جلالة الملك فولتير
وُلِدَ فولتير سنة ١٦٩٤ ومات سنة ١٧٧٨.
يُحْكَى عنه أنه قال مرة: «وما عليَّ إذا لم يكن لي صولجان؟ أليس لي قلم؟»
وقد حق لفولتير أن يفاخر بقلمه كما يفاخر الملك بصولجانه؛ لأنه إذا كان للملوك ملك فلفولتير ملكوت، وإذا كان لكل ملك رعية مؤلفة من جميع الطبقات فلفولتير رعيةٌ راقية، مؤلَّفة من رجال الذهن في جميع أنحاء العالم، وإذا كانت الملوك تتفاضل بالأثر النافع الذي يتركه حكمها في رعاياها فأي ملك استطاع أن يؤثر في أذهان الناس بمقدار ما أثر وما سيؤثر فيها فولتير؟!
أجل، إن هناك ملوكية لا تتبوأ العرش المُذَهَّب، ولا تعقد على الرأس الإكليل المرصَّع، تلك الملوكية تكون بسعة الثقافة التي يشرف صاحبها على العالم، ماضيه ومستقبله، يرسم له مثله العليا ويوجِّه خُطاه نحوها، فقادة العالم الحقيقيون هم فلاسفتُه وعلماؤه الذين يرسلون صوتهم إلينا عبر القرون، فنسمع لهم، ونأتمر بأمرهم.
وفولتير واحدٌ من هؤلاء الملوك، تناول صولجانه فألَّف به نحو سبعين كتابًا، كلها في الدفاع عن رعيته؛ أي عن رجال الذهن والمفكرين. ولقد كتب في التاريخ ولكنه لم يبرز على أحد من المؤرخين، وكتب في الأدب ولكن بين الأدباء من يبذه، ولكنَّ له فضلًا واحدًا، وهو أنه أرصد قلمه وماله، وقوة جسمه الضعيف، وجاهه، وكل ما يملك في العالم؛ لإثبات حق كل إنسان في الحرية الفكرية، ولمكافحة الظَّلَمَة والمتعصبين والأغبياء.
ولعلك — أيها القارئ — قد سمعت عن «كاتو» ذلك الروماني العنيد الذي قضى أكثر من خمسين سنة وهو يصبح ويمسي فيقول للرومانيين: «يجب أن تُدمر قرطاجنَّة» حتى رأى بعينه تدمير قرطاجنَّة، وزالت دولة الفينيقيين التي كانت تخيف رومية، فهذا فولتير قد فعل فعله، وقضى عمره وهو يصيح بالعالم الأوروبي عامة وبفرنسا خاصة: «اسحقوا أهل الخزي» وأهل الخزي والعار هم الذين يضطهدون الأحرار.
والعجب في فولتير هذا أنه حارب الكنيسة الكاثوليكية، وهدم سلطانها على الأحرار، وهو مؤمن شديد الإيمان بالله، بل لعل ذلك لم يكن عجيبًا، ولم يكن إيمانه إيمانًا فلسفيًّا، بل كان إيمان الهوى والعاطفة، حتى إنه لما قيل له: إن جبال الألب كانت في تاريخها الغابر تحت الماء بدليل أصداف المحار المتحجرة فيها؛ رفض أن يصدق هذا القول؛ لأنه ينافي وجود عناية إلهية، ترعى خلائق اليابسة وخلائق الماء.
وحدث في حياته زلزال لشبونة، ودُمرت المدينة، فتزعزع إيمانه قليلًا، ولكن هواه تغلب عليه، وعادت إليه عقيدته في الله، وإنما كان فولتير يكفر بالخرافات التي ترويها الكنيسة المقدسة، وكان إكباره لله يدعوه إلى الكفر بهذه الكتب.
وكانت أوروبا الشمالية في زمنه قد تحررت من قيود التعصب، وخفَّت فيها وطأة الاضطهاد أو زالتْ، وزار أيضًا ألمانيا، واختلط بفردريك الثاني، فرأى فيه ملكًا متسامحًا، لا يبالي أي دين يؤمن به رعاياه ما داموا يدفعون الضرائب، ويلتحقون بالجيش، فعزم على محو التعصب من فرنسا.
إن من يتلقن دينه بلا فحص يكون كالثور يتقبل النير بلا معارضة.
إن الدجاجلة هم وحدهم الذين يجزمون ويقطعون، فإننا لا نعرف شيئًا عن المبادئ الأولى، فمن الشطط أن نعين ماهية الله أو الملائكة أو العقول، وأن نعرف بدقة علة خلق الله للعالم، في حين أننا لا نعرف لماذا نرفع ذراعنا كلما شئنا، وليس الشك مما يرتاح له المرء، ولكن اليقين مدعاة الضحك والسخرية.
لا يحتاج المرء إلى براعة فائقة أو فصاحة نادرة لكي يبرهن على لزوم التسامح بين المسيحيين، بل بين جميع الناس على السواء، وقد تسألني الآن: هل يجب عليَّ أن أعتبر التركي أو الصيني أو اليهودي أخًا لي؟ أقول: أجل، أليس كلنا أبناء أب واحد وخلائق رب واحد؟!
وقد تقول: هؤلاء النَّاس يحتقروننا ويعتقدون أننا وثنيون، فأقول: إذا كان الأمر كذلك فإني أخطئهم، وأظن أني أدهش المسلم أو البوذي وأكسر من شرة عناده إذا أنا قلت لهما ما يلي: «هذه الكرة التي نعيش عليها ليست سوى نقطة تسير في الفضاء مثل سائر الكرات العديدة الأخرى، والإنسان الذي يبلغ طوله خمس أقدام إنما هو شيء حقير في هذا الكون، وهناك في جنوب إفريقيا أو جنوب آسيا إنسان لا يكاد يرى، يقف ويقول للناس: اسمعوا، إن خالق هذه العوالم قد أوحى إليَّ، فعلى هذه الأرض ٩٠٠٠٠٠٠٠٠ نملة صغيرة مثلي، ولكن ليس عزيز عند الله سوى جحري، أما سائر الأجحار فالله يكرهها، ولن يكون بينها سعيدًا سوى جحري.»
وعندئذ يسألونني: من هو هذا الأبله الذي نطق بهذا الهراء؟ فأقول لهم: إنهم هم أنفسهم يقولون ذلك، ثم أهدئ غضبهم.
لكي تدعي حكومةٌ ما الحق في أن تعاقب الناس على أغلاطهم يجب أن تتخذ هذه الأغلاظ هيئة الجرائم، وهي لن تكون جرائم حتى تحدث القلاقل بين الهيئة الاجتماعية، وذلك بأن تؤدي إلى التعصب، وعلى ذلك يجب على الناس أن يتجنبوا التعصب؛ لكي يستحقوا التسامح.
إذا أنت أصررت على أن الكفر بالدين السائد جريمةٌ فإنك تؤثِّم المسيحيين الأولين آباءك، وتبرئ أولئك الذين تنقم منهم اضطهادهم لهم.
ولننظر الآن إلى الجزء الآخر من برنامجه، وهو الدفاع عن المنكوبين الذين نزل بهم اضطهادُ رجال الدين والحكومات.
ففي سنة ١٧٦١ حدث أنه كان يقيم في مدينة تولوز رجلٌ بروتستانتي، يُدْعَى كالاس، له حانوتٌ بالمدينة، وكانت تولوز مشهورةٌ بتعصبها، تحتفل بعيد مقتل سان بارتلوميه كل عام، ومع ذلك استوطنها كالاس هو وعائلته، وكان في جرأته هذه متهورًا، قد أفرط في التفاؤل.
وحدث أن أحد أبناء كالاس تمذهب بالكاثوليكية، وأعلن الأب أمام جيرانه أنه لا يعارض أبناءه في اختيار أي مذهب يؤمنون به، ثم بعد ذلك حدث حادث آخر أخطر من هذا، وهو أنه كان لكالاس ابن آخرُ يُدْعَى مرقس يبلغ الثامنة والعشرين، وكان يرغب في دراسة القانون، ولكن البروتستانت كانوا محرومين من هذه الميزة، وكان هو بروتستانتيًّا متحمسًا لمذهبه، فلم يقدر على النزول عنه والتمذهب بالكاثوليكية كما فعل أخوه.
وأدى به هذا الصراع بين مصلحته وبين ضميره أن اختلَّ توازنه الفكري، فصار يخرج منفردًا، ويسير في الحقول، ويتكلم عن الانتحار ويمتدحه، وقد حفظ الأشعار التي يقولها «هاملت» عندما كان يمتدح الموت، فلم يسأله أحدٌ من إخوته أو والديه إلى أين يذهب؛ لأنهم تَعَوَّدُوا منه الخروجَ والسير على انفرادٍ بعد العشاء.
ولكن بعد ساعات وجد كالاس أنَّ ابنه قد خنق نفسه بحبل معلق من سقف الباب، وكان قد خلع ملابسه ووضعها قريبًا منه، وهي مرتبة مطبقة.
وكانت العادة أن المنتحر يحرم من صلاة الموتى، ويُجر على وجهه إلى خارج المدينة؛ كي تأكله الوحوش والجوارح، وخشي كالاس هذه الفضيحة، فوقف هو وأعضاء العائلة يتكلمون في كيفية دفن الجثة بدون التعرض لهذا العار، ولكن أحد الجيران شعر بالحركة، وسمع رشاشًا من الكلام يدل على الحادثة فأبلغ الشرطة.
وقبض الشرطة على جميع أفراد العائلة، وتفشَّت في البلدة إشاعةٌ مؤداها أن عائلة كالاس قد قتلت الشاب البريء الطاهر مرقس؛ لأنه أراد أن يدخل في حظيرة الكاثوليكية، ويفر من رجس البروتستانتية الذي يعيش فيه أبوه وإخوته.
وأصبح مرقس شهيدًا على الرغم منه، وحُملت جثته وبقيت في قاعة المدينة العمومية ثلاثة أسابيع، والناس يزورونها، ويترحمون على هذا المسكين الذي ذهب ضحية إيمانه، والكل مجمِع أن الأب قد خنق الابن، مع أن الأب كان عمره ٦٣ سنة وكان عمر الابن ٢٨ سنة.
وبعد خمسة أشهر تألفت المحكمة لمحاكمة العائلة، وحكمت على كالاس بالتعذيب، ثم بتمزيقه على الدولاب، وأُدْخِلَ غرفة التعذيب، وعُلِّقَ بمعصميه من سقف الغرفة حتى صار على ارتفاع متر من الأرض، ثم جُذِبَ إلى الأرض من رجليه حتى خرجت رجلاه وذراعاه من محاجرها. وأُنزل بعد ذلك، ثم أُجْبِرَ على أن يشرب مقدارًا كبيرًا جدًّا من الماء، حتى صار جسمه ضعفي ما كان قبلًا، كل ذلك وهو يُسأل عن الجناية فينكرها.
وأخيرًا حُمل إلى مكان القتل، فقطع الجلاد رجليه ويديه، وعندئذ جاءته أبالسةٌ من بني آدم يقال لهم: قضاةٌ، يسألونه هل ارتكب الجناية فينكر، حتى ضج القضاة من عناده، وأشاروا على الجلاد بخنقه، فاستراح المسكين من شياطين الإنس.
وكانت أملاكه قد استُصفيت، وخرجت أرملته لا تجد القوت، وأُخذ أولاده فوُزعوا على الأديار؛ لكي ينشئوا كاثوليكيين، وتزداد بذلك رعية البابا.
وكان فولتير مقيمًا بجنيف، فسمع بخبر هذه الكارثة التي نزلت بأسرة كالاس، فاستقصى وتحرى فوجده صحيحًا بكل فظاعته، فلم يعد يفكر في شيء في هذه الدنيا غير هذه الكارثة.
رأى فولتير أن وقوع هذه الكارثة اعتداءٌ على مملكته؛ فقد كان أمينًا على حرية الفكر، يدافع عنها في جميع أنحاء أوروبا، فأخذ يُكاتب جميع من لهم نفوذ في فرنسا لإعادة المحاكمة، وحمل الأرملة المولهة إلى باريس حيث عيَّن لها محاميًا مشهورًا، وجمع الشهود من الجيران، وأنفق من ماله بلا حساب، وكاتب ملك إنجلترا وإمبراطورة روسيا وأجبرهما على التبرُّع بشيء من نفقات الدعوى، ثم التفت إلى فرنسا، فعبَّأ الرأي العام، وجنَّد قلوب الأمة بكتاب جمع فيه الأدلة التي تُبَرْهِن على الظلم الذي وقع بهذه العائلة، ونشره غفلًا من اسم المؤلف.
وبعد تسعة أشهر — وصوت فولتير تتجاوب أصداؤه القوية في جميع أنحاء أوروبا: «اسحقوا أهل الخزي»؛ رضيت الحكومة الفرنسية بإعادة المحاكمة، ومضى عام آخر نطقت في نهايته المحكمة ببراءة كالاس الذي قتله قضاةُ تولوز بعد أن أنزلوا بجسمه الضعيف صنوفًا من العذاب.
وفُصل هؤلاء القضاةُ السفلةُ من مناصبهم، وتضمَّن الحكم نصيحة خفيفة الملمس لأهل تولوز بأن مثل هذا الحادث يجب ألا يتكرر، وبعد ذلك وهب الملك هذه العائلة التي أشقاها التعصب هبة صغيرة من المال.
هذه قضية واحدة من أكثر من عشر قضايا تطوع لها فولتير، ودافع فيها بقلمه وماله عن المظلومين المضطهدين، ومات وهو في الرابعة والثمانين من عمره، مهدود القوى، قد أقعده المرض وألزمه الفراش.
ومع ذلك كانت له قضية يدافع فيها عن شاب قد اتُّهم بتحطيم صليب وبحيازة المعجم الفلسفي، وبأنه لم يركع عند مرور موكب ديني. وكان الشاب قد أحرقته المحكمة، وانتهت منه بعد أن قطعت لسانه بالحديد المحمي، ثم قطعت ذراعه اليمنى، ثم أحرقته هو والمعجم الفلسفي.
وهذا المعجم من مؤلفات فولتير، ولكن فولتير نبش القضية، وأخذ يعرض تفاصيلها قطعة بعد قطعة على الرأي العام الفرنسي؛ حتى يقف الناس على هذا الظلم الصارخ الذي يوقعه الأغبياء بالأذكياء، مستعينين في ذلك بالقوانين والظلَّام. وهكذا انتهت حياة فولتير، وهو في ميدان المعمعة، بعد أن أبلى أشرف بلاء في سبيل الحرية الفكرية.
وهذا الرجل المكافح المقاتل من أجل الحرية كان مع ذلك يندى قلبه بندى المروءة إذا أحس بضعيف يتألم، أو إذا مُدَّتْ إليه يد المعدم تطلب الصدقة، فقد ذكرت عنه وكيلة بيته أنه غضب مرة من خادمة وأمر بطردها؛ ولهذا الغضب حكاية مضحكة تدل على مزاجه الفرنسي وزهوه، فقد كان عنده عقاب نحيل قد بان عظمه، فسمع فولتير الخادمة تقول: إنه يحسن بهذا العقاب أن يموت؛ لأن هزاله قد بلغ منه، وكان فولتير نفسه من حيث نحول الجسم وهزال الأعضاء مومياء مجففة، ووقعت إشارة الخادمة منه وظنها تلمح إلى شخصه، فأمر بطردها، ولكن وكيلة البيت رفضت، واعتمدت في ذلك على أنه إذا سألها عن علة بقاء الخادمة فإنها تقول: إنها طردتها، ولكنها لما لم تجد عملًا تعيش منه عادت إليهم، وعندئذ يفيض قلب فولتير بما طبع عليه من بر فيسكت؛ لأنه لا يطيق أن يسمع أن أحدًا يقول: إنه لا يجد ما يقتات به.
وحدث أنه وقع على خيانة اثنين في منزله، ونزل كلاهما على الأرض يركعان له حتى يغفر لهما هذا الذنب، وهما يرتجفان من العقاب، فركع هو في الحال على الأرض أمامهما وأنهضهما، وعيناه تفيضان بالدموع، وهو يقول لهما ألا يركعا إلا لله وحده.
أجل، إنه بمثل هذا الرجل يتطور الناس.