الغزالي والحرية الفكرية
ليس في مستطاع مؤلف أن يجرِّد نفسه من الغرض؛ ولذلك يحسن بنا ألا نحكم على الإسلام ومقدار تقييده للحرية، وإنما نترك هذه المهمة لإمام كبير من أئمته … وهذا الإمام هو الغزالي، الذي مات سنة ٥٠٥ﻫ؛ فإن كتابه «إحياء علوم الدين» قد مضى نحو ٩٠٠ سنة وهو عمدة رجال الدين المسلمين، لم يطعن عليه أحد.
والرجل أيضًا يمتاز بصراحته وإخلاصه ونزاهته، فإنك عندما تقرأ حياتَه تشعر أنه لا يوارب، وأنه لو دخله شك لَما تحرج من إعلانه ولو كان فيه تلفه، فهو إذا وضح لنا الإسلام فإنما يوضحه كما يفهمه رجل مؤمن به تمام الإيمان، وسنعتمد على الاقتباس من نص كلامه أكثر ما نعتمد على الشرح؛ حتى لا نخطئ بالتأويل.
وقد كانت تتنازع الإسلام في الوقت الذي نشأ فيه الغزالي نزعتان:
لم أزل في عنفوان شبابي منذ راهقت البلوغ قبل بلوغ العشرين إلى الآن — وقد أناف السن على الخمسين — أقتحم لُجَّة هذا البحر العميق، وأخوض غمراته خوض الجَسور، لا خوض الجبان الحَذور، وأتوغل في كل مظلمة، وأتهجم على كل مشكلة، وأقتحم كل ورطة، وأتفحَّص عقيدة كل فرقة، وأستكشف أسرارَ مذهب كلِّ طائفة؛ لأميز بين محق ومبطل ومتسنن ومبتدع. لا أغادر باطنيًّا إلا وأحب أن أطلع على بطانته، ولا ظاهريًّا إلا وأريد أن أعلم حاصل ظهارته، ولا فلسفيًّا إلا وأقصد الوقوف على كُنْه فلسفته، ولا متكلمًا إلا وأجتهد في الاطلاع على غاية كلامه ومجادلته، ولا صوفيًّا إلا وأحرص على العثور على سر صوفيته، ولا متعبدًا إلا وأرصد ما يرجو إليه حاصل عبادته، ولا زنديقًا معطلًا إلا وأتجسس وراءه للتنبيه لأسباب جرأته في تعطيله وزندقته.
وقد كان العطش إلى إدراك حقائق الأمور دأبي وديدني — من أول أمري وريعان عمري — غريزة وفطرة من الله تعالى، وضعها في جِبِلَّتِي لا باختياري وحيلتي، وحتى انحلت عني رابطة التقليد، وانحسرت عني العقائد الموروثة على قرب عهد بسن الصبا.
ثم لاحظت أحوالي فإذا أنا منغمسٌ في العلائق، وقد أحدقت بي من جميع الجوانب، ولاحظت أعمالي — وأحسنها التدريس والتعليم — فإذا أنا فيها مقبل على علوم غير مهمة ولا نافعة في طريق الآخرة، ثم تفكَّرت في نيتي في التدريس فإذا هي غير خالصة لوجه الله تعالى، بل باعثُها ومحرِّكها طلب الجاه، وانتشار الصيت، فتيقنت أني على شفا جرف هار، وأني قد أشرفت على النار إن لم أشتغل بتلافي الأحوال، فلم أزل أتفكر فيه مدة، وأنا بعدُ على مقام الاختيار، أصمم العزم على الخروج من بغداد ومفارقة تلك الأحوال يومًا وأحل العزم يومًا، وأقدم فيه رِجْلًا وأؤخر عنه أخرى، لا تصدق لي رغبة في طلب الآخرة بكرة إلا ويحمل عليها جند الشهوة حملته فيفترها عشية، فصارت شهوات الدنيا تُجاذبني بسلاسلها إلى المقام، ومنادي الإيمان ينادي: الرحيل! الرحيل! فلم يبق من العمر إلا القليل.
ثم يقول: «فلم أزل أتردد بين تجاذُب شهوات الدنيا ودواعي الآخرة قريبًا من ستة أشهُر، أولها رجب سنة ثمان وأربعين وأربعمائة، وفي هذا الشهر جاوز الأمر حد الاختيار إلى الاضطرار؛ إذ قفل الله على لساني حتى أعتقل عن التدريس، فكان لا ينطق لساني بكلمة ولا أستطيعها البتة، ثم أورثت هذه العقلة في اللسان حزنًا في القلب، بطلت معه قوة الهضم وقرم الطعام والشراب.»
وهذا كلام يقطر منه الإخلاص والنزاهة، ومع ذلك لم يكن الغزالي وليًّا أبله يتمسح به الناس، ويلبس المرقعات ويتواجد بالصيحات، بل كان رجلًا مثقفًا ذكيًّا، درس المنطق والفلسفة، وأكب على فهم الإنجيل والتوراة، فهو إذا شرح الإسلام فإنما يشرحه على الوجه الذي يجب أن يفهم عليه، وهو إذا حكم بتكفير أحد من المسلمين فإنما يفعل ذلك مدفوعًا بقوة إيمانه.
وماذا كان أثر هذا العالم المسلم في الشرق العربي؟ كان أثره أنه قاوم الفلسفة حتى هدمها، وكفَّر جميع من يدرسها، وكان بعد ذلك أقوى أساس بُنِيَ عليه اضطهاد الفلاسفة والمفكرين، حتى انتقلت الفلسفة من الشرق إلى الغرب؛ أي إلى الأندلس، وليس يمكنك أن تنقم شيئًا على الغزالي من هذه الوجهة سوى أنه كان ينظر نظرًا دينيًّا ضيقًا.
فإليك مثلًا ما يقول عن الطبيعيين: «والطبيعيون قوم أكثروا بحثهم عن عالم الطبيعة، وعن عجائب الحيوان والنبات، وأكثروا الحوض في علم تشريح أعضاء الحيوان؛ فرأوا فيها من عجائب صنع الله وبدائع حكمته ما اضطروا معه إلى الاعتراف بفاطرٍ حكيم مطلع على غايات الأُمور ومقاصدها، ولا يطالع التشريح ومنافع الأعضاء مُطالعٌ إلا ويحصل له هذا العلم الضروري بكمال تدبير الباني لبنية الحيوان — ولا سيما الإنسان — إلا أن هؤلاء لكثرة بحثهم عن الطبيعة ظهر عندهم لاعتدال المزاج تأثيرٌ عظيم في قوى الحيوان، فظنوا أن القوة العاقلة من الإنسان تابعةٌ لمزاجه أيضًا، وأنها تبطل ببطلان مزاجه فتنعدم، ثم إذا انعدمت فلا يعقل إعادة المعدوم — كما زعموا أيضًا — فذهبوا إلى أن النفس تموت ولا تعود، فجحدوا الآخرة، وهؤلاء أيضًا زنادقةٌ؛ لأن أصل الإيمان هو الإيمان بالله وبالرسول وباليوم الآخر.»
ومن هذه القطعة يرى القارئ أن الغزالي يفهم ما يقول تمام الفهم، ويحكم على من يخالفه في رأيه الديني بالزندقة، ويجزم في حكمه، والمسافة بين الحكم بالزندقة والحكم بالقتل قريبة جدًّا.
وقد عاش الغزالي بعد أرسطوطاليس بنحو ١٤٠٠ سنة، ومع ذلك لم يبخل عليه بالتكفير، وعلى كل من اتبعه من فلاسفة المسلمين، وإليك منه هذه القطعة: «ثم رد أرسطوطاليس على أفلاطون وسقراط ومن كان قبلهم من الإلهيين ردًّا لم يقصر فيه حتى تبرأ من جميعهم، إلا أنه استقى أيضًا من رذائل كفرهم بقايا لم يوفق للنزوع منها، فوجب تكفيره وتكفير متبعيه من متفلسفة الإسلاميين كابن سينا والفارابي وأمثالهم.»
ومن هذا تتبين أن إخلاص الغزالي وذكاءه لم ينفعاه شيئًا عندما اقتصر على النظر الديني الضيق، وأنه لو كانت مقاليد الأحكام في يده لَما تحرج مِن قتل مَن سماهم زنادقة.
وليتجنب «المسلم» صناعة النقش والصياغة وتشييد البنيان بالجص، وجميع ما تزخرف به الدنيا، فكل ذلك كرهه ذوو الدين.
وأيضًا: «والصور التي تكون على باب الحمام، أو داخل الحمام — تجب إزالتها على كل من يدخله إن قدر، فإن كان الموضع مرتفعًا لا تصل إليه يده فلا يجوز له الدخول إلا لضرورة، وليعدل إلى حمامٍ آخرَ؛ فإن مشاهدة المنكر غير جائزة، ويكفيه أن يشوِّه وجهها، ويبطل به صورتها.»
والآن، يجب أن نقف — أيها القارئ — ونتأمل في الآثار التي أتلِفت اطرادًا مع هذه النزعة البدوية أو اتباعًا لهذه النصيحة، ثم نذكر أيضًا مقدار التثبيط الذي أصاب كل من كان متهيئًا بطبعه لخدمة الفنون وترقيتها، وإذا كان الغزالي — على إخلاصه وفهمه — يقول هذا القول في الفنون الجميلة، وفي الفلسفة؛ فماذا يقول الآخرون من رجال الدين الذين لعلهم لم يبلغوا مبلغه في الفهم والنزاهة أو الثقافة؟!