قصة القهوة
منذ سنين قليلة قررت حكومة الولايات المتحدة منع الخمور وبيعها وشرائها وتناولها، كذلك منعت الحكومة المصرية بيع الكوكايين، وعاقبت من يحمله لكي يتناوله بنفسه أو لكي يبيعه لغيره، وفي مصر لا يجوز بيع العقاقير الطبية وتحضيرها إلا للصيادلة، ولكن هذا التحريم يحور على محور مدني، أساسه في كل هذه الحالات التي ذكرناها أن هذه الأشياء سامة، فيجب ألَّا تُباع أو تباع فقط برخصة خاصة.
فالنظر مدني، وقاعدته التي يرتكز عليها مصلحة الجماعة المدنية الدنيوية، بحيث إذا ثبت في أي وقت أن هذه المصلحة لا تتعارض وتناوُل هذه المحرمات يسقط تحريمها، ومعنى كلامنا أن هذه الحكومات لا تحرم تناول هذه الأشياء كما يحرم الدين الموسوي على اليهود تناول الخنزير، أو كما يحرم دين الهندوكيين تناول لحم البقر؛ لأن هذين التحريمين الآخرين يرجعان إلى سلطة إلهية، تأمر فتجزم في الأمر ولا تعلل، وعلى المؤمنين طاعتُها بحيث إذا خالفوها تعرضوا للهرطقة أو الزندقة.
ثم في الحالات الأولى يمكن تبديل الشرعة أو إلغاؤها؛ لأنها شريعة مدنية قائمة على إرادة الأمة، وهي أشبه بعقد اجتماعي في موضوع بعينه، أما في حالة لحم الخنزير أو لحم البقر فإن الشريعة لا يمكن مَسُّها بأي تنقيح أو تبديل.
وفيما يلي سنروي محاولات الفقهاء في مكة والمدينة والقاهرة في تحريم القهوة تحريمًا يستند إلى الدين كما حرم لحم الخنزير، وروايتنا منقولةٌ عن كتاب لعبد القادر محمد الأنصاري من أهل القرن العاشر للهجرة، وسنترك المؤلِّف يروي القصة بلسانه، وكل مهمتنا اختصارُ الكتاب في جملة صفحات، فإننا سنحذف ولكننا لن ننقح، قال المؤلف:
اعلم أن القهوة هي الشراب المتخذ من قشر البن أو منه مع حبه المجحم؛ أي المقلي، فمن قائل بحِلها، يرى أنها الشراب الطهور المبارك على أربابها، الموجبة للنشاط والإعانة على ذكر الله تعالى، وفعل العبادة لطلابها، ومِن قائل بحرمتها، مفرط في ذمها والتشنيع على شرابها.
وكثر فيها من الجانبين التصانيف والفتاوى، وبالغ القائل بحرمتها، فادعى أنها من الخمر، وقاسها به وساوى، وبعضهم نسب إليها الإضرار بالعقل والبدن، إلى غير ذلك من الدعاوى والتعصبات المؤدية إلى الجدال والفتن، وحصول ما أدى إلى منازعات ومحن بمكة والقاهرة، والمنع من بيعها، وكسر أوانيها الطاهرة، بل إلى تعزير باعتها بالضرب وغيره من غير حجة ظاهرة، وإلى تأديبهم بضياع مالهم، وإحراق القشرة المتخذة منه في كرات متواترة، وبالغ الذامُّ لها أن شاربها يُحشر يوم القيامة ووجهُهُ أسود من قعور أوانيها، وكثر التقاطع والتدابر بين الفريقين والذم لمن يعانيها.
وأما مبدؤها فقال الشيخ شهاب الدين بن عبد الغفار ما لفظه: إن الأخبار قد وردت علينا بمصر أوائل هذا القرن — القرن العاشر للهجرة — بأنه قد شاع في اليمن شرابٌ يقال له: القهوة، تستعمله المشايخ الصوفية وغيرهم للاستعانة به على السهر في الأفكار التي يعلمونها على طريقتهم المشهورة، ثم بلغنا بعد ذلك بمدةٍ أن ظهورها وانتشارها فيه كان على يد أبي عبد الله المعروف بالذبحاني، وسمعنا أنه كان متولِّيًا بوظيفة تصحيح الفتاوى في عدن، وهي وظيفةٌ كانت بها إذ ذاك تعرض على صاحبها الفتاوى، فيقر ما يراه صوابًا ويكتب تحتها «صحيح» بخطه وينبه على ما يرى إصلاحَه.
وسبب إظهاره لها ما سمعناه أيضًا أنه كان عرض له أمرٌ اقتضى الخروجَ من عدن إلى بر العجم، فأقام به مدة، فوجد أهله يستعملون القهوة ولا يعلم لها خاصية، ثم عرض له حين رجع إلى عدن مرضٌ فتذكرها، فشربها، فنفعتْه فيه، فوجد فيها من الخواص أنها تُذهب النعاس والكسل، وتورث البدن خفة ونشاطًا، فلما سلك طريق التصوف صار هو وغيره من الصوفية بعدن يستعينون بشربها على ما ذكرناه، ثم تتابع الناسُ بعدن والفقهاء والعوام على شربها؛ للاستعانة بها على مطالعة العلم وغيره من الحرف والصناعات ولم تزل في انتشار.
وأما أول ظهورها بمصر فقال ابن عبد الغفار: إنها ظهرت في حارة الجامع الأزهر في العشر الأول من هذا القرن — العاشر — وكانت تشرب في نفس الجامع برواق اليمن، يشربها فيه اليمانيون ومَنْ يسكن في رواقهم من أهل الحرمين، وكان المستعمل لها الفقراء المشتغلون في الرواتب من الأذكار والمديح على طريقتهم، وكانوا يشربونها كل ليلة اثنين وجمعة، يضعونها في ماجور كبير من الفخار الأحمر، ويأخذ منها النقيب بسكرجة صغيرة، ويسقيهم، الأيمن فالأيمن، مع ذكرهم المعتاد عليه غالبًا وهو: لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وكان يشربها معهم — موافقة لهم — مَن يحضر الرواتب من العوامِّ وغيرهم.
قال: وكنا ممن يحضر معهم وشربناها، فوجدناها تُذهب الكسل والنعاس — كما قالوا — بحيث إنها كانت تسهرنا معهم ليالي لا نحصيها، إلى أن نصل الصبح مع الجماعة من غير تكلُّف، وكان يشربها معهم من أهل الجامع وغيرهم خلقٌ لا يُحصى، ولم يزل الحال على ذلك. وشربت كثيرًا في حارة الجامع الأزهر، وبِيعت بها جهرًا في عدة مواضع، ولم يعترض أحدٌ ولا أنكر شربها مع اشتهارها بمكة وشربها في نفس المسجد الحرام وغيره، بحيث لا يعمل ذكر أو مولد إلا بحضورها.
ثم حدث الإنكار عليها بمكة الشريفة في سنة سبع عشرة وتسعمائة، وكان القائم في ذلك رجلين أعجمين أخوين، كانا مشهورين بالحكمة، وكان لهما فضيلة في المنطق والكلام والطب، ويدعيان مرتبة في الفقه، وهما الرجلان اللذان رحلا إلى مصر في أواخر دولة الغوري، وأقاما بها حتى قدم إليها السلطان المظفر سليم شاه، فقتلهما لما كانا يُرمَيان به مما الله أعلم بحقيقته.
وأعانهما على القيام في أمرهما شمس الدين الخطيب، نقيب قاضي القضاة سري الدين بن الشحنة وأناس آخرون، فأغرى شمس الدين الخطيب الأمير خاير بك معمر — باش مكة ومحتسبها إذ ذاك — على إبطالها من الأسواق، ومنع الناس من شربها، وقرروا أنها موصوفة بتلك الصفات القبيحة، ورغبة في ذلك جدوا لحمله على أن يعقد مجلسًا عنده، وانفصلوا منه على القول بحُرمتها، وكتبوا بذلك محضرًا أنشأه لهم شمس الدين الخطيب، وأرسلوه إلى مصر، وأرسلوا معه سؤالًا من إنشاء الحكيمين والخطيب، وطلبوا مرسومًا سلطانيًّا لمنعها بمكة.
ولما انصرفوا من عقد المجلس شهر الأمير خاير بك النداء بمنع شربها، وشدَّد في ذلك، حتى إنه عزَّر جماعة من باعتها، وكبس مواضعهم، وأخرج ما وجده فيها من قشر البن، وأحرقه في وسط المبيع، فبطلت حينئذ من السوق وكان الناس يشربونها في بيوتهم؛ اتقاء شره لأنه بلغه عن شخص أنه شربها فعزَّره، وطاف به في الأسواق.
ثم بعد ذلك ورد المرسوم السلطاني، ولكن لا على وفق غرضهم، فتجاسر الناس على شربها، ولا سيما وقد بلغهم أنها لا تُمنع في مصر التي هي بلدة السلطان، ولم ينكرها أحدٌ من علمائها، وفتر خاير بك عن التسلط على الناس بسببها، واستمر الحال على ذلك، وقال بعض أهل المجون:
وفي سنة تسع وثلاثين وتسعمائة (٩٣٩ﻫ) رُفع للشيخ العلامة واعظ العصر شهاب الدين أحمد السنباطي سؤالٌ هذه صورته: ما قولكم — رضي الله عنكم — في شراب يُسمُّونه القهوةَ، يجتمع عليه الجماعة ليشربوه، ويزعمون أنه مباحٌ مع أنه يترتب عليه مفاسدُ كثيرة، فهل ذلك جائزٌ أم حرام؟ فأجاب بحرمتها وأنها مُسْكرة.
وفي سنة ٩٤١ تعرضوا للشيخ في مجلس وعظه بذكر القهوة، فأفتى بحرمتها، وصمم على ذلك في مجالسه بالجامع الأزهر، فتعصب جماعة من القوم لَمَّا سمعوا منه ذلك، وخرجوا إلى بيوتها من تلقاء أنفسهم بغير أمر حاكم، بل لمجرد الحفلات العامية، وكسروا أوانيها، وضربوا جماعة ممن كانوا هناك، فقام بسبب ذلك فتنةٌ وتعصُّب ممن يقول بالحل والحرمة، واحتاج الأمراء إلى الاستفتاء أيضًا، واتصل «الخبر» بقاضي مصر الشيخ محمد بن إلياس الحنفي، فسأل عن حكمها جماعة من علماء القاهرة المفتين بها، واعتمد على إفتاء من قال بحلها من العلماء المعتبَرين، ثم استظهر بعد ذلك فأمر بطبخها في منزله، وسقى منها جماعاتٍ بحضرته، وجلس يتحدث معهم؛ ليختبر حالهم، فلم يَرَ فيهم تغييرًا ولا شيئًا منكرًا، فأقرها على حالها.
وفي سنة (٩٤٥) بينما جماعةٌ في بيوت القهوة يستعملونها في شهر رمضان بعد العشاء وافاهم صاحب العسس، إما من تلقاء نفسه وإما بأمر أُوحي إليه، وأخرجهم منها بهيئة شنيعة، بعضهم بالحديد وبعضهم مربوطٌ بالحبال، فباتوا في منزل السوبا شاه، ثم أُطلقوا صباحًا بعد أن ضرب كل واحد منهم سبع عشرة ضربة، ثم لم يلبثوا أن ظهر الحق، وعاد الحال إلى ما كان عليه أولًا بعد يومين أو نحوهما.
وورد في سنة (٩٥٠) في موسم الحاج صحبة الركب الشامي إلى مكة حكمٌ سلطانيٌّ بمنع القهوة وإبطالها، وإلزام باعتها بمنع التسبب فيها وإبطالها محالها … ثم تعددت بيوتها على غير مبالاة من الولاة، وشُربت في تلك السنة جهارًا، وكذلك مُنعت بالقاهرة مرارًا فلم تَطُل المدة، وعلا منارها، ولم يزل أمرها ظاهرًا، وتعداد بيوتها وافيًا مشتهرًا، ويشربها العلماء والصلحاء وأماثل الفقهاء، ويقر عليها أهل الإفتاء والتدريس، ويواظب على شربها من وصف بالفضل … والذي أقوله: إن الحق الذي لا مراء فيه ولا شبهة تعارضه وتُنافيه أنها في حد ذاتها حلال، وبها نشاط على العبادة، ولا يشوبه نقص أو اختلال.
وحسب القارئ هذه المختارات من الكتاب، وكلُّها تدل على أن معظم الفقهاء والحكام حاولوا — إلى منتصف القرن العاشر الهجري — تحريمها في مصر والحجاز، مستندين في ذلك إلى الدين، ولكن بيوت القهوة «تعددت على غير مبالاة من الولاة» وأبى الجمهورُ أن يتقيد بفتاوَى الفقهاء أو تنطُّع الحكام، واحتفظ بحريته في تناول الطعام والشراب. وحرية الأكل من الحريات التي قد نستهين بها، ولكن إذا اعتبرنا المبدأ نجدها أنها ليست دون الحريات الأخرى قدرًا؛ لأنها تستند — في الواقع — إلى حرية الفكر.