وردة ونرجسة
جامعة كمبردج في إنكلترا من أكبر جامعات العالم، أو بالأحرى من أهمهنَّ وأرقاهنَّ، وأمثالها في الأصقاع المتمدِّنة قليلة جدًّا تُعدُّ على الأصابع، ومعظم خرِّيجي هذه الجامعة من فطاحل العلماء؛ ولهذا يؤمُّها أبناء الأماثل والأغنياء الكبراء، ويندر أن يتخرّجَ أشراف الإنكليز في غير هذه الجامعة وجامعة أكسفرد التي تضارعها.
في ربيع غير بعيد العهد حَفَل منتدى تلك الجامعة بجمهورٍ من كبراء الإنكليز، يوم توزيع الشهادات على الذين أتمُّوا الدروس في دوائر تلك المدرسة المختلفة من: علمية، وطبية، وهندسية، وحقوقية … إلخ.
وقد استوجه أنظارَ ذلك الجمع الغفير في رحبة المنتدى الفسيح إشراقُ وجهٍ صبوحٍ كان يُلقي أشعَّة الجمال والأبهة في فضاء ذلك المحفل فيزيده جلالًا، نعني بهِ محيَّا اللايدي لويزا بنتن ابنة اللورد هربرت بنتن أف هندستون.
فقد اشتهرت هذه الفتاة بمَزِيَّتين يندر أن تجتمعا في شخص واحد: الأولى الحسن البديع حتى أنها عُدَّت بين مفردات الحسان القليلات في إنكلترا، والثانية جمال العقل؛ فكانت نابغة أترابها في الذكاء والمعرفة، وقد امتازت بقرض الشعر بين رصيفاتها في المدرسة، وظهرت لها منظومات مطرِبة أبدعها «الوردة الصفراء»، وهي حكاية مؤثِّرة في قصيدة طويلة أخذت شهرة في عالم الشعر، والفتاة لم تتجاوز لذلك العهد العقدَ الثاني من العمر.
ومع أنها كانت بين الحشد في يمين المقدِّمة، إلا أن معظم الأبصار كانت تترامى عليها، والقلوب تتهافت إليها، وقد طمع باستيهاب فؤادها والظَّفَر بيدها أكثر الشبان النبلاء والأغنياء في إنكلترا. ولم يفقد هذا المطمع إلا الجبان وضعيف القلب الذي ليس عنده برهان يقنع نفسه بكفاءَتِه لها بالرغم ممَّا فطر عليه كل إنسان من الغرور. وكثيرون من الشبان اجتهدوا أن يحصلوا على أوراق الدعوة إلى تلك الحفلة لأنهم علموا أن أخاها المستر روبرت بنتن سَيَنال شهادة البكلوريا فلا بد أن تكون هي هناك.
على أن المِس لويزا بنتُن لم تكن لتعبأ بأحد من الحضور، الذين كانوا يصوِّبون سهام لواحظهم إليها، فكانت تلك السهام ترتد عن مجنِّ إغفالها مكسَّرةً أو مشعثة الرءوس؛ بل كانت تنظر في الغالب إلى منصَّة المنتدى قلقةً كأنها تنتظر وقوف الخطباءِ الواحد تلو الآخر على ذلك المنبر السَّنِيِّ.
وكانت وقائع الحفلة مقصورة على أربع خطبٍ صغيرة من نوابغ المنتهين من جُلِّ دوائر المدرسة، وخطاب ضافي الذيول لأحد مشاهير العلماء، وخطبة توزيع الشهادات للرئيس. فكانت لويزا تترقب انتهاءَ أول هذه الخطب بفروغ صبر إلى أن كانت نوبة خطيب الدائرة العلمية المستر إدورد سميث، وهو شاب في الحادية والعشرين من عمره، بَشوش المحيَّا، سعيد الطلعة، رقيق الطبع، رضيُّ الخلق، اشتهر بين أقرانهِ بطيب قلبه وكرم أخلاقهِ ونبالة نفسهِ، كما اشتهر بحدة ذهنهِ وصفاء مخيِّلَتِهِ، وعُرِفَ بينهم شاعرَ المدرسة.
فلما وقف في المنبر دَوَّت رحبة المحفل تصفيقًا لهُ، ولويزا بنتن اعتدلت في كرسيها، ومالت شيئًا إلى الأمام، كأَنها تستعدُّ لأن تستوعب ما يلقيهِ هذا الفتى. وكانت خطبته قصيدة عنوانها «النرجسة الذابلة» وهي حكاية حالٍ. وكأنَّ ذلك الفتى الشاعر كتلة مغنطيس، فما امتثل في المنبر حتى اجتذب إليه الأبصار كلها عن مس لويزا بنتن، ولم ينتهِ بيت من قصيدته إلا أتبعهُ الحضور بدويٍّ من التصفيق.
•••
ولا نشغل القارئ الكريم بوصف تلك الحفلة الزاهرة، وما اشتملت عليه من مجالي الأبهة والجلال، ولا سيما عند توزيع الشهادة، فنضرب عن كل ذلك صفحًا، ونتقدم إلى ما كان عند انتهاء الحفلة.
انتهت الحفلة وامتزج الناس بعضهم ببعض امتزاج الصهباء بالماء، يُحيُّون الصديق صديقه والقريب قريبه، ويُهنئون الشبان الذين نالوا الشهادات العلمية والفنية على اختلاف أنواعها، ويتحادثون فيما رأوا وسمعوا من محاسن الحفلة وأمجادها. وكانت «النرجسة الذابلة» موضوع حديث الكثيرين، والفتى إدورد سميث مقصد جميع المهنِّئين تقريبًا، كأنه عريس خرج من تحت يد المكلل أو ملك برز تحت التاج. تجاذبه الكل يُعَرِّفونه بأنفسهم ويهنئونه إلَّا اللايدي بنتن وابنتها وابنها، فبقُوا واقفين في مكانهم يمر أصدقاؤهم بهم يهنئونهم بحصول اللورد روبرت على الشهادة العلمية، وكان روبرت وإدورد الشاعر صديقين حميمين جدًّا، تشابهت أخلاقهما في اعتبارات جمة، وإن كانت قد اختلفت مواهبهما بعض الاختلاف؛ لأنه بينما كان يصعد إدورد في سماء التخيُّلات الشعرية، كان روبرت يتعمق في أسرار الحقائق العلمية المادية، وقد نال الامتياز في دراسة الطبيعيات.
وكانت لويزا ملكة ذلك الحشد تتبع بأبصارها إدورد في تخلُّله بين الجمهور حتى رأته وقد صار قريبًا من مكانها ووجهته إليها، وكانت وقتها تحادث صديقة لها تُدْعَى مس ماري جنستون وأخوها روبرت يشترك معها في الحديث، وأمهما لاهية بحديث مع اللايدي جنستون فقالت لويزا: كيف رأيت خطب الاحتفال يا مس جنستون؟
– كلها شائقة، وأظنكِ فضَّلتِ الشعريَّ منها.
فضحكتا معًا.
– نعم على الغالب. وأنتِ؟
– أقول لكِ الحق وإن لم أكن شاعرة، فقد رأيت أن قصيدة المستر إدورد حلية الاحتفال.
– أتعرفينه؟!
– الآن تعرَّفت بهِ، فرأيت منه شابًّا على غاية من التهذيب، وأنت يا مس بنتن أتعرفينه؟
– كلا إلى الآن، مع أنه صديق روبرت. فلم يخطر لي أن أتعرَّف بهِ قبل الآن، ولكن لما رأيت في لائحة (بروغرام) هذه الحفلة عنوان «النرجسة الذابلة» بجانب اسمه تُقْتُ أن أسمعه؛ لأرى كيف يصوِّر هذه النرجسة ذابلةً، ولما سمعته صرت أرغب أن أتعرَّف به.
فقال أخوها روبرت: كيف رأيتِ صورتها يا لويزا؟!
– الحق إنها نرجسة ذابلة.
– ها هو قريب لنا.
ثم أومأ روبرت إلى صديقه إدورد أن يتقدَّم، ولما دنا إدورد منهم قدَّمه روبرت إلى أمه وأخته ومن معهما؛ فبشَّت له اللايدي بنتن بشاشة الوُدِّ لأنها كانت تسمع عنه الثناء الطيب من لسان ابنها روبرت، وتعرف أنهما صديقان، وبعد أن هنَّأته عادت إلى حديثها مع اللايدي جنستون، ولم تزِد على التهنئة لأنها كانت مشهورة بأنفتها وكبريائها.
أما لويزا فبالرغم من خيلائها التي كسبتها من أمها ابتسمت له ملءَ شفتيها لما قُدِّم لها، وصافحته كصديق قديم قائلة: أهنئكَ يا مستر سميث «بالنرجسة الذابلة»، أما الشهادة فأهنئها بك؛ لأن مصوِّر النرجسة هذا التصوير لا تزيده الشهادة تعريفًا، وإنما هو يزيدها فصاحةً في بيان معرفتهِ.
– أشكر لكِ تفضُّلكِ بهذا الثناء يا سيدتي، وأراكِ قد أنعشتِ النرجسة من ذبولها بهذا الإغراق في الإطراء.
– لا إغراقَ يا مستر سميث، أتظن أن هذه الشهادة تعرِّف العموم أو الخاصة بك كما تعرِّفهم هذه القصيدة الرَّنَّانة؟ وحسبك شهادة دويُّ المحفل اليوم بصدى الثناء على إجادتك.
– إن كان ﻟ «النرجسة الذابلة» محاسن يا سيدتي، فإنما هي مستمدَّة من «الوردة الصفراء»، كما يستمد القمر نوره من الشمس.
فصعدت حمرة الحياء إلى وجنتي لويزا، وومض برق الابتسام من بين شفتيها، وقالت: أظنك قرأت «الوردة الصفراء» في مجلة «حياة المرأة»؟
– بل حفظتها عن ظهر قلبي، ولما كنت أنظم نرجستي كانت وردة المس بنتن توحي الشعر إليَّ؛ فمنها تنبهتُ إلى كل تخيلاتي الشعرية من مجاز واستعارة، وكأني كنت أنسخ لا أبتكر.
– إذا كنت قد نسختَ حقيقة، فلم تكن أمينًا في النسخ؛ لأن النسخ جاء أنقى وأصفى وأبدع من المنسوخ عنه، ولكني لا أراكَ ناسخًا بل واضعًا نموذجًا لمن ينظم في مثل هذا الأسلوب، الذي تحدَّيْتَه في نظم النرجسة؛ فأنا أشكر لك هذا الدرس الذي استفدته اليوم منها، والذي سأستفيده فيما بعد من التأمل فيها متى قرأتها حيث تنشر.
– لقد أبْكَمْتِنِي يا سيدتي؛ فإني لا أقدر أن أباريك في مضمار المجاملة، ولا أراني أستحق هذا الإطراء الذي تتفضلين بهِ تنشيطًا لي.
– معاذ الله أن أجامل مجاملة، وإنما هو اعتقادي أعلنته لك.
– إذن أؤمل أن أكون يومًا ما شاعرًا؛ لأن ثناء من شاعرة مثل اللايدي لويزا بنتن هو أعظم شهادة أتلقاها اليوم، وهو يمدني بقوة جديدة، ويحمسني على استكداد قريحتي في النظم.
عند ذلك قصرت مس بنتن الحديث، كأنها انتبهت إلى أنها تطرَّقت فيه إلى ما وراء الحد السائغ لمثلها أن تُجامل صديقًا جديدًا، فاستأنفهُ أخوها المستر روبرت قائلًا لصديقه: أفكرك يا عزيزي إدورد مذ الآن بحفلة الأنس، التي ستنعقد من الأصحاب والأقارب في قصر كنستون يوم الإثنين القادم، وبعد غدٍ تنتهي إليك رقعة الدعوة، فإن بدا أي مانع لحضورك أرجو منك أن تزيلهُ؛ فإني أحسب أن وجودك معنا ركن من أركان الحفلة؛ لأني سأكلفك بمحاضرة بعض المدعوات عند اللزوم.
– لا أنسى ولن أنسى يا عزيزي روبرت ذلك اليوم السعيد المنتظر، بل أترقبه بصبر، وسيَّان أرسلتَ لي رقعة الدعوة أو لم ترسلها، فإني أنضم إليكم وأكون كواحد من البيت.
– إني أسرُّ جدًّا بدالَّتك هذه يا إدورد وأبادلك مثلها؛ ولهذا أجتنب أن أشكرها لكَ لأني أعتبر أن الشكر والدالة متنافيان فلا يجتمعان.
عند ذلك دنا أحد أصدقاء إدورد، فمال هذا إليه بعد إذ اعتذر من آل بنتن وانحنى لهم، وعمَّا قليل أخذ الحشد يفرغ من المنتدى جماعاتٍ وأفرادًا.
الحق أن لويزا ابنة اللورد بنتن قد سخت جدًّا بالثناء على إدورد سميث الشاعر الجديد خلافًا لعادتها ولخلقها؛ فإنها يندر أن تندهش لِمُدهِشٍ، أو أن تُعجَبَ بمعجبٍ، أو أن تقرِّظ أمرًا حسنًا، وإن فعلت فبشحٍّ وتقتيرٍ؛ كانت كذلك لسببين: أولًا لأنها مكتسبة من أمها طبع الخيلاء والتيه والأنفة، وثانيًا لأنها كانت ذات مواهب نادرة؛ ولهذا لم يكن الناس ليستنكروا تيهها؛ لأنها كانت تستحقه.
ولكن ما الذي استنزلها عن عرش افتخارها وازدهائها إلى مجاملة إدورد سميث وتبليغ الثناء عليهِ وإطراء شاعريتهِ، مع أنها هي شاعرة فكانَ يَنتظر أن تَكون حسودًا؟ هناك قوة تفوق قوة الشَّمَم والخيلاء، وهناك جزء في الشخصية الإنسانية يسود أحيانًا على سائر أجزائها. النفس هي الجزء الرئيسي في الشخصية الإنسانية، وإنما تترأس بقوة الشمم، ولكن يحدث أحيانًا أن يتغلب الحبُّ على الشمم، ويغتصب القلبُ عرشَ الرئاسة من النفس، ويستوي مكانها في منصة السيادة على الشخصية، ويكون الآمر الناهي.
والظاهر أن رُوحَي لويزا وإدورد تماسَّتا في الجو الأثيري؛ فنشأ من احتكاكهما شرَرٌ أيقظ الحب في فؤاديهما وجعل يُلهبهُ، هكذا استقوى قلبها على نفسها وغلب حبها خيلاءَها؛ فلم يصعب عليها أن تبالغ في إطراء إدورد وتقريظ شاعريتهِ.
أما إدورد فقد لمست قلبه تلك الشرارة، وأيقظت حبه منذ قرأ «الوردة الصفراء» وأُعجِب بها؛ وصار يتوق أن يرى ناظمتها. نعم إنه كان صديق روبرت أخيها، ولكن صداقتهما حديثة العهد جدًّا لم تتمكن إلَّا في العام الأخير، وقد زادها إدورد تمكنًا بعد قراءَة «الوردة الصفراء»؛ إذ شعر بزيادة الميل إلى روبرت، وصار يراه مجموعة محاسن تُحَبُّ، كذا النفس إذا طمعت بأمر عرفت كيف تمهد السبيل للوصول إليه. صداقة روبرت سبيل للتعرف بلويزا، هكذا توقَّع إدورد وهكذا صار.
ولم يكن إدورد ليتمادى في محادثة روبرت عن أختهِ لئلَّا ينبه ظنونه؛ فلم يحدثه عنها سوى مرة بعد قراءة قصيدتها مقرِّظًا إياها، ولا ريب أن روبرت أبلغ إلى أخته ذلك التقريظ في حينه، وكان بلوغه بدء ترفرف الروحين في الفضاء ليتصادفا ويتماسَّا؛ ولذلك لم يقدر إدورد أن يعرف شيئًا عن لويزا لينشئ في مخيلتهِ صورةً لها، وجُلُّ ما عرفه عنها أنها درست في دائرة البنات في جامعة أكسفورد، وأنها انتهت في العام الفائت. وإنما استنبط ذهنه من معاني قصيدتها صورة تقريبية في مخيِّلته، فلما رآها وحادَثها وجدها تشبه الصورة الخيالية التي صوَّرها في ذهنهِ بعض الشبه؛ بيد أنها أسمى وأتمُّ، فعاد إلى بيتهِ ملتهب الفؤَاد بحبها ولكنه قليل الطمع بها؛ لأنها من الأشراف وهو من العامة، وبين الطبقتين حجاب كثيف يندر أن يُنفَذ منه، فكان إلى ذلك الحين يقنع بالحب العقيم، ويعلل النفس بلقائها يوم الإثنين القريب في حفلة الأنس التي ستنعقد في قصر كنستن إكرامًا لنيل أخيها الشهادة. وما كان سروره بشهادتهِ وبإطراء الناس لقصيدتهِ نقطة في بحر سرورهِ بأمل الالتقاء بها.