IN. OUT.
بقي إدورد حابسًا نفسه في غرفته كل ذلك النهار حتى أتم القصيدة التي كان ينظمها، فاستلقى على المقعد واهيَ القوى أولًا من شدة التعب العقلي، وثانيًا من شدة الخَوَر؛ لأنه منذ المساء الآنِف لم يذُق طعامًا، وبعد هنيهة عاد فقرأ قصيدته وطرب بها جدًّا، وقدَّر أنه سينال ثمنًا وافرًا بها، ثم طواها وأودعها جيبه ونزل إلى المطعم فأكل، ولما قُدِّمت له قائمة حساب وجد أن حسابه يزيد ربع شلن على الشلنين اللذين يملكهما، فتمنى لو أن الأرض تفتح فاها وتبتلعه. سبق السيف العزل، ماذا يفعل؟ دفع لخادم المائدة الشلينين، وقال له: غدًا أدفع لك الباقي مع حساب الوجبة التالية. فنظر إليه الخادم شزرًا لأنه لم يعتد مثل هذا الوعد، وما حدث معه ولا مرَّة أن آكلًا عنده يسوِّف حسابًا أو جزء حسابٍ.
عند ذلك شعر إدورد بمنتهى الهوان، وكاد يطفر الدمع من عينيه، وقد أعمل ذهنه لكي يدفع عنه هذا الهوان، فخطر له أن يستعيد عمل حسابه، فأعاده الخادم فإذا بالحساب الأول غلط، والصواب أنه ينقص عن الشلينين ٣ بنسات، فأخذها إدورد من غير أن ينظر إلى الخادم مشفقًا أن يزيد خجله من نفسهِ، وعاد وليس معه من النقود الَّا ربع شلنٍ.
– وما الداعي؟!
– أتى رجل إلى هنا وأودع لك عندي هذه الورقة المالية بقيمة مئة جنيه وهذه الرسالة.
حضرة المستر إدورد سميث
بعد السلام. إذا كنت تجد استقلالك أهنأ لك وأشرف، فلا أنكره عليك بل أهنئك به؛ صرت رجلًا وبذلك أُسَرُّ أن أراك تتمتع بحريتك الشخصية، وإن كنت ترى نفسك قد أصبحت في غنى عن عنايتي بك، فلا أظنك تستغني عن قليل من المال في أول مرحلة من مراحل استقلالك؛ ولذلك أرجو منك أن تقبل هذه القيمة الزهيدة الآن، ولا أزال لك عند كل اقتضاء، واقبل فائق احترامي.
قرأ إدورد هذه الرسالة غير مرة وهو يستغرب لهجتها؛ لأنها تراءَت له جفاءً فاشتد غمُّه وتزايد غيظه؛ حتى صار يشعر أن كل حرفٍ فيها وخزةٌ في فؤاده، ثم سأل الفندقاني: ألم يقل لك إنه سيأتي ليراني؟
– كلَّا.
نشرنا قصيدة النرجسة فكان صداها ضعيفًا جدًّا؛ ولذلك نأسف على أننا لا نقدر أن ندفع ثمنًا لهذه القصيدة الثانية، ومع ذلك نؤمل أنك بمزاولة النظم تبلغ شأوًا بعيدًا في الشعر.
وقد ظن إدورد أن المدير قرأها وتأملها جيدًا فلم ترُق له، فعاد إلى غرفته كاسف البال وهو يعتقد أن القصيدة لا تصلح؛ فاستحى أن يعرضها على جريدة أخرى لئلَّا يخذل أشد من هذا الخذلان.
اضطجع في سريره منتهَك القوى لأنه مشى مسافة طويلة؛ إذ فرغ جيبه من بنساته ولأنه كان حزين القلب، وكان ظل اليأس يتكاثف على نفسه، ونور الرجاء يتلاشى من أمام بصيرته حتى امتزجت ظلماء قنوطه بظلمة ذلك الليل ولولا الرجولية لبكى.
ندم على رد الورقة المالية التي أودعها خاله له مع الفندقاني، ولكن نفسه الشامخة قالت: «لا، لا بأس، حسنًا فعلت.» ثم خطر له أن يطلع لويزا على حالهِ، ويستدين منها نقودًا لأنه اعتقد أنها هي الصديق الوحيد الذي لا يستهين بهِ في هذه الحال، ولكن اقشعرَّ بدنه عند هذا الفكر وحسبه تجربة من إبليس.
بزغ الفجر وإدورد لم تكتحل عيناه بغفلة، فنهض من سريره وجعل يتمشى في أرض الغرفة وهو يفكِّر ماذا يفعل. لم يعد يلتفت إلى القصيدة، ولا خطر له أن يسعر إلى الاسترزاق من القلم؛ فصار يفتكر أن يطلب عملًا في بعض المعامل بأي راتب، وأن يختصر أسلوب معيشته أكثر من قبل، وأن يغير اسمه ليتنكَّر حتى عن لويزا ما دام في حال سيئ.