قتال الكاثوليك والبروتستانت
عندما نقرأ الآن الصحف نجد أن معظم الأخبار خاصة بالرأسمالية والاشتراكية والشيوعية، وبإضرابات العمال والتعاون والنقابات ونحو ذلك، وكلها تدل على أن المسائل الاقتصادية هي الشغل الشاغل لأذهان الساسة الآن.
ولكن الحال كانت تختلف عن ذلك في القرنين السادس عشر والسابع عشر، فإن الذي كان يشغل الأذهان في ذلك الوقت هو المسائل الدينية، وكانت مع ذلك تشغلها بحدة وشدة، فإننا نسمع الآن عن دسائسَ سياسية صحيحة أو مزعومة، وعن هياج للعمال يُقتل فيه واحدٌ أو اثنان، ولكن في ذلك الوقت كانت تنشب الحروب فَيُقْتَلُ فيها الآلاف، وتخرب البلاد فيهلك سكانها بالملايين، وكل ذلك من أجل الدين، ومن الكراهية المتبادلة بين الكاثوليك والبروتستانت.
ولكن قبل أن نذكر الحروب المذهبية والتنافس الحربي بين الكاثوليك والبروتستانت يجب أن نشير إلى ما كان من نتائج التنافس السلمي بينهما، فإن كل طائفة صارت تغار على أبنائها، وتخشى من تسرُّب العقائد الفاسدة إلى نفوسهم، فكانت لذلك تؤسس المدارس لتلقين الصغار بالعقيدة الصحيحة، وظهرت فرقة اليسوعيين سنة ١٥٣٤ لهذا الغرض، فإنها عندما رأت نشاط البروتستانت خشيت أن تتضعضع الكنيسة القديمة أمامهم، فتأسست لهذا السبب المدارس اليسوعية، وكانت سندًا عظيمًا استندت إليه الكاثوليكية.
وحسب القارئ أن يرى الآن نشاط اليسوعيين في مصر وسوريا ولبنان؛ ليقيس عليه نشاطهم في القرن السادس عشر في أوروبا، وحركة إنشاء المدارس الحديثة ترجع إلى ذلك العهد.
ثم يجب ألا ننسى أيضًا أن إنشاء المدارس قد روَّج الطباعة؛ لأن المطابع أصبحت تجد في الكتب المدرسية مادة تعيش منها. وهنا أيضًا يجب أن نضرب المثل بنشاط المدارس اليسوعية عندنا في طبع الكتب.
هذه هي بركات المنافسة الدينية السلمية، أما نكباتها وكوارثُها ففي الاضطهادات والمجازر والحروب. ولكن يجب أن ننبه القارئ إلى أنه كانت هناك اعتباراتٌ أخرى في الحروب الدينية غير الدين.
وأول هذه الكوارث إرسال فيليب — ملك إسبانيا — جيشًا على هولندا؛ لإخماد الحركة البروتستانتية، فقد قام في رأس فيليب أنه حامي ذمار الكاثوليكية، فبينما كانت محكمة التفتيش في إسبانيا تطارد المغاربة كانت جيوشه تحرق المدن وتقتل الناس في هولندا، وكان ذلك سنة ١٥٧٢، وهي السنة التي ذبح فيها نحو ٢٥٠٠٠ بروتستانتي في عيد سان بارتلوميه.
وانهزم فيليب في هولندا، فجهَّز أسطولًا لمقاتلة الإنجليز والهولنديين معًا سنة ١٥٨٨، وهنا يتضح للقارئ أن الدين كان تعلة وتكأة يتكئ عليها فقط، ولكن القصد هو الفتح، وقد انهزم الأسطول الإسباني، وأخذت هولندا وإنجلترا تستوليان على ممتلكات إسبانيا في آسيا.
ولكن أعظم الحروب الدينية بعد الحرب الصليبية هي حرب السنين الثلاثين التي بدأت سنة ١٦١٨، وانتهت بخراب ألمانيا تقريبًا سنة ١٦٤٨، ففي هذه الحرب حاول الإمبراطور فرديناند الثاني — وهو من أسرة هابسبرج — أن يمحو البروتستانتية من ألمانيا، فأرسل عليها جيوشه تُخَرِّبُ وَتُدَمِّرُ، حتى يقال: إن خمسة أسداس القرى والمدن الألمانية خربت، وإن الأهالي الذين كانوا ١٨ مليونًا نزلوا إلى أربعة ملايين.
ودخل جوستافوس أدولفس السويدي فدحر جيوش الإمبراطور، ثم استحالت هذه الحرب الدينية إلى حرب سياسية صريحة، فانضمت فرنسا الكاثوليكية إلى السويديين البروتستانت لقتال الإمبراطور، ودخلت الدنمارك البروتستانتية الحرب ولكن لا لقتال الكاثوليك وإنما لقتال السويديين البروتستانت، وكانت نتيجة هذا الخراب العظيم الذي نال أوروبا؛ أن الناس عرفوا قيمة التسامح لا حبًّا فيه، بل خوفًا من عواقب التعصب.