صعود سريع
ذلك ما كان من أمر إدورد مع خالهِ، أو ما كان من حاله في عهد استقلاله، فهو أن القصيدة الثانية التي نشرتها «الدايلي نيوز» كان لها صدى بين قراء اللغة الإنكليزية ظلَّ يدوِّي في العالمين حتى ظهرت في الأسبوع التالي قصيرة ثالثة له فاقت على شقيقتيها بداعة. ومنذ ذلك الحين كانت رسائل مديري الجرائد والمجلات تتوارد إليه، وكلها التماسات لما ينظمه من القصائد، وقد تنافس أولئك المديرون في عرض الأثمان الباهظة لقصائده، حتى بلغ الثمن الذي عرضته الدايلي ميل (التي رفضت قصيدته الثانية) ألف جنيه.
وبعد ذلك طلبت جريدة التيمس إلى إدورد أن يكون بين محرريها الكبار، فرضي على شرط أن يبيع مقالاته لا أن يأخذ ماهية شهرية، وفي عهد قصير اشتهر كاتبًا سياسيًا كما اشتهر شاعرًا، وصارت الجرائِد تغريه بالأثمان الباهظة لمقالاته، فاجتهد في دراسة السياسة وقد استكدَّ قواه في دراستها ما وضعه نصب عينيهِ من أمل الارتقاء في سُلَّمِها؛ حتى يبلغ إلى قمتها ويتبوَّأ منصبًا في الحكومة.
ذاق إدورد الذل والهوان أسبوعًا واحدًا، وبعده أصبح عزيزًا وفير الدخل جدًّا؛ حتى إنه دفع لخالهِ في ذلك العام ما يساوي كل نفقاتهِ عليه في العشرين سنة التي غبرت، ومع كل ذلك ظل مصمِّمًا على أن يدفع لهُ طول حياتهِ كل ما زاد على نفقاتهِ، وكل ما يزيد عليها يبلغ أضعاف أضعافها، وأما المستر هوكر فكان يودعها في البنك الاقتصادي باسم إدورد.
هذا من حيث غنى إدورد، وأما من حيث جاههِ فقد أصبح ذا مكانة سامية في أندية الكبراء والشرفاء، وكان يُشار إليهِ بالبنان. أما اللايدي بنتن فما زالت لذلك العهد تأبى أقل صلة بهِ، ولكنها في المجالس العمومية لم تكن لتنكر مكانته الأدبية والاجتماعية، ولا استنكفت أن تمدح ذكاءه ونبالة نفسه؛ حتى كان يستدل أنها تودُّه، وأما إباءَتها أن يدخل قصرها أو أن يكون صديقًا لأحد من أسرتها فكانت سرًّا مكنونًا.
وأما لويزا فكانت فرحةً جدًّا بارتقاء إدورد حبيبها، ومؤمِّلة نتيجة سعيدة لها من جراء بلوغه إلى قمة المجد التي كان يرقى إليها بسرعة. وكانت كل حين بعد آخر تراه في المحافل العمومية، ولا تجسر أن تكلمهُ أمام أمها، ولكنها كانت تغنم الفرص الموافقة للقائهِ وبثِّ عواطفها نحوه، كأنها بتلك الاجتماعات تلقم وطيس حبهِ وقيدًا؛ لتزيد قواه في السعي إلى العُلَا وطلاب المجد.
أما أليس ابنة خاله، فلما رأت أنها كلما تقرَّبت منهُ وتحببت إليه زادته ابتعادًا عنها، وأن ضغط أبيها عليهِ نفَّرهُ حتى هجر البيت، وأنه كلِف بحبِّ اللايدي لويزا بنتن. قالت في نفسها: «حتى متى أترامى عليهِ؟» وجعلت تلك الغيرة تتحولَّ إلى كره شيئًا فشيئًا؛ حتى زالت تمامًا وساد الكره مكانها برهة قصيرة، ثم جعل الكره ينقشع شيئًا فشيئًا عن صفاء فؤادها حتى انجلى عن الحب الأخوي الثابت، فصارت تتوق أن تراه في البيت كأخٍ. وفي ذات يوم كانت وأبوها في الحديقة يتمشيان، فقالت: يا أبتاه، ألم تشتق إلى إدورد؟
– جدًّا يا ابنتي.
– ولماذا لا تراضيه، وتدعوه كل يوم بعد آخر؟
– راعيت عواطفك بذلك، فإني كنت أظن أنكِ أصبحتِ تكرهينهُ لأجل إعراضهِ عنكِ ومجافاته لكِ وخشونته في معاملتك.
– كنت أكرهه كما ظننت، ولكن لم يدُم هذا الكره فصرت أتوق إليه كأخ، سامحْهُ يا أبي وادعُه فإن البيت قاتم بدونهِ، لم أعد ألومه على إعراضه؛ إذ اقتنعت الآن أن قلب الإنسان ليس في يدهِ ليهبه متى شاء لمن شاء.
فتأثر المستر هوكر من كلام ابنتهِ الصادر عن فؤادٍ كله طيبة، ولكن بقي في قلبهِ سحابة خفيفة من الحقد على إدورد؛ لأنه بعنادهِ خيَّب كل آماله الكبيرة التي ظل يحلم بها عشرين سنة، على أنهُ مع ذلك غلبت عواطفه الرقيقة على حقدهِ، وسعى إلى مراضاة ابن أختهِ. ولكن كان إدورد قد ارتقى في سلم نجاحهِ وازداد جفاؤهُ لخالهِ بعد الفراق الطويل، فلما تقابلا تعاتبا قليلًا وتصافيا، وزار إدورد بيت خالهِ، ولكنهُ إذ أصبح لذلك العهد في شواغل وشئون صحافية وسياسية لم يتسنَّ لهُ أن يزورهُ إلا كل أسبوع مرة زيارة قصيرة.