومهد عفوك للعدو المجانب، ورفع مكانك عن كيد الكائدين، وحسد الحاسدين، وخفض جناحك للَّائذين بك، واللاجئين إليك، وثبتك على ما رُكِّب في طبعك من إعطاء المحروم، وإغاثة الملهوف، وإعانة المحتاج، وتعزية الملتاع، والأخذ بيد الضعيف، والتجاوز عن إساءة المسيء، والإعراض عن جهل الجاهلين.
•••
بهذا كله أدعو لك حين ألقاك، وحين أنأى عنك، وبهذا كله أدعو لنفسي حين أخلص لها خاليًا إليها، وحين أُشغل عنها نافرًا منها، فالله يشهد ما أحببت إليها، وحين أشغل عنها نافرًا منها، فالله يشهد ما أحببت لنفسي شيئًا إلا أحببت لك مثله أو خيرًا منه، وما كرهت لنفسي أو من نفسي شيئًا إلا تمنيت أن يعصمك الله منه، وينزهك عنه، ويجنبك التورط فيه. فأنت رفيق الصبا، وصديق الشباب، وأنت شقيق نفسي، وأليف قلبي، والشريك في النعمة حين تُظل، والحليف على النائبة حين تنوب، والمعين على الخطب حين يدلهمُّ، والظهير على الأيام حين تحدث فيها الأحداث، وتتعقد فيها المشكلات. فما نصحت لك قط، ولا أشرت عليك، ولا رفقت بك إلا رأيتني لها ناصحًا، وعليها مشيرًا، وبها رفيقًا.
وما أعلم أنك احتجت قط إلى نصح الصديق، ومشورة الخليل كما تحتاج إليهما الآن حين ارتفعت منزلتك عند أصحاب الشأن، وأُلقي إليك الخطير من أزمة الحكم، فطمع فيك الطامعون، وأشفق منك المشفقون، وانعقدت بك الآمال، ولاذت بك الأماني، وأصبحت من وفور النعمة بسطة الجاه بحيث لا تستقبل النهار، ولا تستقبل الليل، ولا تعبر ساعة من ساعاتهما أو لحظة من لحظاتهما إلا فكر فيك مفكر يريد أن يستظل بجناح من نعمتك أو يتقي طائفًا من نقمتك، فأنت المرجو المخوف، وأنت المحبب المبغض، وأنت المرموق الموموق، وأنت المغبوط المحسود. وإذا بلغ الإنسان مثل ما بلغت من ارتفاع المنزلة، وعلو المكانة، وانبساط السلطان، وامتداد القوة كان خليقًا أن ينأى بنفسه عن الغرور والتيه، ويبرئها من الصلف والكبرياء، ويحميها من الاندفاع في الثقة، والاعتداد بالحول والطول، والاستغناء بالثراء والبأس، ويذكر أنه قد قوي بعد ضعف، وأثرى بعد فقر، واستغنى بعد احتياج، وإن ضمائر الأيام تحفظ للناس من أسرار الغيب ما يحبون وما يكرهون، وتدخر لهم من الأحداث ما يعرفون وما ينكرون. فمن أتيحت له القوة قد يقدر له الضعف، ومن مكن له في الأرض قد تنبو به الدار، ومن ابتسمت له الأيام قد يعبس له الدهر. النعمة وديعة في أيدي أصحابها قد يطلبها من استودعهم إياها، والقوة عارية في أيدي الأقوياء قد تؤخذ منهم لتردَّ على الضعفاء، والله — عز وجل — يقول: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ.
وقد قال الشاعر القديم:
فأحذرك أول ما أحذرك أيها الأخ الصديق، والخليل الشفيق، الاعتداد بالنفس، والاغترار بالحول والطول، والانخداع بابتسامات الدهر، فإنها قد تصدقك اليوم لتكذبك غدًا، فاحذر نفسك أول ما تحذر، وأشفق عليها منها قبل أن تشفق عليها من الناس، واذكر قول الله — عز وجل — في قصة يوسف عليه السلام: وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ۚ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ فلا تنفذ لنفسك أمرًا تتلقاه منها حتى تتدبره، وتفكر فيه فتطيل التفكير. ومهما يواتك الحظ فاذكر حالك قبل أن يواتيك، وقدِّر أنك قد تعود إلى مثل ما كنت فيه، واذكر رأيك في أصحاب الرأي قبل أن تكون منهم، ونقدك لهم، وحكمك عليهم قبل أن ترقى إلى مكانك بينهم. واعلم أن الناس يقولون فيك مثل ما كنت تقول فيهم، ويحكمون عليك بمثل ما كنت تحكم عليهم. واذكر في أول ما تذكر أن لك ضميرًا يرضى ويسخط، ويعرف وينكر، ويحمد ويذم، وأن أعباء الحكم قد تشغلك عنه أو تشغله عنك؛ ما امتدت لك أسباب القوة. ولكنك ستفرغ له كما أنه سيفرغ لك ذات يوم أو ذات ليل، فاحرص على ألا تسمع منه إلا خيرًا.
•••
وأنت بعد ذلك محتاج إلى نصح الصديق، ومعونة الخليل فيما أحدث الحكم بينك وبين الناس من صلات، فأنت تدبر أمورهم، وترعى مرافقهم، تسوسهم باللين حينًا، وتسوسهم بالشدة أحيانًا. فأنت تُطمع وتُخيف، وأنت تشيع الرعب، وتشيع الرهب، وأنت تمد أسباب الرجاء، وترسل إلى القلوب صواعق اليأس. فالناس بين مبتغٍ إليك الوسيلة، ومتربصٍ بك الدائرة، ومنتهز فيك الفرصة. كلهم يظهر لك المودة، وأكثرهم يضمر الموجدة عليك، ويطوي قلبه لك على شر ما تطوى عليه القلوب.
وأخوف ما أخاف عليك من الناس؛ سعيهم عندك بالنميمة، ومشيهم إليك بالوقيعة، وابتغاؤهم رضاك بالوشاية. فالناس يبتغون إلى الحاكم كل وسيلة، ويتقربون إليه من كل سبيل. يتنافسون فيما عنده، ويغريهم ذلك بأن يكيد بعضهم لبعض، ويمكر بعضهم ببعض، ويتكذب بعضهم على بعض، كلهم يريد أن ينال من الحكومة أكثر مما ينال غيره من النظراء، وهم من أجل ذلك في همٍّ مقيم، وتحاسد متصل، وتباغض ملحٍّ، يسعون إلى آمالهم بما يستقيم من الطرق وما يعوج، وبما يباح من السيرة وما يحظر، وبما يحسن من القول والعمل وما يقبح، يتبادلون المساءة فيما بينهم، ولكنهم يختصونك بشرِّ ما يتبادلون من النكر والسوء، ويفسدون قلبك على الناس فيفسدون قلوب الناس عليك، ويسيئون رأيك فيهم فيسيئون رأيهم فيك. ثم ينتهون آخر الأمر إلى أن يفسدوا عليك أمرك، ويسيئوا رأيك في نفسك، ويباعدوا بينك وبين ضميرك، وينغضوا عليك راحة الليل، ونشاط النهار.
•••
وإذا أوجب عليك أن تحذر نفسك، وأن تحذر الناس، فقد يستبين لك أن الحكم نقمة لا نعمة، ومحنة تبتلى بها النفوس، وتفتن بها القلوب، وتمحص بها الضمائر، فهو عناء لا راحة، وهو شقاء لا سعادة، وهو قلق لا هدوء، وهو خوف لا أمن. واذكر — أصلحك الله — أيام كنا نلتقي فنذكر فلانًا وفلانًا من الحكام الذين سبقوك، نعيبهم كثيًرا، ونثني عليهم قليلًا، ونرثي لهم دائمًا، ونتمنى للصديق منهم أن يجلي الله عنه الغمرة، ويفرج عنه الكربة، ويحط عنه أعباء الحكم وأوزاره، ويردَّه إلى الحياة الحرة السمحة التي لا يحمل الإنسان فيها إلا أوزار نفسه، والتي لا يثقل الإنسان نفسه فيها بأوزار الناس، وما أكثر أوزار الناس!
ولقد تبسمُ راضيًا أو ساخطًا حين تعلم أني أكتب إليك هذه الرسالة، وفي نفسي من الحب لك، والرفق بك، والإشفاق عليك، ما يحملني على أن أسأل الله لك العافية، وأتمنى عليه أن يضع عنك إصر الحكم وأغلاله، وأن يردَّك إلي من هذه المحنة سالمًا موفورًا، وقانعًا من الغنيمة بالإياب. فخير غنيمة للحاكمين أن يخرجوا من الحكم أتقياء كما كانوا قبل أن يدخلوا فيه، لم يغنموا منه إلا سلامة بالإياب.