قد يسوء العمل من حيث تحسن النية
ولما وصلا إلى باب القصر أرسلا بطاقة كتبا عليها: «المستر هوكر واللورد سميث يرجوان مقابلة اللايدي بنتن الآن لأجل أمر مهمٍّ.»
فلما قرأت اللايدي بنتن البطاقة لم يبقَ عندها ريب بأن المستر هوكر يجدُّ لا يهزل؛ فأذِنت أن يدخلا إلى القاعة، وثم أقبلت عليها بمجدها وأبهتها وخيلائها، ففوقفا لها وتقدَّما فصافحتهما باشَّةً، ثم جلست في كرسي هزَّاز من الحرير المخملي كالملكة في سرير الملك، فبادأهما المستر هوكر بالحديث قائلًا: أظن يا حضرة اللايدي بنتن أنكِ وثقتِ برسالتي.
– من أي قبيل؟
– من قبيل أني مخلص في كل ما كتبت؛ فقد اعترفت لكِ بمقاصدي السابقة، وأبنتُ لك نيتي الحاضرة وأظنكِ تعذرينني على القديم وتسامحينني عليه، وتقبلين مني اللورد إدورد سميث هدية ثمينة.
فابتسمت قائلة: إن تهذيبك للورد إدورد هو الشافع العظيم بك، وإني أشاركك بكل إحساساتك الجديدة، وقد نسيت الماضي ولي رجاء حسن بالمستقبل الجديد، ويُسرني أن نبتدئ منذ الآن يا مستر هوكر على وفاق، ولم يبقَ عندي ريب الآن أنك أرسلت الحقيبة مشتملة على الورق، ولكن حيَّرني أمرها فلا أدري كيف اختُلِسَ منها.
– هل وصلت إلى حضرتك ملفوفة بورق؟!
– نعم، ومختومة بالشمع الأحمر، ولما فتحتها ذهلت إذ وجدت الورق فيها أبيض، وأقرُّ لك أني أسأت الظن بك في أول الأمر، ولكني راجعت رسالتك ثانية وثالثة فتأكدت من لهجتها صدق كلامك. فماذا تظن بهذه الحادثة الغريبة؟
– لقد حيَّرني أمر هذه الحقيبة يا سيدتي، فإذا كنتِ قد استلمتها مختومة فلا يمكن أن تكون الأوراق قد سُرقت منها في البريد. وكذلك لا يمكن أن تكون قد فُقِدَتْ عندي؛ لأني قُبَيْلَ لفها وختمها فتحتها وتفقدتها جيدًا فلم تنقصها ورقة.
– هنا العجب، تذكر جيدًا يا مستر هوكر، ألا يمكن أن تكون قد غلطتَ فوضعتَ الورق الأبيض بدل الأوراق المقصودة سهوًا؟
– كلا يا سيدتي، فقد فتشنا جميع أوراقي، فلم نجد أثرًا للورق المقصود بينها.
عند ذاك استدعت اللايدي بنتن وصيفتها، وأمرتها أن تستحضر الحققيبة فأحضرتها ملفوفة بالورق الذي لفها به المسترالمستر هوكر، وشاهدوا جميعًا الشمع الأحمر لم يزل على الخيوط والورق؛ لأن اللايدي بنتن قصت الخيوط قصًّا، ثم فتحوا المحفظة فرأوا ورقًا أبيض من الجنس الدون الذي لا يوجد مثله في بيت المستر هوكر؛ فتأكدوا أن استبدال الورق حصل خارج بيته، فازدادوا حيرة حتى عادوا يخالج ضمير كلٍّ منهم الظن السيئ بالآخر. فالمستر هوكر كان يخطر له أن اللايدي بنتن استبدلت الورق بعد فتح المحفظة لكي تخفي نسب إدورد حتى لا يكون ابن أخت هوكر لوردًا. واللايدي بنتن كانت تقول بفكرها إذ ذاك: «ألا يمكن أن يكون المستر هوكر كاذبًا بدعواه لغاية لا أعلمها؟» واللورد إدورد كان يسيء الظن تارة بعمته كما يسيئه بها خاله، وتارة يسيء الظن بخاله كما تسيئه عمته. ولكن كان كل واحد منهم يغالط ظنه ويؤنب نفسه بسره؛ إذ يرى أمائر الجد والإخلاص والاهتمام بادية على جبهتي الآخرَيْن.
ولما استغرق الثلاثة في الحيرة تنهد إدورد في خلال سكوت قصير، وقال: «أيضيع نسبي بضياع هذه الأوراق؟»
فقالت اللايدي بنتن: كلا، أما أنا فأكتفي بشهادة المستر برون، وإذا رأيته أعرفه حالًا وأثق به. يبقى أن يُعلَن السر للعموم بالصورة المقنعة؛ لئلا يُظنَّ أن الحكاية ملفقة لغايات مذمومة، وأنتما تعلمان الهوان الذي يلحق بنا من انتشار الاعتقاد بتزوير الحكاية.
ففنهض إدورد قائلًا: وأنا لا أقبل أن يذاع نسبي إلا مؤكَّدًا عند الجمهور، فماذا نفعل الآن؟
فقال المستر هوكر: نستدعي المستر برون ونستجوبه لعله يعرف شهودًا آخرين لا أعرفهم يعززون شهادته، ومع ذلك نتحقق أمر الحقيبة في دائرة البريد لعلنا نظفر بالأوراق.
فقالت اللايدي بنتن: ليس لنا سوى ذلك.
وفيما كان اللورد إدورد على مثل الغضا من جراء هذه الحادثة؛ إذ كان مجده وغبطته موقوفين على وجود هذه الأوراق مَثُلَ أحد الخدم يستأذن اللايدي بنتن بدخول رجل غريب لم يشأ أن يعلن اسمه.
فتمرمرت وتبرمت قائلة: يغيظني جدًّا هؤلاء الذين يطلبون مقابلتي من غير أن يعلنوا أسماءهم، فقل لهذا الرجل إنه لا يدخل ما لم يعرِّف نفسه. فقال لها الخادم: ألححت عليه بذلك فأصر على كتمان اسمه، وقال أنه يبتغي مقابلة حضرتك لأمر ذي شأن.
فقالت: يدخل إلى القاعة الثانية.
وكان اللورد إدورد جالسًا مقابل باب القاعة، فبعد هنيهة رأى شخصًا يتبع الخادم مارًّا أمام الباب فما شعر إلا أنه يندهه «مستر داي. مستر داي» فالتفت المار، فرأى إدورد وسمعه يقول: «هو برون الخادم يا سيدتي ائذني له أن يدخل إلى هنا.» فقالت: «ليدخل.» فاستدعاه إدورد.
ولما دخل الشيخ جون داي أو جوزف برون دهش إذ رأى أولئك الثلاثة في مجلس واحد، وأول شيء خطر له هو أن إدورد واللايدي بنتن يحرضان المستر هوكر ويحتالان عليه لكي يظهر الأوراق.
فتقدم وانحنى أمام اللايدي بنتن ثم انحنى أمام البقية.
فقالت له: ألا تزال تذكرنا يا مستر برون بعد هذا الغياب الطويل؟
– وهل أنساكم يا مولاتي؟ لو لم تقضِ عليَّ التقادير بالاختفاء لما فارقتكم لحظة.
فقال المستر هوكر: الذنب ذنبي يا مستر برون، فهل تسامحني؟
– الحمد لله أن عاقبة كل ذلك للخير إن شاء الله.
فقال له إدورد باضطراب: أتيت في حينك يا مستر برون؛ فإننا في أشد الحاجة إليك.
– لماذا؟ أتفاهمتم كفاية؟
– بل تراضينا في الحال يا سيدي برون، ولكن الأوراق … الأوراق مفقودة. ما أنكد حظي!
– وإذا كانت موجودة أفيسمح بها المستر هوكر عن طيب خاطر؟
فقال المستر هوكر: بل إني وهبتها بسرور من نفسي، فإذا بي أهب ورقًا أبيض.
فقال إدورد: نحتاج إلى شهادتك ومعلوماتك يا مستر برون.
فقال برون: لا حاجة إليَّ في شيء، فها الأوراق.
وقدمها للايدي بنتن فدهشوا جميعًا، وسُرِّيَ عنهم كأن خطبًا عظيمًا نزل عن صدورهم.
فقال المستر هوكر: كيف اتصل الورق بك؟ فقد كدنا نختنق غمًّا ونتفتت غيظًا بسبب فقده.
فقال برون: اعذروني وسامحوني؛ فأنا سبب استلابه من منزل المستر هوكر، وقد استلبته لغاية حسنة فأرجوكم أن تسمعوا الحكاية، وثَمَّ احكموا كما تشاءون فإني كنت ولا أزال خادمكم الطائع الأمين.
فقالت اللايدي بنتن: اقعد وتكلم يا مستر برون؛ فإني لا أشك بحسن نيتك.
ثم جلس الشيخ على كرسي، وقال: رأيت هذا الشاب لأول مرة فلهف إليه فؤادي، وبعد حديث قصير عرفت أنه ابن أخت المستر هوكر؛ فرجحت أنه ابن المرحوم اللورد هركورت سميث سيدي القديم. فحثثته وقتها أن يبحث عن نسبه وقبل أن يمضي توسلت إليه أن يتوسط لدى خاله أن يستخدم ابني في منزله؛ ففعل وخدم ابني هناك حتى أمس، وقد سعيت إلى استخدامه عنده لا لأني في حاجة إلى ماهيته، بل لكي ينقل لي أخبار سيدي اللورد وعلاقته مع خاله، وقد أطلعته على السر وأخبرته حكاية فَرَارِي وتغيير اسمي، ولا بد أن يكون اللورد إدورد قد رواها لكما، وبالفعل كان ابني ينقل لي كل أسبوع أخبار بيت المستر هوكر.
وقد علمتُ من هذه الأخبار أن المستر هوكر لا يعلن الأوراق التي تثبت نسب سيدي اللورد ما لم يتزوج اللورد ابنته، وعلمتُ أن اللورد يأبى أن يتزوجها؛ فصرت أخاف أن المستر هوكر يتلف الأوراق لكي يبقى نسب ابن أخته مجهولًا إذا يئس من إقناعه بتزوُّج ابنته، فحرتُ في أمري ماذا أفعل لكي أسرق ذلك الورق؛ لأني لم أكن أعلم أين يودع، وأخيرًا مرَّ بي سيدي اللورد أول أمس، ومن حديث لحديث فهمت منه أن الأوراق محفوظة ضمن حقيبة جلد زرقاء صغيرة توضع في الجيب، وأن الحقيبة مودَعة في درج مكتب المستر هوكر، فذهبت بعد مضي سيدي اللورد إلى بيت المستر هوكر واستدعيت ابني إلى خارج المنزل، وأخبرته عن موضع الأوراق وعلامة الحقيبة، وألححت عليه أن يجد وسيلة لاستراق تلك المحفظة.
أما ما كان من ابني فإنه كان يلاحظ أن المستر هوكر لا ينزل من البيت في الصباح ما لم يجلس إلى مكتبه ويقلب في أوراقه ويكتب ويقرأ؛ فراقبه في صباح الأمس حتى لاحظ أنه جالس إلى مكتبه وقد فتح الدرج، ومن حسن المصادفة رآه يقلب المحفظة بين يديه، وكان يعلم أنه يحب كلبه جدًّا ويُدِلِّلُه ويعنى به، فأخذ هنري قليلًا من الفلفل الأحمر الحار (الشطة)، وفرك به شفتي الكلب وأنفه، وكان مستعدًّا لهذا العمل منذ المساء السابق متوقعًا الفرصة المناسبة، فتهيجت شفتا الكلب جدًّا والتهب؛ فصار يثب ويعوي حتى سمع المستر هوكر عواءه، فخرج من غرفته مبغوتًا ليرى ما الخبر؛ فدخل ابني وفتح الحقيبة وأخذ ما فيها من الأوراق ووضع بدلها ورقًا أبيض لكيلا تتراءى فارغة وأقفَلها وردَّها كما كانت وعاد، ومن حسن الحظ أن المستر هوكر طرده من خدمته على أثر الحادثة.
فبهت الجميع لهذه الحكاية وضحكوا، وأما المستر هوكر فقال: عجيب! لم يخطر لي وأنا متحير لفقدان الأوراق أني تركت الدرج مفتوحًا والحقيبة والأوراق منثورة على المكتب، وهرعت إلى الكلب لأرى ما أمره؛ ذلك لأنه لم يكن ليلوح في بالي أن أحد الخدم يجسر أن يدخل إلى غرفتي، ثم ماذا يا مستر برون؟
– عفوك يا مولاي، إننا فعلنا ذلك لغاية حسنة.
– لا بأس يا مستر برون، لست ألومك على ذلك. أتمَّ قصتك.
فاسترسل المستر برون في حديثه: ولما صارت الأوراق في يدي عقدتُ النية على أن أدفعها للورد إدورد، فذهبت في هذا الصباح إلى الفندق الذي ينزل فيه فلم أجده هناك، فقلت: لا بأس أعود إليه بعدئذٍ، ثم خطر لي أن أذهب إلى منزل المستر هوكر بحجة أن أسأل عن سبب طرد ابني، ولكن قصدي أن أستفهم بأسلوب خفي عما إذا كان المستر هوكر قد علم بسرقة الأوراق، ولما وصلت إلى المنزل سألت الخدم عن سيدهم قالوا: «أتى المستر إدورد إليه في هذا الصباح لأمر مهم، ثم سمعناهما يقولان هلمَّ إلى قصر كنستون»، فخطر لي حينئذٍ أن آتي إلى هنا لأرى إن كنتما هنا، ولأي سبب أنتما هنا لعلي أجد الفرصة مناسبة لعرض الورق، فوجدتها مناسبة والحمد لله.
وكان المستر هوكر واللايدي بنتن واللورد سميث يسمعون حكاية المستر برون، ويبهتون حتى انتهى فضحكوا من هذه الحيلة، وأعجبوا بحرية ضميره في الرواية، وبرروا عمله لحسن غايته وأثنوا على غيرته.
ثم تناولت اللايدي بنتن الأوراق وفضتها، فوجدت كتابة القسيس التي تثبت صحة عقد الزواد، وإمضاءات العريسين والشهود، وكتابة أخرى تثبت عماد اللورد إدورد سميث بإمضاء القسيس وإمضاء أبيه، وكتابة أخرى من أبيه تثبت شخصيته بدليل علامة الوشم، ثم رآها إدورد واحدة واحدة، وكان يتهلل وجهه فرحًا وسرورًا.