المذلة بقدر الشمم
سيدي الخال مستر هوكر
مهما تغيَّر عليَّ الزمان أظل أسير فضلك، لو ملكت العالم كله وقدمته إليك بقيت مديونًا لك. صرتُ الآن رجلًا مستوفيًا المعرفة اللازمة للعمل بفضل عنايتك؛ فآثرت أن أستقل بمعيشتي وأعتمد على نفسي فائذن لي بذلك.
تفضل أنت وعزيزتي أليس بقبول فائق احترامي.
فقرأها المستر هوكر مرتين وثلاثًا، والدمع يكاد بذرف من مقلتيه، ثم دفعها لأليس فما أتمَّتها حتى أسرعت إلى غرفتها، وجعلت تبكي بكاءً مرًّا وهي لا تدري من تلوم؛ لأنها لا تعلم السبب الحقيقي لهجران إدورد. ثم راجع المستر هوكر الرسالة فلم يجد فيها عنوانًا، فحار في كيف يهتدي إلى مقره؟ فانتظر أن يستعلم عنه من أصحابه لعلهم يعرفون محل إقامته.
ثم جعل المستر هوكر يفكِّر في انفصال إدورد عنه، فلم يجد سببًا له سوى إلحاحه عليه بردِّ قلبه عن حب محبوبته إلى حب أليس، ولكن لم يجد هذا السبب كبيرًا إلى حد أن يحمله على الانفصال والاستقلال.
والظاهر أن المستر هوكر نسي مضايقته له بهذا الإلحاح في المرة الأخيرة؛ حتى كاد يكون بصيغة التهديد.
قال في نفسه: «إنْ هي إلا ثورة طيش أو زوبعة نزق هاجها عنفوان الشباب، ولا تهمدها إلا مذلة الوحدة. أدعه يستقل ويرى قيمة نفسه ويتحقق غروره. ماذا يفعل؟ لا مال في يده، ولا يعرف صناعة فكيف يسترزق ليعيش عيشة الرخاء التي تعودها في هذا البيت؟ لا بد أن يشعر بعجزه ويعود من نفسه صاغرًا؛ وإذ ذاك يسهل عليَّ قياده، ولكن أأدعه للأقدار؟ ويلاه! قد يدفعه اليأس إلى ما لا تحمد مغبَّته. كلا، لا أدعه، بل أمده بقليل من المال حتى متى أنفقه وعضه ناب الفاقة يندم فيعود لين الجانب.»
أما إدورد فكان قد عاد توًّا من مونتمار إلى منزل خاله، حيث سلَّم الجواد لأحد الخدم وذهب من هناك إلى إدارة جريدة «الدايلي ميل»، وطلب أن يقابل المدير، فقيل له إنه محفوف بالشغل فليقل ماذا يريد منه، فدفع للخادم قصيدته «النرجسة الذابلة» مع بطاقة، وقد كتب عليها: «أعرض القصيدة للبيع وأرجو وظيفة في إحدى دوائر التحرير.» وبعد برهة عاد الخادم ببطاقة أخرى وقد كتب عليها المدير: «أما القصيدة فتقبلها الجريدة بعشرة جنيهات، وأما من حيث الوظيفة، فبكل أسف لا حاجة لمحرر أو لمساعد محرر الآن.»
رضي إدورد بالعشرة جنيهات ينفق منها على نفسه، ريثما يجد خدمة وقبضها في الحال ومضى إلى فندق س. في شارع ل. نمرة ٣٣٣ حيث استأجر غرفة بجنيهين ونصف في الشهر دفعهما سلفًا ونام تلك الليلة هناك، ولكن لم تغفل له عين؛ لأنه كان ليلتئذٍ ركام أفكار وبحر آمال.
قرَّر أن يرضى بأي وظيفة ولو صغيرة، بحيث لا تقل ماهيتها عن عشرة جنيهات في الشهر، وأن يستعيض عن المركبة بالترامواي والسكة الحديدية، وعن البيرا بالماء، وعن الأطايب بالطعام البسيط المغذِّي، وعن المقصورة (اللوج) في الأوبرا ونحوها من الملاهي بالكرسي مرة في الشهر بدل ٥–١٠ مرات، وهكذا نظم إدورد لنفسه نسق معيشة جديدة بحيث لا ينفق في الشهر أكثر من عشرة جنيهات.
زار في اليوم التالي أكثر إدارات الجرائد في لندن يلتمس وظيفة فلم يجد، وفي اليوم الثالث جعل يلتمس وظيفة في بعض الشركات المالية فلم يجد؛ حتى ضاق ذرعه وكاد يستولي عليه اليأس، بقي نحو أسبوعٍ يبحث عن مسترزق فلم يهتدِ.
أمَا في لندن المدينة العظيمة وظيفة لإدورد؟ أم أن إدورد عديم الأهلية؟ لا هذا ولا ذاك، بل إن إدورد أَشَمُّ النفس، لا يلتمس وظيفة بتواضع وتذلُّل ومداهنة وتزلُّف، في حين أن الناس اليوم لا يقضون حاجة لطالب إلَّا إذا استوطأوا نفسه تحت أقدام كبريائهم وعجرفتهم. ثم إن الإنسان مهما كان ذا أهلية فلا تعتبر أهليته شيئًا إذا لم يكن محفوفًا بالتوصيات؛ لأن الناس لا يعتبرون المرء لأجل شخصيته ولو كان نبِيَّ زمانه، وإنما يعتبرونه لأجل البِئَة التي هو فيها، ولأجل من يشد أزره ولو كان أخسَّ من كلب وأجهل من همجيٍّ. وإدورد استنكف جدًّا أن يتوسط أحدًا من أصحابه أو أصحاب خاله، أو أن يأخذ كتب توصية منهم، وزِدْ على ذلك أنه لم يشتغل بعدُ لكي يعلم شأنه في دار العمل، ويكون له من آثار أعماله برهان على أهليته.
العشرة جنيهات التي أخذها ثمن قصيدته لم يبقَ منها في آخر الأسبوع سوى شلينين؛ لأنه دفع منها أجرة الغرفة سلفًا جنيهين ونصفًا، واشترى بدلة وبعض الملابس الداخلية بأربعة جنيهات؛ لأنه لم يأخذ من بيت خاله شيئًا سوى البدلة التي كان يلبَسها، وكان يضطر بعض الأحيان أن يركب المركبات وهو يجول من مكان إلى آخر يبحث عن وظيفة؛ فلذلك لم يبقَ معه في اليوم السابع سوى شلينين فقط، فإذا جال في المدينة أنفقهما أجرة انتقال من مكان إلى آخر وبقي صائمًا. وإن أنفقهما على الطعام لم يستطع أن يبتعد عن غرفته لأنه مهما تجلد واحتمل فلا يقدر أن يمشي ساعاتٍ على قدميه؛ إذن إما احتباس أو صيام وفي اليوم التالي الأمران معًا.
أيستدين إدورد من أصحابه؟ لم يعتد، وقد عزَّ عليه جدًّا أن يلجأ إلى أحدٍ منهم وهو شارد من بيت خاله؛ لأنه قدَّر أنهم يتردَّدون في إقراضه وهو على هذه الحالة لظنهم أنهم قد لا يستوفون ما يُقرضونهُ إياه، بل شَقَّ عليه جدًّا أن يعرف أحدٌ من أصدقائه بفاقته، وقد كان مخطئًا بظنونه هذه لأن أصدقاءَه لو عرفوا بأمره لتهالكوا في بذل أنفسهم له، وكان أشدهم امتنانًا له من يقبل هو أكبر قُرْضٍ منه، وأعتبهم عليه وألومهم له من يتجنب هو أن يقبل منه خدمته، ولكن أنفة إدورد انتفخت حتى استنكف أن يقبل المنحة، ولو نزلت عليه من السماء، بل استنكف أن يبيع البدلة التي اشتراها لكي ينفق ثمنها على ضروريات معيشته اليومية.
قال في نفسه: «إذا لم يكن بدٌ من الاحتباس والصيام معًا منذ غدٍ فليكونا اليوم؛ إذ لا فرق بين اليوم والغد. ولويزا قالت لي: لا تعدَّ الأيام بل اعتبر أن لا زمان في الوجود، فاليوم والغد شيءٌ واحدٌ.» وبعد أن كاد يخرج من غرفته أعمل فكرته قليلًا، ثم عاد فأقفل باب الغرفة وجلس إلى مكتبهِ وجعل يقدح زناد قريحتهِ وينظم قصيدةً لكي يبيعها.