جرح في قلب
وفي اليوم التالي كان إدورد كل الوقت باهت البشاشة، قليل الكلام، نادر الهزل والمزاح كعادتهِ مع أليس، ولم تكن أليس لتجهل أن سبب امتعاضه هو عدم رضاء أبيها عن تلبيتهِ للدعوة، فحاولت بكل جهدها أن تسرَّه؛ فلم تستطع فحارت في أمره لأنها لم تكن تنتظر أن أبسط الحفلات يخطف فؤاده عنها، وما علمت أن هناك حبيبة غيرها شغلت قلبه وسلبت لُبَّه.
ولما كانا جالسين عصر النهار في الشرفة المطلة على الحديقة قالت له: ما كنت أظنك يا إدورد وأنت معي يمقتك سببٌ بسيط جدًّا، ألا تجد في حبي لك مؤنسًا يغنيك عن أنس تلك الحفلة؟
– لا ريب أنكِ آنس لي من كل أنيس يا أليس، ولكني وعدت صديقي مشافهةً أن ألبي دعوته؛ ولهذا يشق عليَّ جدًّا أن أخلف بوعدي.
– تعتذر له.
– بأي عذرٍ مقبولٍ صادقٍ أعتذر؟
– بأي الأعذار مهما كان بسيطًا.
فتأمل إدورد هنيهة وقال: كلَّا لا أعتذر. يجب أن أذهب.
– يظهر أنك ستذهب لأنك تود أن تذهب لا لأنك مُقيَّد بوعد، وإلَّا لما تعذَّر عليك الاعتذار.
فأجاب إدورد على الفور كأنه يجاوب عن تغيُّظٍ خفيٍّ: نعم قد أصبتِ.
فابتسمت أليس ابتسامة الحليم قائلة: ليتني أعلم ماذا تتوقع هناك من المسرَّات لعلي أقدر أن أوفرها لك هنا.
– أتوقع أصحابًا متعدِّدين أقضي الوقت معهم باللعب والهرج والضحك والمذاكرة.
– صدقتَ أن عشرتي لا تغنيك حتى عن عِشْرَة الأصدقاء الاعتياديين، فكيف ترضيك إن كنت تطمع بعشرة أشخاص أخصاء غيري؟!
والظاهر أن أليس أحسَّت أن قلب إدورد مشغول بحبِّ فتاة غيرها، واستدلَّت على ذلك من تغير أسلوبهِ في محاضرتها، ومن قلقهِ في بعض الأحيان وتشوقه إلى حضور الحفلة في قصر كنستون.
وكان سكوتٌ برهة، وهي تغالط نفسها فيما إذا كان إدورد يحبها كما تحبه، وأما إدورد فكان لاهيًا عن هذا الأمر بفكر آخر، وهو كيف يسترضي خاله ليذهب إلى قصر كنستون ويرى لويزا، وقد كاد يفجر من الغيظ الذي يكظمهُ، وشعر أن تحرش أليس بهِ كان كنكاية لهُ في إبَّان تغيظه.
أما أليس فقد أصبحت على شفا اليأس، وصارت أَرغبَ من قبلُ في استكناه أفكارهِ واكتشاف ما في فؤادهِ من نحوها، وأقلقها جدًّا ما رأته من فتورهِ، وغاظها بالأكثر سكوته بعد كلامها الأخير كأنهُ جوابه الفصيح؛ فاكْمَدَّ وجهها وصغُرت نفسها، وبعد هنيهةٍ اقتضبت ذلك السكوت بصوت خافت كأن مصاريع فؤادها تتكلم لا شفتيها: ماذا أفعل لكي أعجبك يا إدورد حتى تحبني كما أحبك؟
– تعجبينني يا أليس وأحبك.
– ولكن أتحبني من نوع حبي؟
– أحبك كأختي.
– ولكني أحبك يا إدورد غير حب الأخت للأخ، أحبك حبًّا شديدًا فهل تحبني هذا الحب ولو بعضه؟
رأى إدورد أن الضرب على هذا الوتر كل حين بعد آخر يصمُّ أذني قلبه؛ فآثر أن يقطعه واستسهل أن يقطعه في تلك الساعة عينها وهو متغيِّظ، بل رأى أن المغالطة والمراوغة في هذا الحديث غير محمودة العاقبة، وأن الإفصاح فيها أفضل جدًّا.
– أحبك يا أليس أشد حب ولكن حب أخ لأخت؛ لأني لا أرى حبًّا آخر يقدر أن يتغلب على هذا الحب ويعزله ليقوم مقامه.
– إذن تخيب آمالي؟
– بل أكرس نفسي لخدمتك يا أليس.
– لا أطلب منك إلَّا أن تبادلني فؤادك.
– أفهم جيدًا … ليس في طوقي يا أليس، ليت قلبي طوع إرادتي. على أني أبذل لك أعزَّ من قلبي، أبذل نفسي أثمن ما في شخصيتي، أبذلها لك رخيصة، ولكن قلبي لا أقدر عليهِ، أنتِ أختي وأنا أخوك إلى الأبد.
فطفر الدمع من عيني أليس، واتَّكَأت على يمين الكرسي، ووضعت خدها في كفها وجعلت تكفكف دموعها بمنديل في يسراها. ثم تنهدت قائلةً: آه! منكودة الحظ.
– لا تقولي كذا يا أليس، فإن عديدًا من الشبان الأغنياء والوجهاء وذوي المقامات العالية يلتمسون يدكِ، وبينهم كثيرون ممن يفضَّلون عليَّ بمزايا ذات قيمة، ويعدُّون لك مكانة ساميةً، فما أنتِ منكودة الطالع البتة.
عند ذلك أتى المستر هوكر ملتفًّا بوشاح كبير من الصوف؛ لأنه ملَّ الاضطجاع في سريره، ثم قعد في جانب الشرفة بعيدًا عن مجرى الهواء، وأجال نظره في أليس وإدورد، ففهم حاصل ما كان بينهما، فلم يتعرض لشيءٍ من الموضوع، بل دخل في مواضيع عمومية كأنه لم يلاحظ أمرًا، ولكن إدورد لم يقتنع أن خاله خفي عليه ظاهر فشل أليس.
بعد العشاء ذهب إدورد إلى «النادي الأدبي» الخاص بخرِّيجي جامعة كمبردج، والمستر هوكر استقصَّ أليس ما دار بينها وبين إدورد من الحديث، فأخبرته فحواه؛ لأنها استحت أن ترويه لأبيها بحروفه؛ فلم يُعقِّب المستر هوكر عليه بكلمة، بل تأمل برهة وانفرد في سريرهِ.