قلب مغلق
لا تغضب، فلم أرد إلى إغضابك، ولو قد أردت إليه لما استطعته، ولا قدرت عليه، فأنت رجل متئد رزين، شديد الوقار، عظيم الحلم. لا يشبه حلمك بالبرد كما كان يصنع أبو تمام؛ لأنه ليس حلمًا حضريًّا مترفًا، وإنما يشبه بثبات الصخر، واستقرار الجبال كما كان يصنع الفرزدق، لا لأنه حلم بدوي ساذج كحلم قيس بن عاصم أو الأحنف بن قيس أو معاوية بن أبي سفيان، بل لأنه حلم يأتي من هذا الحجاب الصفيق الذي ضرب بين قلبك وبين الأحداث والخطوب. فأنت رجل لا تبلغك الأحداث، ولا تصل إليك الخطوب. قد أُلقيتْ بينك وبين حياة الناس أستار كثاف، وعشت أنت من دون هذه الأستار مشغولًا بنفسك عن كل شيء، ومنصرفًا إلى نفسك عن كل إنسان. يستطيع الناس من حولك أن يرضوا، ويسخطوا، وأن يثوروا، ويهدءوا، وأن يأمنوا، ويخافوا، وأن يتجهوا إليك ليشركوك في رضائهم وسخطهم، وليقسموا لك حظًّا من هدوئهم، وثورتهم، ولينعموا معك بالأمن إن أتيح لهم الأمن، وليستعينوا بك على الخوف إن سُلِّط عليهم الخوف، ولكنهم لن يبلغوا من ذلك شيئًا؛ لأنهم لن يستطيعوا أن يتجاوزوا ما أُلقي بينك وبينهم من حجب، ولا ما أُسدل بينك وبينهم من أستار.
•••
إنما أنت رجل مُحْصَن، لا يبلغه العدو، ولا يصل إليه الصديق، واكاد أعتقد أن ليس لك عدو، ولا صديق. شغلت بنفسك حتى يئس الناس منك، وأعرض الناس عنك؛ فلم يطمع فيك منهم طامع، ولو قد فعل لما نال منك شيئًا، ولم يعطف عليك منهم عاطف، ولو قد فعل لما نالك منه شيء. والناس مع ذلك لا يرون شيئًا من هذا الحصن المؤشب الذي حصنت فيه نفسك، ولا من هذه الحجب الصفاق التي قامت بينك وبينهم، ولا من هذه الأستار الكثاف التي ألقيت عليك من دونهم. وإنما هم يرونك مصبحًا وممسيًا، ويلقونك غاديًا ورائحًا، يقولون لك فتسمع منهم، وتقول لهم فيسمعون منك، يجاذبونك هذه الأطراف الرثة السخيفة التي يتجاذبها الناس حين يحيون في البيئة الواحدة، ويخضعون للنظام الواحد، ويشاركون في هذا العيش الذي يعيشه المتحضرون، فأنت قريب منهم كأشد ما يكون القرب، تمد إليهم يدك، ويمدون إليك أيديهم، ترد عليهم تحيتهم، ويردون عليك تحيتك. وأنت بعيد عنهم كأقصى ما يكون البعد، تلقاهم وكأنما تحلم بلقائهم، ويلقونك وكأنما يلقون ظلًّا لك مستعارًا. بينك وبينهم أسباب مصنوعة، وصلات متكلفة لا تبلغ النفس، ولا تتصل بالقلب، فهي لا تثير في عقلك تفكيرًا، ولا تثير في قلبك شعورًا، لمكان هذا الحصن المؤشب الذي لا يرى، ولمكان هذه الأستار، والحجب الكثاف التي لا تحس. وما أدري أحاولت قط أن تعرف أم حاولوا هم قط أن يعرفوا طبيعة هذا الحصن المؤشب، ومادة هذه الحجب الأستار الكثاف. ولكن أنا قد حاولت، وكُتب لمحاولتي النجاح والتوفيق. وأنا أكتب إليك لأعلمك من أمر هذا الحصن ما لم تعلم، وأعرفك من أمر هذه الحجب والأستار ما لم تعرف، وما يعنيني أن تنتفع بهذا العلم أو لا تنتفع، وأن تستفيد من هذه المعرفة أولا تستفيد. فلو قد أردت أن أنفعك أو أفيدك لخصصتك بهذا الكتاب من دون الناس، ولكنك ترى أني لم أرسله إليك، وإنما نشرته في الهلال لتقرأه أنت أو لا تقرأه، وليقرأه غيرك من الناس على كل حال. فمن حق الناس أن يعلموا أن بينك وبينهم حصنًا مؤشبًا، وحجبًا صفاقًا، وأستارًا كثافًا، وأن ينظروا لأنفسهم أيطمعون فيك، وينتظرون منك الخير، فيجب عليهم أن يحتالوا في اقتحام هذا الحصن، وإزالة هذه الحجب، وتمزيق هذه الأستار؛ أم يستيئسون منك فيجب عليهم أن يخلوا بينك وبين هذه العزلة التي اخترتها أو اختارتك، وأن يمضوا في طريقهم، ويسعوا إلى غايتهم لا يشغلون أنفسهم بك كما أنك لا تشغل نفسك بهم.
•••
فما ينبغي أن يظل الناس من أمرك في هذه الحيرة المتصلة، يرونك واحدًا منهم، ويقدرون أنك متضامن معهم في حمل أثقال الحياة، والنهوض بأعبائها، حتى إذا جدَّ الجد افتقدوك فلم يجدوك، وإذا أنت سراب يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا، ووجد عنده الحزن، واليأس، وخيبة الأمل، وكذب الرجاء. إنهم ينظرون فيرون غنًى موفورًا، ونعمةً واسعةً، وعيشًا لينًا، وثراءً عريضًا، وإنهم يسمعون فيقع في آذانهم صوت عذب ممتلئ تشيع فيه القوة، وتفيض منه الحرارة، ويحمل إلى قلوبهم ألفاظًا حلوةً رائقةً شائقةً، فيها كثير من أمل، وفيها كثير من وعد، وفيها إحياء للطمع الميت، وإيقاظ للطموح النائم، وإشعار بأن الناس قد خلقوا للتعاون والتضامن، وليظاهر بعضهم بعضًا حين تنوب النوائب، وليشد بعضهم أزر بعض حين تدلهم الخطوب. ولكنهم يستقبلون من أمورهم ما يظلم وما يشرق، وينهضون من أعمالهم بما يخف، وما يثقل، ويلتمسونك ليستعينوا بك على تبديد الظلمة، ويبتهجوا معك بجمال النور المشرق، ويستمتعوا معك بحمل الأعباء الخفاف في فرح ومرح ونشاط، ويجهدوا معك بحمل الأعباء الثقال في صبر وأيد وحزن وثبات. يلتمسونك فلا يجدونك، أو هم يجدونك حين تشرق النعماء، ويفقدونك حين تظلم البأساء. أنت شريكهم في العيش الرضي، والحياة المقبلة، وأنت أبعد الناس عنهم حين يغلظ العيش، ويعظم البأس، وتدبر الحياة. تسرع إليهم حين ينعمون لتشارك في نعيمهم على أن ذلك حق لك لا ينبغي لأحد أن يردك عنه أو أن يجادلك فيه، ولعلك تأخذ من هذا النعيم — إن أتيح — بحظ أعظم من حظوظهم، ولعلك تنظر إليهم، وهم يأخذون بحظوظهم المتواضعة الضئيلة، ساخطًا عليهم ضيقًا بهم، مزدريًا لهم، ترى أنهم واغلون يشاركون فيما لا حق لهم أن يشاركوا فيه، ويأخذون مما لا حق لهم أن يأخذوا منه، ولعلك أن تردهم عن هذا النعيم إن استطعت لهم ردًّا، وأن تذودهم عن هذا الصفو إن استطعت لهم ذيادًا. وأنت على كل حال تنظر إليهم شزرًا، وتقيم معهم على مضض، تستأثر من دونهم بالكثير، وتحسدهم على ما يتاح لهم من القليل. فإذا أدبرت الدنيا، وأظلمت الحياة، واكتأب الأمل، وجد الجد، والتمس الناس المعين على ما يلم بهم من شقاء وبأس، آويت إلى حصنك هذا المؤشب، وألقيت من دونك هذه الحجب الصفاق، وأسدلت بينك وبين الناس من الأستار الكثاف، ونعمت بعزلتك نعمة هادئة مطمئنة، لا ينغصها منظر البؤس، ولا يكدرها صوت الشكاة، ولا يشوبها تفكير في البائسين، سواء منهم من احتمل البؤس صامتًا صابرًا جلدًا، ومن احتمل البؤس صائحًا صاخبًا شاكيًا إلى الله وإلى الناس.
ما طبيعة هذا الحصن المؤشب، وما مادة هذه الحجب والأستار؟ وكيف السبيل إلى أن يخرجك الناس من عزلتك هذه الراضية؟ لتسعد معهم إذا سعدوا، وتشقى معهم إذا شقوا، وتشاركهم في استقبال الحياة حين تشرق، وحين تظلم.
هذه هي المسألة التي حاولت أن أجد لها حلًّا، وأتيح لمحاولتي هذه شيئًا من التوفيق.
إنّ حصنك هذا المؤشب يا سيدي، ليس إلا قلبك المقفل الذي لا ينفذ إليه شعور بالتضامن أو حاجة إلى التعاون، والذي لا تصل إليه رحمة حين يحتاج الناس إلى الرحمة، ولا رفق حين يحتاج الناس إلى الرفق، ولا رثاء حين يحتاج الناس إلى الرثاء. إنه قلب قد صور من صخر مجوف تستطيع أن تودعه كل ما شئت من أمل لا حد له، وطمع لا ينتهي إلى غاية، وجشع بشع له قرار، وشهوات جامحة لا سبيل إلى ضبطها، وطموح لا يحده إلا الموت، ولكنه على ذلك مقفل مصمت من جميع جوانبه، لا ينفذ إلى داخله أيسر الضوء، ولا أرق النسيم، ولا سبيل إلى تحطيمه لأنه أقسى، وأصلب من أن تبلغ منه المعاول. فهو كالحجارة أو أشد قسوة، وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار، وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء.
ولكن قلبك لا يتفجر منه نهر على الناس برحمة أو بر أو مودة أو إخاء، ولكن قلبك لا ينشق فتخرج منه قطرة تروي ظمأ الظامئ أو تخفف من لوعة المكروب، قد صوِّر من صخر صلب صلد مصمت من جميع جوانبه.
ولم يكفك ما فطر عليه من صلابة، وصلادة، وإصمات، فوضعت عليه قفلًا لا أدري أقصدت به الإغراق في التحفظ والاحتياط، أم قصدت به إلى التأنق، والزينة، وكيد الحسود، فهو قفل رشيق أنيق، تراه العين فتمتلئ النفس له إكبارًا، وإعظامًا، ويمتلئ القلب به إعجابًا، وتتقطع الأفئدة له حسرات. قفل من ذهب نضار ترصعه ضروب الجوهر، والأحجار الكريمة النادرة، قد صاغته لك الأيام في كرِّها، والليالي في مرِّها، فأنت به معجب، وله مكبر، وعليه حريص. وأنت به مفاخر، حينًا تظهره حتى يملأ النفوس حسدًا وحقدًا، وأنت به ضنين تخفيه حينًا حتى تتقطع القلوب تشوقًا إليه، وتفكرًا فيه، وأنت في داخل هذا القلب الصلب الصمد المصمت ذي قفل الذهبي المرصع، هادئ لا تحس اضطراب من حولك من الناس، وادعٌ لا تسمع اصطخاب من حولك من البائسين، قد أغمضت عينيك فلا ترى ما يسوءك، وقد سددت أذنيك فلا تسمع ما يؤذيك، وقد ألغيت حواسك كلها أو سخرتها لهواك فلا تحمل إليك إلا ما تحب، وأنت قد تفتح عينيك وأذنيك، وترهف حسك، فترى وكأنك لا ترى، وتسمع وكأنك لا تسمع، وتجد غلظ الحياة وقسوتها، وكأنك لا تجد شيئًا. قد حصنت نفسك بهذا القلب الصخري الصلد الذي لا تعمل فيه المعاول، ولا ينفذ منه الضوء أو النسيم، وقد وضعت عليه هذا القفل الذهبي المرصع لتملأ القلوب الأخرى، التي لم تصور من صخر، وإنما صورت من لحم ودم حزنًا ويأسًا وحقدًا وحسدًا.
وأنت تنظر إلى هذه القلوب التي يحرقها الحزن، وتمزقها الحسرات في كثير جدًّا من التعالي والكبرياء، وفي كثير جدًّا من الاحتقار والازدراء. ولعلك تنعم بما ترى من الشر، ولعلك تسعد بما ترى من البؤس، ولعلك تقول لنفسك حين تتحدث إلى نفسك، وما أقل ما تتحدث إلى نفسك، لقد صُرف عني هذا الشر، وعدل عني بهذا البؤس، وأريد أن أحيا هذه الحياة الحلوة التي تشتق حلاوتها مما يحيط بها من مرارة، اللينة التي يستخلص لينها مما يحيط بها من شدة، الناعمة التي يستصفى نعيمها مما يحيط بها من البأساء.
فلْأَنْعم ما دام قد كتب لي النعيم، ولْأسعد ما دامت قد أتيحت لي السعادة، ولْيبتئس غيري، ولْيشقَ ما دام قد كتب على غيري البؤس والشقاء.
حدثني، أليست هذه دخيلة نفسك حين تخلو إليها، إن خلوت إليها، وحين تشغل عنها بما تستمتع به لذة، وبما تجمع من ثروة، وبما تحقق من فوز؟
أليست هذه دخيلة نفسك التي لا تتحرج من أن تصارح بها حين يجري الحديث بينك وبين نظرائك، عما يملأ الأرض من بؤس وبغض وشقاء؟ بلى هذه دخيلة نفسك تخفيها كثيرًا، وتظهرها قليلًا، وتُشغل عنها بلذتك، وثروتك في أكثر الأحيان، ولكن انظر، إنك ترى في الأرض أنهارًا تجري، وينابيع تفيض، وإنك تستغل هذه الأنهار الجارية، وهذه الينابيع المتدفقة لتمعن في لذاتك، وتزيد إلى ثرائك ثراء، فهل علمت كيف تفجرت هذه الأنهار؟ وهل علمت كيف انشقت الارض عن هذه الينابيع؟ وهل علمت أن قلبك مهما يكن حظه من الصلابة، والصلادة، ومن الإصمات والقسوة، لن يستطيع أن يقاوم الأحداث، ولا أن يثبت للخطوب، ولا أن يحتفظ بهذا القفل الذهبي المرصع الذي علقته أو علقته لك الأيام عليه؟
•••
إنَّ الحوادث والخطوب تعبث بالقلوب مهما تكن قسوتها، ومهما تكن أقفالها، وإن ساعة من الدهر تأتي على هذه القلوب الصلبة الصلدة المصمتة القاسية فتذيبها، أو تحيلها هباء تذروه الرياح. انظر! لقد كانت قبلك قلوب صلبة صلدة مقفلة قد احتبست من ألوان اللذة، والإثم، ومن ضروب الطمع والجشع، ومن خصال الأثرة والبخل ما لا يحصى، ولا يوصف. ثم أتت عليها هذه الساعة من ساعات الدهر فذهبت بها، وبأصحابها. وهذه الساعة آتية عليك وعلى قلبك، فذاهبة بك وبقلبك إلى حيث يذهب الناس، ثم لا يرجعون.
صدقني إن من الخير لك، ولمن حولك من الناس أن تحدث في قلبك هذه المصمت المقفل صدعًا يسيرًا ينفذ منه الضوء ليبدد بعض ما فيه من ظلمة، وينفذ منه النسيم ليطفئ بعض ما فيه من لظى. وصدقني إن من الخير الكثير لك، ولغيرك من الناس أن تدير مفتاحك الذهبي في قفلك هذا المرصع، وأن تفتح قلبك، ولو قليلًا ليصل إليه بعض ما في هذا العالم مما يثير الرحمة، ويشيع الرفق، ويعطف بعض الناس على بعض.
•••
صدقني إن من الخير الكثير لك، ولغيرك أن تصدع قلبك قبل أن تصدعه الأحداث، وأن تفتح قلبك قبل أن تفتحه الخطوب، وأن تشعر من حولك من الناس بأنك تجد بعض ما يجدون، وتعتقد مثل ما يعتقدون. إنك مثلهم قد خلقت من تراب، وستعود إلى التراب، وإن الذين يستوون قبل أن يدخلوا الحياة، ويستوون بعد أن يخرجوا من الحياة ليسوا في حاجة إلى أن يتمايز بعضهم من بعض، ويبغي بعضهم على بعض، في هذه الطريق القصيرة التي يسلكونها بين المهود واللحود.