عزم النفس الشماء
مستر إدورد سميث
أنتظرك غدًا الساعة الحادية عشرة في قصر مونتمار، وإذا لم تَرَنِي في باب الحديقة وحدي فابتعد، لا تدع أخي روبرت يراك، أو يعرف بوجودك هناك. أَبِدْ هذه الرسالة من الوجود وإلا كانت الأولى والأخيرة بيني وبينك.
قرأها إدورد أولًا وثانيًا وثالثًا، فلم يفهم منها شيئًا غير موعد اللقاء، فحار في أمره، ولكنه رجَّح اليأس على الأمل، فامتطى جواده فوصل إلى قصر مونتمار الساعة العاشرة، فدنا من باب الحديقة فوجده مقفلًا فعاد إلى وراء الآكام، وصار كل هنيهة يشرف على الباب فيجده مقفلًا، وما دنت الساعة الحادية عشرة حتى كان قد أطلَّ عشرين مرة، وفي المرة الأخيرة وجد لويزا واقفة في باب الحديقة فترجل ودنا منها فجُنَّ؛ إذ رآها وقد تقرَّح جفناها من البكاء، فامتثل أمامها وفؤاده ينتفض جزعًا، وسألها من غير أن يحييها: ماذا جرى يا لويزا؟
– نتيجة ما عمِلت أمس. أما نصحتُك ألَّا تفاوض والديَّ بشأني؟
– ماذا جرى؟
– قرأ أبي رسالتك ثم دفعها إلى أمي، فأمعنت النظر فيها قليلًا. وكنت أرى ضبابة من الغيظ تتكاثف على محياها، ثم التفتت بروبرت وقالت: «لا يأتِ إدورد سميث إلى هنا بعدُ، ولا تجتمع به في مكان.» فسألها أخي عن السبب فقالت: «كذا أريد.» ومن ذا يردُّ إرادتها!
– وماذا قال أبوكِ؟
– لم يفُه ببنت شفة، ولكن كانت ملامحه تدل على موافقته لأمي.
– هل قرأتِ رسالتي؟
– نعم قرأتها أنا وروبرت.
– وماذا قال روبرت؟
– لم يقُل شيئًا، ولكنه لا يسعه إلا مطاوعة أمي.
– إذن أصبح روبرت خصمي.
– كذا في الظاهر على ما أظن.
– أيُّ شيء في الرسالة أغضب أمكِ؟
– ذلك ما لم أستطع أن أفهمه، فقد كان يمكنها أن ترفض الالتماس من غير أن تغضب وتسخط.
ثم تأمل إدورد برهة، وقال بفكره: «ما هي إلَّا وشاية خالي. لا يستحيل أنه رآني مصرًّا على مخالفته ومطاوعة هواي أوعز إلى اللايدي بنتن بأسلوب لا أعلمه أن بيني وبين لويزا صلة حبٍّ، فنفَّرها مني حتى إذا انتهت رسالتي إليها حمي غضبها، ألا يحتمل أن يكون فعل ذلك؟ نعم نعم، هذا هو الأرجح؛ فإني أرى هذا الرجل لا يغفل عن أي وسيلة لرد سبيلي إلى ابنته فما العمل؟» بعد هذا التأمل قال: لويزا.
– ماذا؟
– بنيتُ في الليل الأسبق قصورًا في الهواء، ولكني سأبنيها على الصخر إن شاء الله.
– لم أفهم.
– سيستحق إدورد سميث يدك إن شاء الله.
– لم أفهم بعدُ.
– ستفهمين، ولماذا كنت تبكين؟
– لأني سأُحرم رؤيتك.
– ستُحرمينها إلى حين، وكل آتٍ قريب، لا تفوتني الفرص التي أقدر أن أجتمع بك فيها، ولا أظننا يتعذر علينا أن نجتمع كما اجتمعنا الآن.
– ولكن هذا الاجتماع لا يليق بابنة اللورد بنتن يا إدورد …
فقاطعها قائلًا: صدقتِ، ولا يليق بحبيبة إدورد سميث؛ فصبرًا يا لويزا.
ثم استأنفت قائلة: وقد أتيت مع روبرت اليوم ومنذ هنيهة حملته أن يذهب إلى الصيد لكي يخلو لي المقام وألتقيك في الموعد المعين، ولو لم تقضِ الضرورة بهذا الاجتماع لما طلبتك. ماذا جرى برسالتي لك؟
– ها هي.
فتناولتها من يده، ومزقتها حتى صارت هباءً ونثرتها.
– لا بد أن تدعو الضرورة أن نجتمع يا لويزا؛ لكي نتفاوض بشأننا فكيف أرسل لك خبرًا؟
فكَّرت لويزا هنيهة ثم قالت: اقصد إلى الأوبرا، أو إلى حيث يمكن أن أراك، فإذا رأيتُ في صدرك وردة صفراء عرفت أن أمرًا يقضي باجتماعنا، فأكتب إليك عن الميعاد والمكان الممكنين للقائنا.
– ولكن قد تغير عنواني.
– ما هو الآن؟
– لا أدري.
– كيف لا تدري؟
– لأني صممت الآن ألا أعود إلى بيت خالي بعدُ.
– لماذا؟
– لأني أود أن أعيش مستقلًّا معتمدًا على نفسي.
– ماذا تفعل؟
– لا أدري.
– أين تسكن؟
– لا أدري. أول رسالة ترسلينها لي أتناولها من دار البريد نفسها، ومتى اجتمعنا ثانية تعلمين عنواني.
تأملت لويزا برهة ثم قالت: لماذا تنفصل عن خالك يا إدورد؟
– لكيلا أكون أسيره على الدوام.
– بماذا يأسرك؟
– ما دمتُ عنده ينصح لي أن آخذ ابنته محفوفة بمال ومجد، أما المال فأعلم أنه وفير، وأما المجد الموعود به فلا أعلمه.
فهبط قلب لويزا عند هذا القول، ولكن تجلدت قائلة: أهذا هو الأسر؟
– بل هو الموت.
– بماذا تعاب ابنة خالك؟
– تكاد تكون العذراء مريم.
– عجيب! كمال ومجد ثم موت يا إدورد! لماذا تأبى نصح خالك؟
فطفر الدمع من عينيه وقال: إذن لا تحبينني يا لويزا.
– ويلاه! كيف أنا هنا ولماذا؟
– إذن كيف تطيقين أن أصغي إلى نصح خالي؟
– بربك لا أطيق.
– إذن تمتحنين حبي؟
– بربك اغفر لي.
ثم سكتا هنيهة ولويزا اقتضبت ذلك السكوت.
– أرى أننا نؤلف رواية حقيقية يا إدورد أو أننا نمثل دورًا.
– ماذا تعنين؟!
– أرى أن المستقبل كثير الحوادث لنا، وربما كان بعضها محزنًا.
– أتظنين أن الحوادث تؤثر على حبنا؟
– كلا، وإنما أخاف عليك من استقلالك.
– إذا كنتِ تخافين عليَّ، فما أنا المستحق حبك يا لويزا.
– أعندك مال تشتغل به؟
– ولا مال لأعيش يومًا واحدًا.
– ويلاه! ماذا تفعل؟ أرسل لك مبلغًا في أول الأمر.
– أردُّه ولا تعودين ترين وجهي.
– إذن علامَ تعتمد؟
– على نفسي الكبيرة وعقلي السليم.
فتمتمت قائلة: لا يُجدِيَان شيئًا في أول الأمر، مهما كان المصباح وفير الزيت لا يشتعل إلا من لهيب الثقاب أولًا.
– اطمئني عليَّ يا لويزا، فإذا لم أجعل نفسي رجلك الكفء فلا أستحق محبتك.