موعد فلقاء
في ذلك المساء ظهرت اللايدي لويزا بنتن في مقصورة من مقاصير الملعب الملكي (الأوبرا)، فاجتذبت كل الأبصار إلى شعاع جمالها الباهر، سرَّحت نظرها في جميع جهات الملعب، والابتسام يتدفَّق من بين شفتيها كينبوع نور. تنقل نظرها على كل المقاصير ثم على الكراسي إلى أن استوقفته «وردة صفراء» في صدر إدورد وهو بالقرب من مقصورتها، وقد علم القارئ أن الوردة الصفراء في صدر إدورد كانت للدلالة على أنه يحتاج إلى مقابلة لويزا لأمر كما اتفقا. فرأته ناظرًا إليها وفي محياه وميضُ سرور أشد تألُّقًا من المعتاد، فابتسمت له ابتسامة خصوصية، وصارت تفكِّر في: ماذا عسى أن يكون مراده من لقائها بعدما قابلته بالأمس؟ وكانت كل هنيهة تلتفت به فتراه ناظرًا إليها، ووجهه يهلُّ حبورًا وأمائر اللهفة بادية في أسارير وجهه كأنه قلق. فحارت في أمره وخطر لها ألف خاطر إلا خاطر أنه قريبها، فغمزته أن يلاقيها في مقصورة اللايدي جنستون صديقتها، وفي أثناء إرخاء الستار انتقلت إلى تلك المقصورة وهي قريبة من مقصورتها، وفي الحال كان إدورد في الباب، فحيا اللايدي جنستون ومن معها وهي من أعز صديقاته؛ لأنها صديقة لويزا.
فاغتنمت لويزا فرصة التهاء البقية بالحديث، وهمست: ما الخبر؟ شغلتَ بالي. أراك فرحًا قلقًا.
– ولا عجب لو رأيتني مجنونًا من الفرح.
– ماذا ماذا؟ قل لأن الفرصة قصيرة جدًّا.
– لا وقت الآن يا لويزا. أين أراكِ غدًا؟
– في مونتمار من الصبح انتظرني عند بوابة الحديقة من الداخل، فإني أدعها غير موصدة كالعادة. ولكن قل لي ما الخبر؟
– مفرحٌ جدًّا، وهو مقلق لكِ إذا عرفتِه من غير تفاصيله.
– وجهله أشد إقلاقًا، فقل قبل أن أمضي.
– أنا ابن خالك يا لويزا، وأنتِ ابنة عمتي.
فظنته يمزح في قالب الجد، وقالت مبهوتة: ماذا تقول؟
– كما سمعتِ.
– أتهذي؟
– وإن قرأتِ ذلك بعد أيام في «التيمس» وسائر الجرائد أتقولين إني أهذي؟
فتأملت لويزا هنيهة، ثم قالت: لم أفهم. ماذا تقول؟
– غدًا تفهمين.
– إلى الغد إذن.
وعادت لويزا إلى مقصورتها، والحيرة مقروءة في مقلتيها؛ حتى لاحظ أبواها وأخوها وسألاها ما خبرها، فابتسمت وفي الحال انتبهت لنفسها وغيَّرت ملامحها، وفي ذلك الليل لم تنم، فكانت تبني قصورًا وعلالي، ولكن ليس في الهواء.
وفي الموعد المعيَّن اجتمع إدورد بلويزا، وصدره أرحب من السماء لها، وفي الحال عانقها ولثمها فدفعته عنها خجِلة قائلة: ما بالك تطفر هكذا؟ ما الخبر؟
– الآن صار يحق لي أن أُقَبِّلكِ يا لويزا؛ لأن حبنا لم يبق عقيمًا، بل صار مثمرًا، فإني ابن خالك اللورد إدورد سميث ابن اللورد هركورت سميث أخي اللايدي مرغريت سميث سابقًا واللايدي بنتن حالًا، وعمَّا قليل تكونين اللايدي سميث كما كانت أمك قبلًا.
– قلت لي مثل ذلك منذ أمس وإلى الآن لم أفهم.
فأخذ إدورد يروي لها حكاية الشيخ جاكوب داي بالتفصيل وهي تسمع، وقلباهما يرقصان طربًا على موسيقى هذه البشارة السارَّة، إلى أن انتهى إدورد من حكايته فدنت منه لويزا وقبَّلته قائلةً: أقبِّلك باعتبار أنك ابن خالي الآن.
– وبعد الآن يا لويزا؟
فضحكت وقالت: أقبلك بأي اعتبار تشاؤه.
– قبليني باعتبار أنك اللايدي سميث.
– لا تكن متسرعًا يا إدورد، أما افتكرت أن تحصل على الأوراق من خالك؟
– افتكرتُ، ولكني أخاف أن يُتْلِفَها إذا كان يأبى أن يعطينيها، فما رأيك إذا أخبرت اللايدي بنتن بالأمر، لعل لها رأيًا أصوب في الاستحصال على هذه الأوراق؟ ألا تظنين أن الأمر يهمها؟
– بالطبع يهمها أن تعرف أن لأخيها ابنًا في الوجود وارثًا لقب أسرة سميث؛ لأنها كانت تحب أباك جدًّا، وإلى الآن إذا ذكرتْه تتحسر وتتأسَّف عليه وأحيانًا تذرف الدمع، والذي ظهر لي أنها لم تعرف قط أنه تزوج.
– ومتى ثبت لها أني ابن أخيها اللورد سميث، فهل تظنين أنها تمنع عني يدك؟
– لا أظنها تمنع لأنها تحبك على ما ظهر لي وكانت تثني عليك؛ ولهذا طالما حيرني أمر إباءتها عليك دخولك إلى قصرنا، وأما الآن فقد انحلَّ هذا اللغز وثبت لنا أن السبب هو كرهها لخالك لا لك.
– إذن ماذا تظنين؟ أببشاشة تستقبلني أو بعبوسة إذا زرتها أو أنها ترفض استقبالي؟
– لا أظنها إلا مقابلتك ببشاشة؛ لأني على ما ألاحظ من ثنائها عليك أنها نادمة على أمرها السابق إذ شعرت أنه ظلم وعداوة بلا سبب.
– إذن أزورها اليوم.
– تفعل حسنًا. فاقصد إليها الآن توًّا.