نفوس للبيع
لا تُرع يا سيدي لا تُرع، فليس في أمر صديقك ما يدعو إلى الروع. لقد وثقت به كما لم تثق بأحد، واعتمدت عليه كما لم تعتمد على أحد، واطمأننت إليه كما لم تطمئن إلى إنسان. ثم نظرت ذات يوم فإذا ثقتك وهم، وإذا اعتمادك هباء، وإذا اطمئنانك غرور، وإذا صديقك الذي أصفيته حبك، واختصصته بودك، وأظهرته على سرك، وأعددته لكل ما يعرض من أمرك؛ يمكر بك، ويكيد لك، ويتخذك وسيلة إلى تحقيق المنافع، وبلوغ الآراب.
وماذا تنكر من ذلك؟! وهو شيء يجري في كل يوم، ويحدث في كل وقت، صوَّرته الآداب القديمة فأحسنت تصويره، وعرضته الآداب الحديثة فأحسنت عرضه، وأنت رجل مثقف قد قرأت من غير شك ما كتب الكتاب، ونظم الشعراء في الوفاء القليل، والغدر الكثير، وفي الأخ الذي يمنحك وده ما احتاج إليك، وإعراضه ما استغنى عنك، وفي الصديق الذي:
وفي الولي الذي يواتيك ما استقامت لك الحياة، ويجافيك حين تُعرض عنك الدنيا، وفي الصاحب الذي يرضى عنك ما رضي عنك السلطان، ويسخط عليك ما سخط السلطان. كل هذه أوليات قد قرأتها في الكتب، وسمعتها في حجرات الدرس، وتحدثت بها إلى الناس، وتحدث الناس بها إليك، ثم ها أنت ذا ترتاع لأنك جربت ما جربه الناس من قبلك، ومن حولك، وبلوت في ذات نفسك ما بلاه الناس في كل عصر، وفي كل جيل. أتعرف ما يدل عليه هذا الروع الذي يملأ قلبك، وهذا الحزن الذي يغمر نفسك، وهذا البؤس الذي يفعم ضميرك؟ إنما يدل هذا كله على شيء واحد يسير أوَّليٍّ لا غرابة فيه، ولا مشقة في فهمه، يدل على أنك تقرأ الكتب، وتشهد الأحداث، وترى العبر والمواعظ، فتزعم لنفسك وللناس أنك تنتفع بما تقرأ، وما ترى، وما تشهد. وتخيل إلى نفسك، وإلى الناس أنك تستفيد مما امتلأت به الحياة من التجارب، على حين أنك لم تنتفع، ولم تستفد، ولم تصل الموعظة إلى قلبك، ولم تبلغ العبرة دخيلة نفسك، ولم تؤثر التجربة في ضميرك.
فأنت تؤمن بهذا كله إيمانًا ظاهرًا لا عمق له، ولا استقرار، حتى إذا دهمتك الأحداث، وألحت عليك الخطوب وجدتك طفلًا قليل التجربة ضئيل الاختيار، فروَّعتك كما يراع الطفل لأيسر ما يعرض له من الوهم.
•••
فكِّر كم شيعت من جنازة، وكم جزعت لفقد صاحب أو أخ أو صديق، وكم استيقنت فيما بينك وبين نفسك، وفيما بينك وبين الناس أن الحياة باطل، وأن الدنيا غرور، وأن الآمال لعب، وأن الأماني كذب؟ ثم فكر كيف انجلت عنك الغمرات، وكيف استقبلت أيامك راضيًا عنها، باسمًا لها، مبتهجًا بها، مجاهدًا في سبيل ما تبتغي من المنافع، والمآرب كأنك لم تشيع جنازة، ولم تفقد صديقًا، ولم تتعظ بموت، ولم تستيقن أن الحياة، وما فيها باطل، وغرور؟
لا ترع يا سيدي، لا ترع، إن فقد الصديق حين يختطفه الموت إلى غير رجعه يُوئِسك من الحياة حينًا يقصر أو يطول، ولكنه لا يلبث أن يرد إليك الأمل، ويملأ قلبك بالأماني، ويدفعك إلى العمل، ويملأ نفسك نشاطًا ومرحًا، فكيف بما يعرض لك من فقد الصديق الحي الذي لم يختطفه الموت إلى غير رجعة، وإنما اختطفته المنفعة إلى رجعة قريبة أو بعيدة. إنه يعرض عنك اليوم فقد يقبل عليك غدًا، إنه يمكر بك الآن فقد يمكر بعدوك بعد حين، إنه يأتمر بك ليؤذيك في هذه الظروف فقد يأتمر لك لينفعك في ظروف أخرى.
•••
خذ الحياة كما هي، وخذ الناس كما هم، وقدِّر أن مما يلائم طبائع الأشياء أن يموت الناس، وهم أحياء، وأن يحيا الناس، وهم أموات. إنك تأسى لما فقدت من صديقك هذا الذي تنكر لك، وائتمر بك، وألَّب عليك، ولكنك تنعم بهذه الذكرى التي تستبقي لك أولئك الأصدقاء الذين اختطفهم الموت فتولوا عنك، لم يمكروا بك، ولم يكيدوا لك، ولم يؤلبوا عليك.
قوم يموتون، وهم أحياء فتعزَّ عنهم، واصبر عليهم، فقد ترد إليهم الحياة ذات يوم، وقوم يحيون، وهم أموات فاذكرهم أجمل الذكر، واستبق حبهم في قلبك، وودهم في ضميرك، وامنحهم بين حين وحين كلمة خير، ودمعة وفاء.
لا ترع يا سيدي، لا ترع، فإن هذا الأمر الذي يؤذيك، ويضنيك، ويشق عليك لا يجري عليك وحدك، وإنما يجري على غيرك من الناس انظر من حولك فسترى نفوسًا تعرض للبيع، وأخلاقًا تعرض للمساومة، منها ما يباع بثمن بخس، ومنها ما يباع بثمن لا بأس به، ولكنها كلها تباع على كل حال.
وما الذي تنكر من ذلك، وحياة الناس رهينة بمنافعهم ومآربهم، وحضارة الناس شيء مكتسب ليس من الضروري أن يمتزج بدمائهم، ويجري في عروقهم، ويصبح لهم مزاجًا، وطبعًا، وإنما هو شيء متكلف لا يؤمن به، ولا يؤمن له إلا الأقلون. فأما الأكثرون فيتخذونه وسيلة يتقي بها بعضهم شر بعض، وقد يبتغي به بعضهم شر بعض.
•••
فكر، إن هذه الأزمات التي تلح على الناس منذ أول هذا القرن تلقي عليهم دروسًا فيها الخوف، وفيها الإغراء، فيها اليأس، وفيها الرجاء، فيها انتهاز الفرص، وفيها الثبات على الخلق الكريم.
إن هذه الأزمات تعلم الناس أن الحياة قصيرة هينة رخيصة، فمن الخير انتهازها، والانتفاع بها إلى أقصى آماد الانتفاع. هذه الملايين التي أرسلت إلى الموت ابتغاء العدوان، وهذه الملايين التي أرسلت إلى الموت ابتغاء دفع العدوان، وهذه الملايين التي عذبت في معتقلات الأسر، وهذه الملايين التي صب الموت والعذاب عليها صبًّا؛ لا لشيء إلا لإرضاء حاجة الإنسان إلى البغي، والإثم، واللذة البشعة.
كل هذه الملايين قد أقامت الدليل للناس على أن الحياة قصيرة هينة رخيصة، وأقرت في نفوس كثير من الناس أن الحزم إنما هو في انتهاز الفرصة، واقتضاء المنفعة، والاستمتاع باللذة، مهما تكن النتائج، ومهما تكن الظروف. فما الذي تنكر من أن يدعو هذا كله إلى إهدار القيم التي ألفتها، وضياع المقاييس التي نشأت عليها؟ وما الذي تنكر من أن يتحول عنك الصديق لأنهم لا يجدون عندك منفعة، ولا مأربًا، أو لأنهم يجدون عند غيرك من المنافع، والمآرب أكثر مما يجدون عندك؟
•••
لا ترع يا سيدي، لا ترع، فليس في الأمر ما يدعو إلى الروع. وإنما أنت خليق أن تختار بين اثنتين، وأن يكون اختيارك عن حزم وبصيرة، وعن روية وتفكير، وعن أناة وتحفظ واحتياط. فإما أن تستبقي ما نشأت عليه من خلق، وما فطرت عليه من مزاج، فتمتنع على الغواية، وتقاوم الإثم، وتصون نفسك من أن تكون سلعة تعرض للبيع، والشراء، وتعصم أخلاقك من أن تكون موضوعًا للمساومة، وما يكون في المساومة من ارتفاع الأثمان، وهبوطها، وإذن فأيسر ما يجب عليك إذا اخترت هذه الخصلة؛ أن ترضى بالقليل، وتقنع باليسير، وتروض نفسك على غدر الصديق، وخيانة الإخوان، وتحول الرفاق، وتنكر الخلان. تلقى ذلك باسمًا له، وساخرًا منه إن كنت من أولي العزائم الماضية، والهمم العالية، وتلقى ذلك شقيًّا به محزونًا له، ولكنك تحتمله على كل حال إن كنت من الصادقين الذين لم ترتفع نفوسهم إلى منازل النابغين والأفذاذ. وإما أن تدور مع الزمن، وتساير الحياة، وتنعم حين تساق إليك، وتعرض نفسك للبيع حين تسنح الفرصة لك، وتختطف اللذة حين تساق إليك، وتعرض نفسك للبيع فتبيعها بالثمن الغالي إن أتيح لك، وبالثمن الرخيص إن لم تجد بدًّا من قبول الثمن الرخيص.
لا ترع يا سيدي، لا ترع، فليس في الأمر ما يدعو إلى الروع. إنك قد اخترت الخصلة الأولى إلى الآن فلم تزدهك المنافع، ولم تستخفك اللذات، ولم يستهوك السلطان، ولم تبع نفسك مع البائعين. وقد لقيت في ذلك كثيرًا من الأذى، وصبرت نفسك في ذلك على كثير من المكروه، ورأيت أصدقاءك من حولك تتخطفهم المنافع، ويصرعهم حب الشهوات.
ثم إنك تنظر في كل يوم فترى نفسك تسرع إلى الوحدة أو تسرع الوحدة إليها، وترى نفسك مقبلًا على العزلة، ممعنًا فيها، إما لأن الناس من حولك يضيقون بتحفظك وتزمتك؛ فينصرفون عنك، وإما لأنك تضيق بتهالك الناس، وتهافتهم، وتساقطهم على المنافع الوضيعة، كما يسَّاقط الذباب على العسل أو كما تسَّاقط الفراش في النار، فتنصرف عنهم، وتنشد قول الشاعر القديم:
نعم يا سيدي، أنت قد آثرت الخصلة الأولى، فلم تعرض نفسك للبيع، ولم تطرح أخلاقك للمساومة. وأنت ترى النفوس من حولك تباع، وترى الأخلاق من حولك تعرض للمساومة؛ فيؤذيك ما ترى، ويداخلك الشك فيما اخترت لنفسك من سيرة، وما سلكت بها من طريق.
وما أرى إلا أن هذا الروع الذي يملأ اليوم قلبك، ويفسد عليك أمرك؛ لأن صديقك هذا قد تحول عنك، وجزاك بالوفاء خيانة، وبالبر مكرًا وكيدًا، ليظفر بمنصب خطير يغل عليه مالًا لم يكن يحلم بأقله، ما أرى إلا أن هذا الروع مظهر من مظاهر الشك الذي يخامر نفسك، ويداخل ضميرك، فأنت حائر لا تدري أمخطئ أنت أم مصيب؟ وأنت تسأل نفسك، ولولا الحياء لسألت الناس، أعاقل أنت أم مجنون؟
إن المنافع تسعى إليك، وإن الآمال تتراءى لك، خلابة جذابة براقة، وإنك ترى الناس من حولك يسعون إلى المنافع، ويتهالكون على الآمال، وإنك تهم أن تفعل كما يفعلون ثم ترد نفسك إلى الحزم، وتأبى عليها الهوان. وما أكره لك هذا الروع، وما أشفق عليك من هذا الشك، فلست أحب للرجل الكريم أن تكون كرامته عادة مألوفة، وشيئًا يسيرًا لا مشقة فيه، وإنما أحب له أن يكسب كرامته كسبًا، ويأخذها غلابًا، ويفرضها على الناس فرضًا، وإن يعرض له الشك في كل يوم فلا يبلغ منه شيئًا، وإن يلح عليه الإغراء في كل ساعة فلا يُلين له فناة، فهو ناظر لنفسه في كل لحظة، ومدافع عنها في كل حين. فجدد الاختيار لنفسك بين الحياة السهلة اليسيرة الحلوة المواتية وبين الحياة الصعبة العسيرة المرة المجافية.
فإن اخترت الثانية فنعم الصديق، وإن اخترت الأولى فثق بأني لن أروَّع لفقدك كما رُوِّعت أنت لفقد صديقك؛ ذلك لأني وطنت نفسي على موت الأصدقاء، وهم أحياء، وعلى حياة الأصدقاء، وهم أموات، ولأني أنشد نفسي من حين إلى حين هذا الشعر الذي رد معاوية عن الانهزام يوم صفين: