الثورة على الإسلام
نرى في تاريخ الفرق الإسلامية من حيث منشئها وأغراضها، أنها تنقسم قسمين: فمنها تلك الفرق التي لم تكن ترمي إلى أبعدَ من الغاية الدينية والتصوف، وتتغذى من الأديان الأخرى، كالمسيحية والمانوية والفلسفات الإغريقية.
ومنها تلك الفرق الأخرى التي تسترت بالدين، وكانت ترمي منه إلى غاية سياسية؛ لأن دعاتها عرفوا أن الدعاية السياسية إذا لم ترتكز على دعائم الدين لم تثبت أمام الخلافة.
ولكننا نرى شيئًا عجيبًا في بعض هذه الفرق، وهي أنها نزعت إلى الإلحاد وإلى هدم الإسلام؛ فالقرامطة لا يمكن أن نشك في أنهم أرادوا هدم الإسلام حين عاثوا في دولة العباسيين في العراق، وحين هدموا الكعبة، ونقلوا الحجر الأسود من مكانه.
وكذلك لا يكاد يشك الإنسان في أن دار الحكمة، التي أسسها الحاكم بأمر الله بالقاهرة، كانت تعلم الناس الإلحاد، ولكن — مع تسليمنا بذلك — يبقى عندنا شك في النية الباعثة لتعلُّم الإلحاد، فإذا كانت هذه النية سياسية غايتها تأسيس دولة، فإنه لا يكاد يُعقل أن هناك رجلًا ينوي تأسيسَ دولةٍ على أساس من الإلحاد؛ لأن الدين يدعم الدولة والإلحاد يهدمها. وإذا فرضنا أن القرامطة أرادوا الهدم، واعتمدوا على الإلحاد؛ فكيف نعلل تأسيس دار الحكمة بالقاهرة ومؤسسها خليفة، خلافتُه قائمةٌ على هذا الدين الذي يريد أن يهدمه؟!
إننا نعقل أن يدعو إلى الإلحاد رجل فارسي، تدعوه وطنيته — مثلًا — إلى الثورة على العرب والإسلام معًا، فيريد هدم الخلافة، ونشر الفوضى الدينية؛ حتى تجد الفرس مجالًا لاستعادة قوميتها، وهذا ما نظن أنه قصد إليه عبد الله بن ميمون القداح، الذي ظهر بفرقته أيام العباسيين، ونعقل أيضًا أن تعمل دولة الفاطميين في مصر على هدم دولة العباسيين في بغداد، ولكن بشرط ألا تهدم الأسس القائمة هي نفسها عليه، وهو الإسلام.
وموضوع الفرق الإسلامية لا يزال غامضًا لم يُمحص للآن؛ ولذلك سنقنع فيما يلي برواية الواقع دون أن نبحث عن العلل والبواعث.
فالواقع أنه ظهرت بمصر وسوريا والعراق فرقٌ عديدة، كافحت سرًّا وجهرًا بالسيف وبغير السيف؛ لكي ترفع سلطان الحرية الفكرية، وتهدم أساس الدين، ومعظم هذه الفرق كانت تتستر بمذاهب الشيعة؛ للحظوة التي ينالها — على الدوام — علي بن أبي طالب في قلوب المسلمين.
وكان عبد الله بن ميمون القداح أول من دعا إلى تأسيس فرقة لهدم الدين، وكان أبوه ملحدًا، يحارب الإسلام سرًّا بتزييف الأحاديث، ولهذه الغاية أنشأ عبد الله فرقة الباطنية، وأدمج في مذهبها شيئًا كثيرًا من عقائد الفرس المانوية: «النور فاعل الخيرات والمنافع، والظلام فاعل الشرور والمضار.»
قال دوزي عن ابن ميمون: إنه أراد أن يدمج المغلوبين والغالبين في هيئة واحدة، وأن يجمع في جمعية سرية هائلة ذات مراتب عدة بين أحرار المفكرين — الذين لا يرون في الدين سوى وسيلة لإذلال الشعب — وبين الغلاة من جميع الطوائف، وأن يحمل الظافرين على قلب الدول التي شادوها، ولم ينشد ابن ميمون أنصاره الحقيقيين بين الشيعة الخُلص، وإنما بين المانويين والوثنيين والمتفلسفة، ولم يكن يعتمد إلا على الطائفة الأخيرة، وإليهم وحدهم استطاع أن يفضي بسره، وخَفِيِّ عقيدته وهي أن الأئمة والأديان والأخلاق ليست إلا ضلالًا وسخرية، وأن باقي البشر — أو الحمر كما يسميهم — ليسوا أهلًا لفهم هذه التعاليم.
غير أنه؛ تحقيقًا لغايته لم يكن يمقت مؤازرتهم بل كان يلتمسها، وكان دعاته — الذين تعلموا كيف يُخفون عواطفهم الخاصة — يَظهرون في أثواب مختلفة، ويحادثون كل طبقة باللغة التي تروقها، أو يثيرون استطلاعهم بالألغاز والأحاديث الخفية، ويتحجبون أمام المخلصين بقناع الزهد والفضيلة، ويتظاهرون أمام الصوفية أنهم صوفية، فيكشفون عما خفي من معاني الغيب، أو يشرحون الأساطير ومجازاتها.
وأسفرت هذه النظم عن نتيجة مدهشة، هي أن جمهورًا عظيمًا من الناس يعتنقون مذاهب مختلفة كانوا يعملون معًا لتحقيق غاية لا يعلمها سوى القليل منهم.
وكان عبد الله بن ميمون يرمي إلى هدم الدين بالسر والتستر، ولكن فرقة القرامطة التي تكونت من أتباعه عمدت إلى الجهر والعلانية، فألفت عصابة قوية عاثت في الدولة العباسية، واستباح أعضاؤها السفك والنهب، واستحلوا الأموال والأعراض، واقتحموا البيت الحرام، ونزعوا كسوته، واقتلعوا الحجر الأسود، وأسسوا دولة في البحرين عاشت زمنًا غير طويل؛ لأن العباسيين تغلبوا عليها، واستظهروا عليهم بالدين.
وانتشر دعاة ابن ميمون في جميع أنحاء العالم الإسلامي، حتى يقال إن عبد الله مؤسس الدولة الفاطمية في مصر ينتمي في النسب إليه، وإذا صح هذا النسب فلا يستبعد من الحاكم بأمر الله أن يؤسس «دار الحكمة» يعلم فيها الناس الإلحاد، وهو النسب الذهني بينه وبين ابن ميمون.
ولكن العقبة لا تزال ماثلة؛ فإن الدولة التي تنشر الإلحاد بين الناس هي دولة «فاطمية» شيعية، أساسها إكبار شأن أسرة النبي، فكيف يتفق القول بأن الأنبياء لم ينزل عليهم وحي، ولا هم يمتازون من الناس بصلة خاصة بالله؛ والقول بحق الفاطميين في الحكم؛ لأنهم من نسل النبي؟!
ولكن الواقع أن دار الحكمة كانت غايتها هدم سلطة الدين، وكان مؤسسها الحاكم بأمر الله، فهل نعزو تأسيسها إلى عرق الهوس الذي كان دائم النبض فيه، والهيجان عليه، ونقول: إنه طما به دفعة واحدة، وأجبره على أن يبوح بما أضمره سائر الخلفاء الفاطميين؟
كانت المراتبُ التي يتنقَّل فيها الطالب في دار الحكمة تسعًا، وكان الطلبة ينقسمون قسمين: العلماء والجهلاء، والعلماء هم الدعاة المعلمون.
فكان الطالب أول ما يدخل دار الحكمة يناقش في المسائل الدينية، وفي تفسير القرآن، ويعلن له حينئذ أن أسرار الدين أعوص من أن يفهمها جميع الناس، وأن الدعاة هم الذين اختصوا بذلك، ووقفوا على هذه الأسرار، ثم تؤخذ عليه العهود بألا يفشي شيئًا يسمعه منهم، فإذا انتهى من هذه المرتبة الأولى دخل في المرتبة الثانية، وفيها يعلم الطالب أن جميع التفاسير الذائعة بين الناس باطلةٌ، وأن التفسير الحق هو الذي يقول به الأئمة الذين تلقَّوْا حقائقها من الله.
وفي الثالثة يعرف الطالب أن هؤلاء الأئمة هم أئمة الإسماعيلية، وهي طائفةٌ من فرقة الباطنية التي أسسها عبد الله بن ميمون القداح.
وفي الرابعة يعرف أن الأنبياء سبعة هم: آدم ونوح وإبراهيم وموسى والمسيح ومحمد — نبي الإسلام — ثم محمد بن إسماعيل الإمام.
وفي الخامسة يصرح للطالب بالغاية الحقيقية من هذه التعاليم، وهي أن يترك الدين الإسلامي.
وفي السادسة يتوسع الطالب فيقال له: إن جميع الأديان كاذبة، وإن الفروض التي أمرت بها كالصوم والصلاة كذب وشعوذة، أريد بهما إخضاعُ الناس، وإن جميع الأديان يجب أن تخضع لشريعة العقل والعلم، ويعتمدون هنا على أقوال أرسطوطاليس وأفلاطون وغيرهما.
وفي السابعة يلقن الطالب تعاليم المانوية، التي تهدم وحدانية الله، وهي أقوى أساس للإسلام.
وفي الثامنة تنقض كل صفات الألوهية والنبوة، ويعلم الطالب أن الرسل الحقيقيين هم رجال الدولة والعمل والسياسة، الذين ينشئون الحكومات، ويؤسسون النظم المدنية للناس.
وفي المرتبة التاسعة والأخيرة يباح للطالب بأن كل الأديان المنزَّلة حديث خرافة، وأن للرجل المستنير الحق في أن يرفضها جميعًا، وأن الفلسفة تقوم مقام الدين، وأن الأنبياء إنما كانوا أُناسًا مستنيرين تفقَّهوا في الفلسفة.
وقد عاشت الدولة الفاطمية من سنة ٩٦٩ إلى سنة ١١٧١ ميلادية ماتت في نهايتها هذه النزعة الإلحادية؛ لأن دار الحكمة لم تعش بعد هذه الدولة، وعادت مصر سنية، يخطب خطباؤها في المساجد للخلفاء العباسيين.
بعد ذلك نرى أن مركز الدعاية للتفكير الحر قد انتقل من مصر إلى فارس؛ حيث نجد الحسن بن الصباح صديق عمر الخيام يبث تعاليم ابن ميمون والقرامطة ودار الحكمة، ونرى أن «نظام الملك» وزير العباسيين في بغداد، وصديق الحسن القديم يؤسس المدرسة النظامية؛ لكي يقاوم هذه التعاليم، ويؤيد السنَّة التي هي عمدة الخلافة العباسية، وقد زار الحسن دار الحكمة في مصر، واتصل بأساتذتها، وتفقَّه عليهم.
وتعاليمه خليطٌ من المانوية والفلسفة الإغريقية، وكانت فرقته تدعى الإسماعيلية أو الباطنية، وكان يعمد إلى هدم الخلافة بقتل ذوي السلطان الذين يؤيدونها، ويعملون لرفع شأنها، وعاشت فرقته نحو ١٥٠ سنة، وهي أكبر معول لهدم الإسلام والخلافة العباسية.
ولو أردنا التلخيص لقلنا: إن حركة الإلحاد في الإسلام نشأت في فارس، وربما كانت غايتها وطنية في الأصل بهدم الخلافة وملك العرب، والحركة مصبوغة على الدوام بالمانوية، وهي ديانة الفرس المنقرضة، واتخذتها الدولة الفاطمية في مصر سلاحًا لمحاربة الدولة العباسية في بغداد، ووقفت الحركة عن النمو والانتشار لغلو بعض دعاتها في الحرية، حتى صارت إباحية، ولالتجاء بعضهم — مثل القرامطة — إلى وسائل العنف والاعتداء على الناس، حتى أجمعوا على مقاتلتهم وإبادتهم.
وقد يتساءل القارئ الآن: هل كانت هذه الفرق مخلصة في دعواها الإلحادية أم كانت ترمي إلى غاية سياسية فقط؟ فالجواب أن درسها فلاسفة الإغريق وديانات الفرس والمسيحيين يثبت إخلاصها، أما أنها كانت تنحو إلى تأسيس الدولة فليس في ذلك ما يزري بإخلاص أعضائها؛ فقد كانت السياسة غايةً من غايات المذهب الديني في دار الحكمة.
وكذلك لا يعيب الحركة انحطاطُ القرامطة، ونزوعهم إلى الصعلكة، وانتهاب الناس؛ فإن في كل حركة عمرانية نزعات تختلف رفعة وانحطاطًا، فالحركة الصوفية — مثلًا — تضم بين أعضائها العلماء والأفذاذ أمثال الغزالي، كما تضم بين صفوفها الدراويش المتوحشين أصحاب المرقعات، أكلة النار والمشعوذين بالسكاكين.