ضغط على قلب
وفي مساء اليوم التالي وردت إلى إدورد رقعة الدعوة من صديقه اللورد روبرت بنتن، ففضها بثغر باسم ووجهٍ باشٍّ، كأنه يتوقع أن يرى فيها كتابة من يد لويزا ولكن لم يَرَ، ولماذا يرى؟ لم يستغرب ألا يرى كلمةً منها في رقعة الدعوة؛ لأنه يعقل الأمور جيدًا، ولكن هو القلب يطمع بالكثير حتى بالمستحيل، فهو لم يكن ينتظر كتابةً من لويزا، ولكنهُ كان يتمنى أن يرى كتابة منها لهُ، وكأنَّ قلبه يقول: «ماذا يمنع أن تكتب لي حرفًا إذا كنتُ وقلبها قد أصبحنا في مهد حبٍّ واحدٍ. لماذا تقضي النظامات الاجتماعية ألَّا يتكاتب المحبان حالما يصبحان حبيبين؟ ولماذا تقوى هذه النظامات على الحب؟ بل لماذا تخضع القلوب المستقوية بالحب للتقاليد والعادات البشرية؟»
صَهْ أيها القلب ما تلك النظامات والعادات الاجتماعية إلَّا وحي إله الحب، بل هي مستمدة من نظامات الحب ونواميسهِ نفسها. لويزا تتمنى أن تكتب كلمة لإدورد، ولكن هناك ناهيًا أقوى من الآداب الاجتماعية ينهاها عن ذلك وهو إله الحب، وكذلك إدورد يوَد أن يكتب كلمة للويزا ولكن إله الحب يمسك يده، لماذا يفعل إله الحب هكذا؟ لأنه لو كتب لها وكتبت له في بدءِ حبهما؛ لانتهى حبهما على أثر ذلك.
وكان إدورد يقرأ الرقعة بكل بشاشة وخالُه ينظر إليه: أرى هذه رقعة دعوة يا إدورد. أيمتنع أن تخبرنا أي الأصحاب يدعوك؟
– صديق حميم. وقد تمكنت صداقتنا في هذا العام في المدرسة، وهو اللورد روبرت بنتن. ولا تجهل يا سيدي معزة صديق المدرسة.
اللايدي واللورد بنتن يدعوان المستر إدورد سميث إلى حفلة أنس صباح الإثنين من الساعة التاسعة صباحًا إلى السادسة بعد الظهر في قصر كنستون في حي كنستون.
وكان إدورد يرى لمحة عبوس تتموَّج على وجه خالهِ، وهو يقرأُ الرقعة ولم يدرِ ما الذي كان يدور في خلَدِه. ولكن بعد هنيهة سأله المستر هوكر قائلًا: وهل تلبي الدعوة؟
– وعدتُ.
– متى؟
– لما انتهى الاحتفال المدرسي أخبرني اللورد روبرت أنه مزمِع أن يعقد حفلته هذه، وطلبَ إليَّ بإلحاح أن ألبي دعوته فَوَعدته.
فتبرَّم المستر هوكر قليلًا وسكت، فعاد إدورد يسأله: ألا ألبي الدعوة؟
– تقول إنك وعدت.
– نعم. وهل من محظورٍ؟
– كلَّا.
– إذن لماذا لا أراك راضيًا؟
– لا بأسَ. على أني قلما أسرُّ بصداقة قومٍ كهؤلاءِ، يعتدُّون بأحسابهم، ويتكبرون على الناس، ويستخفون بالغير، ويحتقرون العامة ولو كانوا أسعد حالًا منهم وأوسع نفوذًا وأعرض جاهًا. يفعلون كل ذلك لمجرد أنهم متسلسلون من الأشراف؛ مع أن هناك كثيرين غيرهم من طبقتهم أودع من الحَمَام، يحترمون الفقير قبل الغني والوضيع قبل الرفيع.
فبُهِتَ إدورد من كلام خالهِ، الذي لم يكن ليرتاب بصحتهِ وقال في نفسه: «لا بد أن يكون خالي أخبر مني.» ولكن قلبه أبى أن يصدق هذه التهمة فسأل خاله: وهل تعرف أسرة اللورد بنتن يا سيدي؟
– كلَّا وإنما أسمع عنها، وعلى الخصوص عن اللايدي بنتن، فيقال إنها متعجرفة جدًّا فلا تجامل أحدًا.
– ولكني لم أرَ شيئًا من أمائِر الخيلاء على وجهها لما قُدِّمتُ إليها، بل جاملتني بكل بشاشة، ولا لاحظت شيئًا من ذلك في ابنها اللورد روبرت كل مدة عشرتي له.
ولم يذكر إدورد اسم لويزا لا لأنه يأبى أن يبررها من الكبرياء؛ بل لكيلا ينبه أفكار خالهِ إلى شغل قلبه بها.
– أما اللورد روبرت صديقك فقد يكون كما تعتقد بهِ، وأما أمه اللايدي بنتن فمشهور أمرها، وكونها بشَّت لك مرة لا يدل على أن البشاشة من طبعها؛ لأنها تعرف أن اللياقة تقضي عليها أن تكون لطيفة، فتتكلف اللطف على قدر الإمكان، ولكن إذا حاضرتها برهة قتلتك بكبريائها، هل حادثتْك؟
– كلا، بل اكتفتْ بتهنئتي بعد إذ قُدِّمتُ لها، ثم عادت إلى محادثة اللايدي جونستن.
فهزَّ المستر هوكر رأسه ضاحكًا، وقال: لو تسنَّى لك أن تعاشرها بضع دقائق لثبت لك صدق قولي، ولطالما شكا الكثيرون من تجبُّرها وتكبُّرها.
فاستاءَ إدورد جدًّا من هذه التُّهم التي ألقيت على اللايدي بنتن، وأبى أن يصدقها ولكنه لم يقدر أن يكذِّبها؛ لأن خاله يلقيها وهو لا يشك بصدق قوله. وحاول أن يدافع ولكن ليس عنده برهان ولا حجة؛ لأنه لم يختبر اختبار خاله ولم يعلم علمه، فقال: إذن ما رأيك؟
– رأيي ألا تذهب.
– ولكن وعدتُ.
– تعتذر.
– يتعذَّر عليَّ الاعتذار.
– ليس شيء متعذرٌ في الوجود.
– وماذا يضرني في أن ألبي دعوة صديقي، وإن كانت أمه متعجرفة؟ ليست لي علاقة معها.
– ضرر أدبي أهم من الضرر المادي.
– ما هو؟
– الهوان الذي لا تطيقه النفوس الأبية.
– لا أظن أن اللايدي بنتن تستهين بضيوفها الذين تدعوهم إلى منزلها مهما كانت متكبرة ومتعجرفة.
– هي لا تقصد ذلك، ولكن ظهورها بين ضيوفها كله كبر وخيلاء لا يطيقهما من كان عزيز النفس.
– ولكني شابٌّ لا شأن لي معها، وإنما أكون أكثر الوقت مع أقراني، وإذا شعرت بهوان أُعاتب في الحال وأنسحب.
عند ذلك اقتصر المستر هوكر الجدال، وأصرَّ على رأيه قائلًا: أما أنا فلا أستصوب ذهابك، وأما أنت فلك أن تفعل ما تشاء.
– لا أشاء أن أخالف رأيك أيها الخال، ولكني أود أن ألبي الدعوة أولًا لأني وعدت، وثانيًا لأني أنتظر أن أُسَرَّ مع عدد عديد من الأصحاب.
– وكأنك لا تسرُّ بعشرتنا يا إدورد؟!
– أنا معكم كل حين.
– ولكن أول أمس أتيت وبعد غدٍ تعود؟ فسرعان ما مللتَ الإقامة معنا.
وضحك المستر هوكر ضحكة التمليق، وسكت إدورد إذ استنكف أن يجادل خاله في أمرٍ لا يرغب فيه، ولكنهُ أسف جدًّا لقيام هذه العقبة في سبيل اجتماعه بلويزا، مع أنه كان يُعلِّل نفسه بلقاء سعيدٍ جدًّا؛ فانتظر عساه يسترضي خاله قبل الوقت المعين.