حديثه أو حديث عنه
في مساء اليوم التالي لليوم الذي انعقدت فيهِ حفلة الأنس في قصر كنستون اجتمع إدورد بصديق حميم من أقران المستر وليم جراي في النادي الأدبي، فجرى بينهما الحديث الآتي: أسفنا كثيرًا لعدم وجودك معنا يا إدورد.
– عساكم استوفيتم كل ضروب المسرات.
– سررنا جدًّا، وكلُّ من كان هناك كان يُسائل عنك حتى قلق اللورد روبرت بنتن، واكتأب لمَّا طال تأخُّرك، وكانت مس بنتن تقول: «لا بد أن يأتي، أنا أؤكد أنه يأتي مهما قام في سبيله من العوائق؛ لأنه يحبُّ روبرت جدًّا.»
فعضَّ إدرود شفته السُّفلى، وشعر بسهم من الألم اخترق فؤاده، وكاد يلعن خاله لأنه منعه عن حضور الحفلة، وظل ينظر إلى وليم كأنه يستزيد حديثه؛ فاستمر هذا يقول: ولما وصل تلغرافك، وعُرِف أنك لن تأتي بسبب انتكاس خالك الفجائي تكدر الكل.
– لا تدري كم اغتظت من نكسة خالي، فكان غيظي منها أشد من حزني عليه؛ لأني كنت أود جدًّا أن أكون بين أصحابي في هذه الحفلة النادرة.
– بالحق إنها نادرة يا إدورد، ولو كنت معنا لكان سرورنا ضِعْفَيْهِ بلا شكَّ.
– كيف كان أهل البيت لكم؟!
– لم يدَّخِروا جهدًا في مؤانستنا ومجاملتنا.
– قيل لي إن اللايدي بنتن متكبِّرة بل متعجرفة جدًّا، فهل لاحظتَ شيئًا من ذلك؟!
– نعم لا تخلو من الإعجاب بنفسها وحب الأبهة، ولكنها كانت لكلٍّ منَّا في منتهى اللطف، ولا يخفى عليك أن سيدةً كبيرةً كاللايدي بنتن لا تقدر أن تتصابى لتلاعب شبانًا مثلنا وتضاحكهم، ومع ذلك كنا كلنا ممتنين منها للطفها.
– عجيب، قيل لي إنها تتجبر جدًّا إلى حد أن تزدري محاضريها.
– كلَّا البتة، نعم إنها تترفع وتعجب بنفسها وتفخر، ولكن كما يليق بسيدة جليلة مثلها. ولا أظنك تنكر جلال اللايدي بنتن.
– الحق أن الجلال لائق بها، وكيف كانت مس بنتن؟
– أما مس بنتن، فكانت كالحمامة البيضاء، جاملت كلَّ واحد ولعبت وضحكت ومزحت مع كل منَّا، يا لله! ما أسنى هذه الملكة الصغيرة! فإن كل شيءٍ فيها جميل يا إدورد: حسن صورةٍ، وجمال خُلُق، وكمال عقل، وذكاء حاد، ومعرفة واسعة. كانت بهجة الحفلة بل كانت ينبوع كل سرور.
فتألَّقت عينا إدورد غيرةً، وهمَّ أن يسأله ماذا قالت عنه وكيف ذكرته، ولكن التعقُّل ألجم لسانه عن هذا الاستفهام، فحام حوله بسؤال آخر.
– أما قرأَت لكم شيئًا من نظمها الجديد؟
– نعم قرأت قصيدة صغيرة نظمتها لأجل الحفلة خصوصًا، بالحق إنها شاعرة يا إدورد، ولكنها تُعجَب بشعركَ جدًّا، وكانت تسميك «شاعر النرجسة» فتقول: «الآن يجيء شاعر النرجسة، بعد قليل يجيء شاعر النرجسة. قال شاعر النرجسة كذا في قصيدتهِ.»
فاتضح في وجه إدورد صباح البشاشة عند سماعه هذا الكلام، وزقزق قلبه في قفص صدره فرحًا، وقال عن تغير تروٍّ: «ثم ماذا؟»
فابتسم وليم لهذا السؤال، وقال: أظنها تميل إليك يا إدورد.
فتورَّد وجه إدورد وقال: لا. لا تظن.
– بل تميل إليك؛ لأنها ذكرتك كثيرًا.
– وعلامَ تميل إليَّ يا أخي؟
– لأنك شاعر وهي تحب الشعر.
ثم تطرَّقا في الحديث إلى مواضيع مختلفة، وبعد قليل انصرف إدورد إلى البيت قبل ميعاده المعتاد؛ لأنه آثر الاختلاء بنفسه.
اضطجع في السرير عند الساعة العاشرة، ولكن النوم لم يضطجع في جفنيه، فكان يترجح على سرير التأملات ويترنح في سفينٍ من القلق على أمواج الأفكار، وباله يحوم حوله أمرين: الأول هل تحبه لويزا؟ والثاني لماذا أبى خاله عليه أن يحضر هذه الحفلة؟
أما أن لويزا تحبه فراجح عنده؛ لأن ما رواه لهُ صديقه المستر وليم جراي أكثر من برهان دامغ على حبٍّ لم يزل في مهد الطفولية، فإذا كانت لويزا تذكر إدورد هذا الذكر على أثر مقابلة واحدة، تذكره تكرارًا بالإطراء والمدح، وتذكره آملة بمجيئه، وتذكره غائبًا أكثر مما تذكر الحاضرين. إذا كانت تذكره هكذا فالأرجح أنها تحبه، أما «لماذا تحبه؟» فلأنه استوفى الصفات والمزايا التي تبتغيها فيمن تحب، فكأنه صِيْغَ في قالب أمانيِّها؛ فجاء طبق محبوبها المُتَخَيَّل. أقول المتخيل لأن لكل خالٍ من الهوى حبيبًا خياليًّا يتخيَّل صورته في ضميره، كما تلهمه نفسه، ولكن ما الفائدة من حب إدورد؟ هل ترضى به بعلًا؟ ذلك ما لم يؤمله إدورد ومع ذلك كان قانعًا بأن يكون ذا صلة حبٍّ بها وكفى.
أما لماذا أبى خاله عليه حضور هذه الحفلة فلم يعلم، حارَ في هذا السر، وقد ازدادت حيرته لما علم أن اللايدي بنتن ليست كما صوَّرها له خاله تمثال خيلاء ومثال عجرفة، بل هي كسائر المسترات النبيلات الجليلات قدرًا والكبيرات عمرًا.
ارتاب إدورد في نكسة خاله، ورجح عنده أنها حيلة مصطنعة يرمي بها المستر هوكر إلى غرضين في وقت واحد؛ الأول: أن يمتحن إحساسات ابن أخته نحوه ليرى هل يرق فؤاده ويمتنع عن أي تمتُّع ليبقى ساهرًا على سريره، أو يتركه في فراش المرض ويمضي غير عابئٍ به. والثاني: أن يعرقله عن الذهاب ليعلم ما إذا كان في قصر كنستون جاذب قوي جدًّا يجتذبه بالرغم من داعي نكسته التي تستبقيه في البيت.