صرعى
أتذكر قول زياد — رحمة الله — في خطبته المشهورة لأهل البصرة: «وايم الله إن لي فيكم لصرعى كثيرة، فليحذر كل امرئ منكم أن يكون من صرعاي.»
فإن هذه الجملة الخالدة لم يعرب بها زياد عن ذات نفسه، ولا عمّا كان بينه وبين أهل العراق من صلة، ولا عمَّا كان قد رسم لحكمة من سياسة عنيفة، ولا عمَّا كان قد فرض على نفسه من الحزم والعزم في تدبير أمور الناس، وحملهم على الجادة راضين أو كارهين. لم يعرب زياد بهذه الجملة عن هذا كله فحسب، وإنما أعرب بها عن شيء أعم وأشمل من سلطانه، وأبقى وأخلد من سيرته عن شيء يتصل بحياة الناس جميعًا، ويؤثر في أعمالهم جميعًا، بل في آمالهم جميعًا، عن شيء وجد منذ وجد الإنسان، وسيبقى ما بقي الإنسان، ولن يزول حتى يرث الله الأرض ومن عليها. عبر زياد عن هذا الغرور الذي يدفع الناس إلى أن يعملوا، ويدفع الناس إلى أن يأملوا، ويفسدوا على الناس أعمالهم وآمالهم، ويرديهم آخر الأمر في هوة عميقة غير ذات قرار من البؤس واليأس والقنوط.
لست أدري أيهما استعار من صاحبه هذه الجملة الخالدة التي تصور الموعظة البالغة. أترى أن زيادًا قد استعارها من الغرور، الذي كان يلقيها على الناس، وظل يلقيها على الناس في كل لغة، وفي كل بيئة، وفي كل عصر، وفي كل جيل؟ وأية غرابة في ذلك؛ فالخطباء المتفوقون، والكتاب المبرزون، والشعراء الملهمون تتصل أسبابهم بأسباب المعاني الخالدة، فيستعيرون منها ما يشاءون، ويستهدون منها ما تنطلق به ألسنتهم، وتجري به أقلامهم، فيبقى بقاء الدهر، ويتصل اتصال الزمان، أم ترى أن الغرور كان يعظ الناس كما يستطيع، ثم أتيحت له هذه الجملة الخالدة من خطبة زياد فاتخذها لنفسه رمزًا، وساق فيها موعظته الخالدة إلى القلوب، والنفوس، والعقول …
ومهما يكن من شيء فلم يعرب أحد عن حديث الغرور إلى نفوس الناس كما أعرب عنه زياد. والغريب أن الناس استمعوا لزياد؛ فامتلأت قلوبهم خوفًا، وروعًا، وإشفاقًا. وأشفقَ كل امرئ منهم أن يكون من صرعى زياد، ولكنها أيام أو أسابيع أو شهور تمضي، وإذا الناس ينسون الخوف فيما ينسون، ويجهلون الروع فيما يجهلون، ويعرضون عن الإشفاق فيما يعرضون عنه، وإذا هم يسرعون إلى الهول أو يسرع الهول إليهم، وإذا صرعى زياد يكثرون، تمتلئ ببعضهم السجون، وتمتلئ ببعضهم القبور؛ لأن الناس لم يكادوا يسمعون حديث زياد حتى نسوه. وهم كذلك يسمعون حديث الغرور إلى قلوبهم، ونفوسهم، وعقولهم، ثم ينسون هذا الحديث. فيسرعون إلى الخطر أو يسرع الخطر إليهم، ويسَّاقطون في الشر كما يسَّاقط الفراش في النار، ويصبحون من صرعى الغرور، وقد حذرهم الغرور مع ذلك أن يكونوا من صرعاه. ذلك أن الغرور يتحدث إلى الناس حديثين مختلفين فيما بينهما أشد الاختلاف. يسوق أحدهما إلى ما في الناس من تهالك، وضعف، وإلى ما فيهم من طمع وطموح، وإلى ما فيهم من حب للطيبات، وإيثار للعافية، ونزوع إلى ما يرضي الحاجة، ويقنع اللذة، ويتملق الحس، ويخادع الشعور، ويخدع العقل عن حقائق الأشياء.
يسوقه إلى استعدادهم للاستجابة للإغراء حين يوجه إليهم الإغراء. يخيل إليهم أن الحياة قصيرة فيجب أن تنتهز، وأنها إنما منحت للناس ليحيوها هادئة ناعمة، ولينة باسمة، ومشرقة راضية تتحقق فيها الآمال، وترضي فيها الكبرياء.
ويسوق أحدهما الآخر إلى ما في نفوس الناس من قوة وجلد، وصبر على المكروه، وثبات للخطوب، وتعمق للأشياء، ونفوذ إلى حقائقها، وإيمان بأن الحياة لم تخلق عبثًا، ولم تمنح للناس سدًى، وبأن الفرد لم يخلق لنفسه، وإنما خلق لمواطنيه، وأن الأمة لم تخلق لنفسها، وإنما خلقت للإنسانية، وأن الحياة قصيرة؛ فيجب أن تنتهز لتحقيق النفع، وتعميم الخير، وترقية الحضارة، وإقرار العدل. ذلك أحرى أن يمد قصيرها، ويصل منقطعها، ويجعل زائلها خالدًا، وباطلها حقًّا، والمنقضي منها متصلًا.
بهذين الحديثين يتحدث الغرور إلى الناس دائمًا، يعدهم ويمنيهم، ويطمعهم، ويغريهم، ثم يعظهم، ويحذرهم، ويدعوهم إلى الرويَّة والاعتبار.
فأما أكثر الناس فتستخفهم الوعود، وتزدهيهم الأماني، وتذهب بأحلامهم الأطماع، ويعبث بعقولهم الإغراء، وإذا هم من صرعى الغرور. وأما أقلهم أو الأقلون الأقلون من أقلهم فلا يستجيبون للعدة الكاذبة التي تمر بها من دونهم رياح الصيف كما يقول الشاعر القديم، وإنما يملكون على نفوسهم أمرها، ويصبرونها على ما تحب، وعلى ما تكره، ويوجهونها إلى ما يسرت له من الخير، فينفعون وينتفعون، وينجون من عبث الغرور بهم، وتسلطه عليهم، ويأمنون أن يكونوا من صرعاه.
وابتسم يا سيدي ما شئت أن تبتسم، وأغرق في الضحك ما طاب لك الإغراق في الضحك، وسل نفسك أو لا تسلها عن هذا الحديث … ما مصدره، وما غايته، وما معناه؟ فليس لهذا الحديث مصدر إلا ما أنت فيه، وليس لهذا الحديث غاية، إلا ما أنت فيه، وليس لهذا الحديث معنى إلا ما أنت فيه. والناس يهنئون أصدقاءهم كما يستطيعون، ويهدون إليهم من التحية ما يملكون. فهذه هي التهنئة التي استطعت أن أسوقها إليك، وهذه هي التحية التي أملك أن أعرضها عليك، فاقبلهما إن شئت، وارفضهما إن أحببت. فالله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، والله لا يحمل الناس على ما لا يطيقون.
أتذكر تلك الأيام البعيدة المسرفة في البعد حتى كاد ينساها الزمان، القريبة المسرفة في القرب حتى ما استقبل الصباح، ولا استقبل المساء، ولا استقبل عمل من الأعمال بينهما إلا كنت لها ذاكرًا، وفيها مفكرًا، وبها حفيًّا؟ لقد بعدت تلك الأيام منك حتى كأنها لم تمر بك أو كأنك لم تمر بها، وحتى كأنك تخلق في كل يوم خلقًا جديدًا ينسيك اليوم الذي قبله، كما ينسى الناس عادة ما يمكن أن يكون قد اختلف على نفوسهم من الأحداث والخطوب قبل أن يدفعوا إلى هذه الحياة. ولقد قربت هذه الأيام مني حتى كأني لم أخلق إلا لأعيش فيها، وكأنها لم تخلق إلا لتأخذ عليَّ طرق الحياة فلا أستطيع أن أخرج منها، ولا تستطيع أن تنأى عني، وإنما وُقِفتْ عليَّ، ووُقِفتُ عليها، وقيل للزمن ألا يتقدم حتى لا أتجاوزها، وألا يتأخر حتى لا أُردَّ عنها، فأنا سجينها، وهي سجينتي، قد أُكْرِهنا على أن نصطحب، فلن أجد منها مخرجًا، ولن تستطيع عني انصرافًا.
أتذكر تلك الأيام؟ … أنفق شيئًا من الجهد لعلك تستحضر منها ظلالًا ضئيلةً إن أمكن أن تكون للأيام ظلال. أنفق شيئًا من الجهد حين تخلو إلى نفسك، إن استطعت أن تخلو إلى نفسك، واستحضر بعض تلك الأيام التي كنا نستقبلها باسمين لها، وكانت تستقبلنا باسمة لنا، وكان في ابتسامنا وابتسامها هدوء مطمئن يملأ القلوب ثقة، ورضًى وأمنًا. لم نكن نطمع في شيء إلا أن نعلم في كل يوم يقبل علينا أكثر مما كنا نعلم في كل يوم يدبر عنا.
وكان ذلك إلينا وحدنا لا يستطيع أحد أن يردنا عنه، أو أن يرده عنا. إنما هو حب للمعرفة، وإقبال عليها، وإلحاح في طلبها، واستمتاع بهذا الالحاح، وتزيُّد من هذا الاستمتاع.
•••
أتذكر تلك الأيام؟ … لقد كانت لنا فيها آمال محببة إلى نفوسنا، أثيرة في قلوبنا، متواضعة تواضع العلم، متعالية تعالي العلم، لا يستطيع أحد أن يصدنا عنها، ولا يستطيع أحد أن يصدها عنا. لم نكن نريد إلا أن نهتدي إلى الحق، ونهدي إليه، لم نكن نريد إلا أن نصل إلى الخير، ونوصل إليه، لم نكن نريد إلا أن نملأ قلوبنا علمًا إن أمكن أن تمتلئ القلوب، ثم ننشر العلم من حولنا ما وجدنا إلى نشره سبيلًا. كانت أمامنا من الجهل والغي، والسخف صورة بشعة منكرة، ولكنها لم تكن تخيفنا، ولا تروعنا، وإنما كانت تدعونا إلى نفسها، لا لنحبها بل لنبغضها، لا لنبقيها بل لنلغيها.
أتذكر تلك الأيام؟ … لقد كانت قلوبنا فيها نقيةً نقاء الشمس، رخيةً رخاء النسيم، عذبةً عذوبة الماء الذي صفا، فلا يشوبه كدر، ولا يفسده رنق. أتذكر تلك الأيام؟
لقد كانت آمالنا نقيةً نقاء قلوبنا، رخيةً رخاء طباعنا، صافيةً صفاء أمزجتنا. في تلك الأيام البعيدة القريبة آمنت نفوسنا؛ لأن الإصلاح وحده هو الذي سيستأثر بها، وبما تملك من قوة وجهد، ومن غير القوة والجهد مما تملك النفوس.
في تلك الأيام ساق إلينا الغرور حديثيه؛ ساق إلينا حديث الإغراء فأعرضنا عنه إعراضًا، وساق إلينا حديث الإباء فأقبلنا عليه إقبالًا. في تلك الأيام ثبتنا للمكروه، وصبرنا على الشر، وصُب علينا الأذى فلم يبلغ منا، وأطاف بنا الكيد فلم يصل إلينا، وقامت أمامنا العقاب فلم تردَّنا عن الغاية، ولم تصدنا عن الطريق:
ما أكثر ما قرأنا هذا البيت من شعر، وما أكثر ما تمثلنا به حين كنا نسمع أحاديث بعض الناس الذين كانوا يستجيبون للغرور فيصبحون من صرعاه. وأقسم ما خطر لي قط أني سأتمثل بهذا البيت ذات يوم حين أقرأ الصحف مصبحًا أو ممسيًّا، فإذا لساني ينطق، وما أردت إنطاقه، بقول الأعشى:
فرحم الله زيادًا، وتجاوز له عن خطيئته. أقدَّرَ حين ألقى خطبته تلك أنه كان يعرب أحسن الإعراب عن حديث الغرور إلى أولي العزم من الناس حين قال: «وايم الله إن لي فيكم لصرعى كثيرة، فليحذر كل امرئ منكم أن يكون من صرعاي»!