أرازموس
في هذا الفصل وفي بضعة فصول تاليةٍ سنُترجم لحياة طائفة من زعماء التفكير، كل منهم يمثل طرازًا خاصًّا من هذا التفكير من عهد النهضة إلى القرن الثامن عشر، وفي خلال هذه التراجم سيرى القارئ مناظر عدة للكفاح بين الفكر الإنساني، الذي يبغي الانطلاق والحرية، وبين القيود التي وضعها الجمود لحبسه وكبحه.
ويجب أن نضع في أول قائمة هؤلاء الأبطال «أرازموس» الذي وُلد سنة ١٤٦٦ ومات سنة ١٥٣٦؛ فإنه كان يمثل النزعة إلى الدرس والثقافة، وليس شيء يعمل للحرية الفكرية، ويضمن بقاءها، ويحث على الدفاع عنها مثل الثقافة الواسعة المتشعبة؛ لأن الوقوف على الآراء المختلفة والمتناقضة يُشبع القلب بروح التسامح وكراهة التعصب.
ولد أرازموس في هولندا، وكان يشبه «دافنشي» أحد رجال النهضة أيضًا في إيطاليا من حيث إن كليهما كان ثمرة السِّفَاح، وتربَّى في مدارس هولندا وأديارها، ثم رحل إلى باريس، ومنها إلى إنكلترا، حيث أقام بأكسفورد مدة، عرف فيها توماس مور صاحب الطوبى المشهورة، وهناك تعلم اليونانية، ثم ارتحل إلى القارة ثانيةً، وعاد إلى كمبردج بإنكلترا فدرس اليونانية.
وأخيرًا قرَّ قرارُه في بازل في سويسرا، وأخرج فيها معظم مؤلفاته، وكان يرتحل عنها ثم يعود إليها، حيث مات سنة ١٥٣٦.
ورأى أرازموس في حياته انقلابَين في الأفكار: أولهما اكتشاف أميركا سنة ١٤٩٢، وثانيهما ترجمة لوثر للكتاب المقدس سنة ١٥٢١، وكان هو نفسه جديرًا بهذا العمل الأخير، بل كان أجدر من لوثر به؛ لأنه كان أثقف منه وأعرف باللاتينية واليونانية، ولكن نزعته كانت أميل للثقافة والدرس منها إلى الكفاح والمصادمة.
بل يُمكن أن نقول إنه أحيانًا يخشى النار التي كانت تعد للمهرطقين، فكان يصادق الكاثوليك والبروتستانت معًا، ويعيش في إيطاليا حيث محكمة التفتيش، كما يعيش في ألمانيا حيث كانت تبلغ الحماسة للمذهب الجديد درجة التعصب المؤذي، وكان تنقُّلُه هذا بين المذهبين، ثم ثقافته الواسعة في أدب الإغريق والرومان القدماء، وإيضاح روح الجرأة الذي ابتعثه في النفوس اكتشاف أميركا؛ كل هذه جعلتْه يقول بالتسامح ويدعو إليه.
وأكبر مآثر أرازموس طبْعه للإنجيل سنة ١٥١٦ باللغة اللاتينية تقابلها الإغريقية صفحة بعد صفحة؛ فإنه بهذا العمل افتتح عصرًا جديدًا لدرس الإنجيل درسًا تاريخيًّا دقيقًا، ثم إنه محَّص كتب القدماء وحررها من نسخ النساخ، وأعاد طبعها، فابتعث في النفوس ذوق الدرس لهؤلاء القدماء. أما عن التأليف فإنه لم يضع سوى كتاب واحد هو «مدح الجنون» وسائر حياته قضاه في تحرير الكتب القديمة.
و«مدح الجنون» هذا من الكتب الفريدة، التي أثرت أثرًا كبيرًا في عصر النهضة؛ فإنه وضعه على طريقة «دون كيشوت» وضمَّنه المجون والتهكم على الأوضاع والأنظمة السائدة في عصره، تكلم فيه عن تنطُّع العلماء وجهل الجهلاء، ولم يترك فيه أحدًا ذا مكانة من البابا إلى الرهبان ومن الملوك إلى الجنود حتى آذاه بغمزة وعرَّض به، وعبرة الكتاب التي يستخرجها القارئ منه أن العالم حافل بالأغلاط والمساوئ، وأنه يحسن بنا أن نتسامح؛ لأنه ليس لأحد منا أن يعتز بعلمه ويتيه به على الناس، وأنه خير لنا أن ننظر إلى الإنجيل ليس باعتبار أنه شريعة للناس تسن لهم نظام الحكم والمعيشة؛ بل حسبنا منه أن يكون مرشدًا لنا في الأخلاق.
ومن الناس من ينقم على أرازموس أنه كان مع تشبعه بروح العصر، ومع معرفته بفضائح زمانه لم يعمد إلى الثورة كما فعل لوثر، وقد أجاب هو على ذلك بقوله: إنه «لو امتحن لفعل مثلما فعل بطرس» أي أنه ينكر سيده، وينكر الحق حقنًا لدمه.
والحقيقة أن مهمة الرجل كانت مقصورة على نشر الثقافة والنقد، فهو أديب درس وألَّفَ وعمم المعارف، ولم يكن خطيبًا يُكافح ويناضل.