رابليه
ولد رابليه في إقليم تورين في فرنسا سنة ١٤٩٠ ومات سنة ١٥٥٣، وتعلَّم في مدارس الرهبان في فرنسا، وسلك في سلك الرهبانية إلى أن بلغ الأربعين حين جحد حياة النسك، وخرج إلى الدنيا سنة ١٥٣٠.
ومما يؤثَر عنه مدة تلمذته أنه أكب على الإغريقية، فتعلمها، وضبطت في صومعته عدة كتب لهيرودوتس وغيره، فطرد من الدير، وانتقل إلى دير آخر أخف رقابة منه.
وخرج من الرهبانية وهو في الأربعين، فتتلمذ من جديد ودرس الطب في مونبلييه، ونال لقب الدكتوراة بعد سبع سنوات سنة ١٥٣٧، والتحق بمستشفى ليون، وهناك أخذ يحرر الكتب القديمة، ويطبعها على نحو ما كان يفعل أرازموس، وزار إيطاليا وألمانيا، ثم عاد إلى باريس ومات سنة ١٥٥٣.
ويمتاز رابليه على أرازموس بشيء آخر غير حب الثقافة والدرس ونشر الكتب القديمة؛ وذلك أنه نزع نزعة علمية، فأخذ يدرس التشريح، وكانت الكنيسة تنكر هذا العلم إنكارها للتوسع في درس القدماء؛ إذ كانت تخشى من القدماء روح الحرية التي كانت تتسم بها كتب الإغريق والرومان، كما كانت تخشى أيضًا نبش النسخ الإغريقية القديمة للكتاب المقدس، ومعارضتها بما كان شائعًا منه، وكانت أيضًا تخشى الروح العلمية؛ لما فيها من نزعة التجربة، وإيثار حكم الواقع على حكم التقاليد.
ويُعزى إلى رابليه أكبر حادث في الأدب الفرنسي، فإنه في سنة ١٥٣٢ تجرأ ووضع أول كتاب باللغة الفرنسية العامية، وكان قد مضى على فرنسا أكثر من ألف سنة لا يقرأ فيها من الكتب سوى ما كانت لغته باللاتينية، فكان الفرنسي إذا أراد أن يخرج من الأُمية وجب عليه أن يتعلم هذه «الهيروغليفية» يتعلمها متعسرًا، ويقرأها متعسرًا، ويرطنها مع الرهبان رطانة قلَّما يستطيع أن يؤدي بها أبسط أفكاره، فإذا خرج من الدير أو من المدرسة تكلم مع بني وطنه بالفرنسية، فكان يفكر برأسين: رأس يشافه به الناس في الأسواق والمنزل والحقل، ولغة هذا الرأس هي الفرنسية، ورأس يحتفظ به للكتب والدرس والثقافة، ولغة هذا الرأس هي اللاتينية.
ووضع رابليه كتابًا بلغة العامة هو كتاب «حياة جرجنتوا وابنه بنطجرويل وأقوالهما وأعمالهما» وهو أسطورة عن عملاقين تخيلهما رابليه من عالم الوهم؛ لكي يحمل بهما على عالم الحقيقة، وغايتُه أن يُثبت أن الأصل في طبيعة الإنسان طيبة العنصر وصدق النظر وصحة الحكم، وأنه لا يفسده سوى التقاليد والقيود التي يضعها الدين.
ومع أن الكتاب خياليُّ اللهجة والأشخاص فإن جامعة السربون جحدتْه، وحكم برلمان باريس بإحراقه، ولم يُضطهد رابليه بأكثر من ذلك؛ فإن اللهجة التي اتخذها في رواية أسطورته كانت حائلًا دون محاكمته.
- (١)
أطلق الذهن الفرنسي من قيود الأداء اللاتينية، وجعل الفرنسية لغة الثقافة والدرس.
- (٢)
نزع نزعة علمية بدرس التشريح.
- (٣)
سار في النهج الذي اختطَّه قبله أرازموس بدرس القدماء وتوسيع الذهن بالوقوف على فلاسفة الإغريق والرومان، وتحرير كتبهم.
- (٤)
وضع الطبيعة البشرية أمام التقاليد الدينية، وآثر الأولى على الثانية.