شقيقة لا عشيقة
في مساءِ ذلك النهار عاد المستر إدورد سميث من أيدنبرج إلى بيت خالهِ المستر هوكر، وفي يده شهادته العلمية، وفي صدره آمال وفيرة، وفي قلبهِ جذوة حب؛ فاستقبلته أليس بثغر بسَّام، وتلاثما تلاثم الأخوين، وتقدما إلى غرفة المستر هوكر، فرأى إدورد خاله مستلقيًا على سريره، فقبَّل يده وذاك قبَّله قبلات الأب الحنون، وفي مقلتيه دمعات فرح وسرور، وعلى محيا إدورد تهلل وبِشْر.
– لقد ساءَني جدًّا خبر مرضك أيها الخال العزيز.
– لا يسؤكَ يا حبيبي فإنه عرضيٌّ، والحمد لله.
– كيف ترى نفسك اليوم؟
– بأفضل حال، والطبيب يقول: إن نوبة الحمى الأخيرة كانت نتيجة فعل الكينا الذي أخذته، ولي الأمل أن تكون هي النوبة الأخيرة، وغدًا أو بعد غدٍ أخلي السرير.
– أشكر الله على سلامتكم يا سيدي.
– أهنئك يا بنيَّ بشهادتك وبما قدَّرته لك من ثناء القوم على قصيدتك البديعة، وبينما كنت تُلقيها في محفل جامعة كمبردج كانت أليس تلقيها عليَّ هنا، وقلبي يشترك مع المحتفلين هناك بتصفيق الاستحسان.
فحنى إدورد رأسه حنية التواضع والحياء، واستمر المستر هوكر في إطرائهِ له.
– بل نهنئ أنفسنا بك أيها الحبيب، ونتمنى لك مزيد الارتقاء والنجاح، وأسأل الله أن يوفقك في مستقبلك القريب، الذي أتوقعه لك سعيدًا مجيدًا إن شاء الله.
وكانت عينا المستر هوكر مغرورقتين بدمع الحنان والانعطاف، وعينا إدورد تجاوبهما بدمع أفيض من دمعه.
– لا أعجب أن أسمع منك يا سيدي هذا الدعاء القلبي، وأنت مني في منزلة الأب الحقيقي العطوف، ألست أنت الذي ربيتني وعلمتني؟! وهل أعرف أبًا سواك؟! فلا بدع أن تسرَّ بأن تراني راقيًا ناجحًا. وأسأل الله أن يقدرني على أن أكون لك ابنًا طائعًا بارًّا.
– بل أسرُّ يا حبيبي بأن أرى ثمرةً لغرس يدي، وأتحقق أن عنايتي بك لم تذهب سدًى.
وبعد حديث هنيهة قرع خادم المائدة الجرس المؤذِن بالعشاء، فقام إدورد وأليس إلى المائدة وجلسا إلى الخوان متقابلين، وبعد هنيهة ابتدأت أليس بالحديث قائلة: أسفت جدًّا يا إدورد على أني لم أستطع أن أترك أبي تحت فعل الحمى وأحضر الحفلة في كمبردج.
– وأنا أَسفتُ جدًّا وتكدرتُ لمرض خالي، ولا سيما في هذا الوقت الذي كنت أشتهي فيه أن أراكما في تلك الحفلة الزاهرة مع مَنْ رأيت من أهل أقراني الذين كانوا يصفقون لهم عند تناول شهاداتهم.
– هل افتكرتَ فيَّ يا إدورد وأنت تفتخر بمجدِكَ اليوم؟
– أتشكِّين بذلك؟
– كلَّا. لا أشك لأني أذكر الآن جيدًا أني لم أفتكر بسواك يوم نلتُ شهادتي في السنة الماضية، ولكن شتانَ بين يومي ذاك ويومك هذا وبين شهادتي وشهادتك.
وكان إدورد يسمع هذا الثناء ويُعجَب بنفسهِ، ويعجل في تناول الطعامُ ومضغهِ وازدرادهِ على غير انتباه كأنه يتم واجبًا عليهِ، وذلك لأن خمرة الفوز أسكرتهُ.
– كنتُ أتمنى جدًّا يا أليس أن تكوني بين الجمهور، وتري إعجابهم بابن عمتك، وتسمعي إطراءَهم له.
– إذن افتكرتَ بي كثيرًا؟
– أليس افتكاري بك طبيعيًّا؟!
– إذا كنتَ قد افتكرتَ بي الافتكار الطبيعي، فكأنك لم تفتكر إذن.
– عجيب. ماذا تعنين؟
– أعني أنه ليس بدعًا أن تفتكر بي، وتودَّ أن أكون مع مَنْ كان في الحفلة لأني ابنة خالك وكلانا رُبِّينَا في ظل بيت واحدٍ، فافتكارك بي على هذا النحو يُنتظَر من كل واحدٍ حاله مع قريبتِه كحالكَ الظاهرة معي، ولكن سؤالي هو: هل افتكرتَ بي أكثر من المنتظر؟
– افتكرتُ بكِ يا أليس كثيرًا، ومهما كثر افتكاري بك فهو المنتظر، ألا يُنتَظر مني أن أفتكر بكِ كل الافتكار؟
– نعم نعم، إذن لا تزال تحبني؟
– وهل يمكن أن تنقضي محبتي لكِ؟!
فضحكت أليس قائلة بلهجة الهازلة: قلتُ في نفسي: لعلكَ صادفت من يشغلك عني!
فوَجَمَ إدورد عند هذه العبارة، والتهبت وجنتاه إذ خطرت له في الحال مس لويزا بنتن، وكاد يبدو اضطراب منه يفضح أعراض سرِّه.
– هبي أني صادفتُ سواكِ يا أليس فهل تبطل محبتي لكِ؟ هل أنسى عشرة أو عشرين عامًا؟ وهل أنسى رسائلكِ لي ونحن في المدارس؟ هل أنسى أيام تنزهنا في قرى الريف؟ ما الداعي لارتيابك في حبي؟ هل رأيت فيَّ تغيُّرًا؟!
– كلا ليس التغير فيك يا إدورد بل فيَّ.
– أتغيرتِ أنتِ عليَّ؟
– نعم، تغيرت ولكن ليس عليكَ.
– كيف ذلك؟
– صرتُ أشد حبًّا لك يا إدورد.
واغرورقت عيناها بالدمعِ؛ فأدرك إدورد تمام قصدها.
– أوَلم تحبيني قبلًا تمام الحب يا أليس؟
– نعم أحببتك من كل قلبي حبًّا تامًّا.
– فكيف احتمل حبُّكِ المزيد إذن؟
فهمست أليس لنفسها والعرق يندى على جبينها قائلةً: لا أدري.
– وأنا أحببتكِ من كل قلبي، ولا أزال أحبكِ.
– ولكن …
فصمت إدورد هنيهة كأنه يريد أن يختم هذا الحديث؛ لأنه خاف أن ينتهي بما يكدرها أو يكدره، وقد تعذَّر عليه وهو مرتبك أن يتخلص إلى حديث آخر، فعادت أليس إلى «لكن».
– لكن، أود أن تعرف يا إدورد أن حبي لك الآن يختلف عن حبي لك قبلًا.
– مهما يكن فهو حبٌّ يا أليس، وأنا أحبك قدر حبك لي بل أزيد.
– كلا يا إدورد، حب الشبيبة يختلف جدًّا عن حب الصبوة، ألا تعترف بذلك؟ فأيُّ حبٍّ تحبني أنت؟
وكان صوتها يرتجف شيئًا، ولكنها كانت تتذكر كلام أبيها الآخر لها؛ فتتشجع في الحديث.
– نعم أعلم أنَّ المحبة تنمو مع السن فتصير أسمى وأشد إخلاصًا، فأنا أحبك حبًّا يسابقني في النمو يا أليس.
فتململت من زيغانه عن المعنى الذي كانت تحوم حوله وتحاول أن تجتذب ذهنه إليه؛ فلم يُجتذَب، وعادت تتلمَّظ الطعام بسرعة كأنها أُفحِمت، ولم يعد أمامها مجال للحديث، فابتسم إدورد لفوزه في هذه المحاورة، ونشط إلى استئنافها لكي يتغلب تمام الغلبة ولا يدع بابًا مفتوحًا تدخل فيه أليس إلى هذا الحديث في حين آخر.
– إني لأعجب كل العجب يا أليس من تعمُّقكِ في البحث عن حبي لك، كأنك تشُكِّين فيه، وما كنت أظنكِ تشكين مهما طال عليه العهد وتغير الزمان، ولا أرى موجبًا لهذا الحديث الآن.
قال هذا الكلام وعلى محياه لمحة الجِدِّ؛ فتكلفت أليس الابتسام كأَنها تتلافى عبوسته وقالت: لم أشك يا إدورد بحبك لي وليس غرضي أن أتحققه، وإنما بغيتي أن أكشف لك سر فؤادي لتعلم أن حبي لك الآن ليس كحبي لك في الماضي …
وتوقفتْ على عزم أن تستمر في البيان، فأجابها في الحال: أعلم أنه صار أقوى مثلما صار حبي لكِ.
– ليس تغيُّره من حيث القوة يا إدورد، بل من حيث النوع.
– لا أعلم كيف الحب يتنوع!
– أنت شاعر وعلَّامة فكيف لا تعلم تنوُّع الحب؟ كيف تشعر بالحب؟ وإذا كنت لا تشعر بأنواعه فكيف تنظم؟ أنا أعلم أن الشعر من الشعور، فلا أصدق أنك تجهل أن الحب أنواع يختلف بعضها عن بعض كل الاختلاف.
– مثلًا؟
قال إدورد هذه الكلمة بلهجة التهكُّم، كأنه يهزأ من فلسفة أليس، ويأمن فوزها عليه في الجدال وإفحامها إياه.
– أتريد أن أضرب لك مثلًا على تنوُّع الحب؟ أم أن أفصل لك أنواعه تفصيلًا؟
– أكتفي بالمثل ومنه يتضح التنوُّع.
– صدقتَ، ألا تعتقد أن حب الزوجين نوع، وحب الأخوين نوع، وحب الآباء للأبناء نوع، وحب الأصدقاء نوع … إلخ؟
فضحك وقال: وهل هناك أنواع أُخَر أيضًا؟
– نعم ولا داعيَ لعدها كلها.
– وأي نوع من هذه يجب أن يكون حبنا يا أليس؟
– لا تقل يجب؛ لأن ليس في الحب وجوب بل قل أي نوع هو.
– أي نوع هو؟
– هذا ما أسألك إياه.
– أيكون حبنا غير حب الأخوين العزيزين يا أليس؟! أو هل من حبٍّ أسمى وأقوى من هذا الحب؟
وكان هذا الكلام كومضةٍ كهربائيةٍ عبرت في بدن أليس؛ فزلزلت عظامها ونفضت عضلاتها، وكادت تجمِّد الدم في عروقها، فشدَّدت قلبها وطرحت نقاب الحياء عن محياها معتقدة أنها لا تأثم بهذا الإفصاح.
– نعم يكون يا إدورد. وأود أن تعلم أن حبي لك حب فتاةٍ لشاب، وهو أقوى جدًّا من حب الأخوين والأبوين، بل أقوى من كل حب حتى من حب الزوجين. أما أدركتَ ذلك؟
فاكفهرَّ وجه إدورد لهذا الإفصاح، وانعقد لسانه فازدادت أليس جرأةً في الحديث: إني أحبك يا إدورد حبًّا يسقمني ببعدك، ويشغل فكري بك دائمًا، ويحرمني النوم، ويمنعني عن كل لذة لا تشترك أنت فيها معي، وأعدُّ نفسي أسعد العاشقات لأنك أجمل المعشوقين شكلًا وعقلًا، ولأنك مقيم معي في كل حين أمام عيني كما أنك في قلبي.
عند ذاك أخذ إدورد المسألة بالجِدِّ، ورأى أنه من الواجب أن يعلن حقيقة قلبهِ؛ لئلا تنخدع أليس وتبني القصور في هواء الأوهام.
– ولكن حب الأخوين بيننا أغلب من كل حب يا أليس، نحن رُبِّيْنَا في بيت واحد، وتعوَّدنا منذ الطفولية أن نعتبر أنفسنا أخًا وأختًا، وقضينا نحو عشرين سنة تحت هذا الاعتبار، فكيف نقدر أن ننقض في ساعة واحدة ما بَنَتْه طبيعة الحال في عشرين سنة؟! مهما تغيرت إحساساتنا وتنوعت عواطفنا وترقت أميالنا؛ فلا أقدر أن أنظر إليكِ إلَّا كأختٍ، أعاشرك يا أليس وأتنزه معك وأراقصك وأضمك وأقبلك، وأنا أشعر أني أقبل وأضم وأعاشر أختًا، ولا أرى قلبي يحيد عن هذا النوع من الحب.
فامتقع لون أليس، واكمدَّ اكمداد الشمس في حين الكسوف الكلي، ورأت قصور الآمال التي كانت تبنيها في هواء الأوهام هابطة أمام بصيرتها.
– أما أنا فأحبك يا إدورد حب عاشقةٍ لا حبَّ أخت.
– أستغرب ذلك جدًّا يا أليس …
– لا تستغرب، ألا ترى في كل ظاهرة من ظواهر الطبيعة نوعًا من التحوُّل؟! فالتحول ناموس طبيعي يطلق على كل شيءٍ حتى الحب، ألا ترى البرتقالة في أول أمرها خضراء، ثم تبهت خضرتها شيئًا فشيئًا حتى متى نضجت مع الزمان صارت مشبعة الصفرة؟ هكذا مرور الزمان وانفصالنا الواحد عن الآخر في المدارس كفيا لتحوُّل الحب من أخويٍّ إلى غراميٍّ.
وكان بعد ذلك سكوت طويل فإدورد يتأمل في كيف يحوِّل قلب أليس عنه، وأليس تتأمل في ماذا يكون جوابه، وتفكِّر في كيف تجتذبه وقد طمعت جدًّا في استمالتهِ؛ لأنها ظنت أن إِعلان حبها له يستميله.
لم تعد أليس إلى هذا الحديث في ذلك المساء ولا في اليوم التالي، وإنما كانت تلاطف إدورد جدًّا وتضاحكه، وتعنى به وبكل شيءٍ يخصه، ولا تدَّخر جهدًا في مسرتِه؛ حتى جعلت الاهتمام بهِ شغلها الشاغل. أما هو فكان يبسم لها عند كل أمر، ويشكر لطفها، ويتجنب ما استطاع عنايتها واهتمامها بهِ.