البروتستانتية
نجحت البروتستانتية؛ لأنها جاءت في وقت كان قد آن فيه أن تنجح، فقد خرج قبلها كثيرون على رومية، طوائف وأفرادًا، ولكنهم لم ينجحوا؛ لأن الزمن لم يكن قد نضج بعد للنجاح.
- (١)
لأن البابوية كانت قد طمت وطغت، بحيث كان الكهنة يبيعون للناس غفراناتهم عن خطاياهم، وأيضًا كان الناس قد سئموا المظالم التي ارتكبتها محاكم التفتيش.
- (٢)
ظهورُ مبدأ القوميات سببٌ آخرُ للنهضة البروتستانتية؛ فإن الملوك والأمراء الذين كانوا يحكمون أوروبا في شمال الألب كانوا يغارون من سلطة البابا، ويميلون إلى الاستقلال عنه، ورأوا أن في الانفصال الديني عن كنيسة رومية زيادة في نفوذهم وسلطانهم، فروَّجوا لذلك الدعاية البروتستانتية في بلادهم.
وصاحب الدعاية البروتستانتية هو لوثر، ولد سنة ١٤٨٣ ومات سنة ١٥٤٦، وهو ألماني الدم والمنشأ والوطن، بدأ حياته راهبًا، ثم صار أستاذًا للفقه في جامعة جوتبرغ، وفي سنة ١٥١٧ جاء المدينة راهب يبيع الغفرانات، فأعلن لوثر أن هذا العمل يناقض المسيحية، وعقدت على إثر ذلك مؤتمرات من الكهنة، نُوقش فيها لوثر، فأصرَّ على تخطئة كنيسة رومية، وطبع ثلاث رسائل يوضح فيها مذهبه وينتقد البابوية، وأذاع البابا منشورًا سنة ١٥٢٠ يجحد فيه آراء لوثر، فأخذ لوثر هذا المنشور وأحرقه على الملأ في جوتبرغ.
وصح عندئذ في أذهان الألمان أن النزاع بين لوثر وبين البابا هو نزاعٌ بين الحرية والتقييد، وبين القومية والمسيحية، فانضموا إلى لوثر.
وفي سنة ١٥٢١ ترجم لوثر التوراة والإنجيل إلى الألمانية، وكان لا يقرأ قبلًا إلا في لغة المسيحية — اللغة اللاتينية — وفي سنة ١٥٢٥ قطع الطريق بينه وبين رومية بأن تزوج راهبة، وعاش عيشة هنية إلى أن مات سنة ١٥٤٦.
والآن ماذا ربح العالم من خروج لوثر على كنيسة رومية؟ كان أول الرابحين الكنيسة الكاثوليكية نفسها، كنيسة رومية، فإنها عندما رأت الصدمات تتوالى عليها وأوروبا ينشق نصفُها عنها، ويعمل على إزالتها من الوجود؛ اضطرت إلى الاعتدال والضبط والإصلاح، فألغت بيع الغفرانات، ونزلت محكمة التفتيش عن بعض قساوتها، وضبط الباباوات أنفسهم، فلم يعد يرأس الكنيسة أمثال بورجيا، واصطلح حال الرهبان، وظهرت شيعة اليسوعيين، الذين كانوا مثالًا للهمة في خدمة الدين والعلم معًا.
وكان ظهور البروتستانتية ربحًا للحرية الفكرية؛ لأنها وإن كانت قد ظلمت وطغت أيضًا إلا أنها لم يكن بها محكمةُ تفتيش، ولا قتل ولا إحراق، ولا مصادرة مما كان فاشيًا وقتئذٍ.
ثم إن وجود مذهبين سهَّل على الناس الجرأة على دعاوى الكنيسة، وحرر البحث الديني بعض التحرير من القيود الاستبدادية التي كان يضعها البابا، ثم إن ترجمة التوراة والإنجيل للغات أوروبا الحديثة جعل الناس يدرسونهما وينقدونهما؛ لأنهما كانا قبلًا وقفًا على من يعرف اللاتينية، أما الآن فإن كل بروتستانتي صار يمكنه الدرس والنقد ما دام يقرأ لغة بلاده.
وليس من شأننا أن نبيِّن الفرق المذهبي بين البروتستانتية والكاثوليكية، وإنما خلاصة ما يمكن أن يقال في ذلك أن الكاهن في الكاثوليكية وسيطٌ بين المسيحي وربه، أما في البروتستانتية فهو مرشد فقط.