إرهاصات النهضة الأوروبية
الإرهاص لفظةٌ شرعية، معناها تلك الخوارق أو الكرامات التي يأتيها النبيُّ قبل أن تبلغ نبوته سن الرشد؛ أي قبل أن يستتم حقوق الدعوة إلى دينه الجديد، ولكل حركة اجتماعية في العالم إرهاصاتٌ تتقدمها، وتدل عليها، وتكاد تنطق بها، فللثورةِ الفرنسية الكبرى إرهاصات واضحة في صيحات فولتر وديدرو وروسو، ونحن الآن نعيش على أبواب انقلاب اجتماعي خطير، نرى إرهاصاته في التقدم الآلي للصناعات، وفي الدعاية الاشتراكية التي هي نتيجةُ هذا التقدم، وأيضًا في تقدُّم البيولوجية التي ستتحكم في المستقبل القريب في نظام الزواج والعائلة.
والآن يجب أن نُلقي نظرة على القرون الوسطى في أوروبا؛ لنتبين فيها إرهاصات النهضة الكبرى، التي يتواضع المؤرخون على أنها بدأت في ختام القرون الوسطى سنة ١٤٥٣ﻫ عند سقوط القسطنطينية في يد الأتراك.
ولقد سميت القرون الوسطى — بحق — القرونَ المظلمة؛ فهي تمثل العصور التي ساد فيها الجهل والتعصب أوروبا، والتي زالت فيها ثقافة الإغريق، وصار العلم — أو مَسْخ العلم — مقصورًا على الرهبان في الأديرة، وكانت معارف هؤلاء مقصورةً على الآداب اللاتينية، وعلى شيء قليل من نظريات إقليدس، وعلى ما تُرجم من العربية إلى اللاتينية عن أرسطوطاليس وأفلاطون — وأولهما طبيعي، وثانيهما إلهي.
وكان أساتذة تلك العصور يجهدون أنفسهم في رياضة الفلسفة على أن تكون مطيةً للدين، وقد ريضت فلسفة ابن رشد وفلسفة تلميذه ابن ميمون لهذه الغاية، وكان علم الرهبان قائمًا على النقل والجدل والألفاظ، بعيدًا عن الابتكار، يُعنى أكبر عناية بدرس آباء الكنيسة، ويهمل الإهمال كله أية نزعة نحو الاستقلال في الفكر.
والنزعة هي كل شيء في ثقافة الأمم؛ فهي التي تقرر وجهتها، وتعمل لرقيها أو انحطاطها، وتقديم العلم أو تأخيره، فإذا كانت النزعة في الأمة هي النقل والجدل اللفظي فإنها لا تكتشف شيئًا في عالم الفكر، وإذا صادفها اكتشاف لم تقصد إليه لم تنتفع به.
ففي القرن الثالث للميلاد مثلًا عرفت البوصلة وعرفت العدسة، ومع ذلك بقي هذان الاكتشافان عدة قرون يسمع بهما الناس، ولا يحاول أحد أن يضع عنهما «نظرية»، وعرفت أشياء مهمة مدة القرون الوسطى عن التشريح والفلك والنبات، ولكن لم يحاول أحدٌ أن يجمع هذه الاكتشافات في نظريات.
والنظرية في العلم أداة اقتصادية لا يُستهان بها، تجمع المعارف المشتتة في قاعدة واحدة، وتفتح الباب لإيجاد قاعدة أُخرى فتتقدم بذلك العلوم، ولكن نزعة القرون الوسطى كانت — كما قلنا — قائمة على النقل والمعارف، تجمع وتحفظ لخدمة الدين.
وكان العرب في إسبانيا قد اشتغلوا بالكيمياء، واعتمدوا على التجربة في خَلْط العناصر والمركبات، فاهتدوا إلى معرفة جملة أشياء كيماوية، وكانت شهوةُ المال هي الغاية من هذه التجارب التي كانت ترمي إلى إحالة المعادن الخسيسة إلى ذهب، وانتقلتْ عدوى هذه الشهوة من إسبانيا إلى أُوروبا، فأخذ العلماء والمشعوذون يشتغلون بالتجارب العلمية، فكانت هذه نزعة جديدة اكتسبتْها أوروبا من عرب الأندلس.
ونحن نرى أثر هذه النزعة في «روجور بيكون» الذي مات سنة ١٢٩٢، وهو أول عالم من القرون الوسطى نُحسُّ فيه بالروح العلمية؛ فقد قال عن العلوم التجريبية: «إن جميع العلوم — ما عدا هذا العلم — إما أنها تَستعمل الجدل لاستنتاج النتائج مثل العلوم النظرية، وإما أنها هي نفسُها استنتاجاتٌ عامةٌ ناقصةٌ، والعلم التجريبي وحده يحقق إلى درجة الكمال صحة ما يمكن الطبيعة أو الفنون أو الخداع عمله، فهو وحده يعلمنا كيف نقف على غباوات السحرة، كما يعلمنا المنطق كيف نميز بين الصحيح والخطأ من الجدل.»
أليس هذا إرهاصًا بالنهضة العلمية؟ ولم يقنع بيكون بالكلام؛ فإنه انكبَّ على بواتقه يُحلِّل ويخطط الأجسام، ويُقال: إنه صنع نوعًا من البارود استخرجه من الفحم، وتنبأ باختراع البواخر والميكروسكوبات، وكان يحض الطلبة في أكسفورد على تعلُّم العربية والإغريقية والعلوم الطبيعية، مما استحق لأجله أن يُتَّهَمَ بمزاولة السحر، وأن يُحبس عليه ١٤ سنة بحكم البابا والكهنة، هذا في العلم.
ولكن النهضة الدينية كان لها إرهاصات أيضًا في شخص «ويكلف» الذي مات سنة ١٣٨٤؛ فإنه ترجم التوراة إلى الإنكليزية، وتجرأ على أن يضع مبدأ خطرًا، خلاصته: أن كلمة الإنجيل هي أساسُ المسيحية، ولا عبرة بما يقوله الكهنة مما يخالفها.
وبيكون وويكلف كلاهما إنجليزيٌّ، ولكن الشرارة التي قدحاها استطارتْ إلى أُوروبا، ففي سنة ١٤٠٠ نجد كاهنًا بوهيميًّا في براغ ينشر على الناس مذهب ويكلف، هذا الكاهن هو «جون هس» الذي قُتل سنة ١٤١٥، وعلم البابا بنشاطه في الدعوة إلى مذهب ويكلف فأمر في سنة ١٤١٠ بإحراق كتب هذا الراهب الإنجليزي، وحكم على هس بالحرم.
وحدث في سنة ١٤١٥ أنه رحل إلى كونستانس — في ألمانيا — ليشترك في مناقشات المجمع الكنسي، فلما بلغ المدينة قبض عليه الكهنة، وحاكموه وقضوا عليه بالقتل لهرطقته، فقُتل دون أن يستغفر أو يبديَ أقل ضعف، وأُحرقت كتبُه أمامه قبل قتله.
ومما هو ذو مغزًى أن ثورة ويكلف وثورة هس لم تقتصرا على الإصلاح الدينيِّ فقط؛ فإن الأول أحدث ثورتين بين الفلاحين في إنجلترا، والثاني أحدث حركة وطنية في بوهيميا؛ لأن العين إذا انفتحت للفساد في إحدى نواحي النظام الاجتماعي امتد بصرُها لسائر النواحي، والنفس إذا نزعت نزعة النقد للدين لم يرضها التسليم بسائر الفضائح في الحكومات أو التفاوت الاقتصادي أو غير ذلك.
ولذلك نجد أن النهضة الأوروبية لم تكن نهضة دينية فقط، بل كانت نهضة أدبية وعلمية أيضًا، وإنما كان أساس هذه النهضات الرغبة في إصلاح الدين، وكف رجاله عن أذى الناس، ومتى تجرأ الإنسان على أن يقف في وجه آلهته لم يُبالِ بعد ذلك بالقيود، بل سرعان ما يحطمها، وينطلق حرًّا قد خلع عنه مأثور السلف، وأخذ ينظر بعين النقد لكل شيء.