في تبرير الحرية الفكرية
النهضة الفكرية الحاضرة في مصر ترجع إلى عهد إسماعيل، ولا يكاد يكون لها علاقة بنهضة محمد علي؛ إما لأن نهضة محمد علي كانت ناقصة في ذاتها — كسقط الإجهاض — لم تستقرَّ فيها عواملُ النمو، قائمة على أفراد من الشركس والأتراك، وإما لأن عباس وسعيد قد قطعا الصلة بين نهضة محمد علي وبين نهضة إسماعيل.
وسواء أَصَحَّ هذا أم ذاك؛ فإن الواقع أننا نرى أُسس النهضة الحاضرة تُقام في عهد إسماعيل، ففي عهده ظهرت الصحف، وكان الشيخ محمد عبده والأفغاني يتكلمان عن إصلاح الأزهر والحكومة.
وكِلا الرجلين جديرٌ بالذكر في كتابنا هذا؛ فقد حاول كلٌّ منهما أن يوجِد اتصالًا بين الشريعة والحكومة، ويبدو من ذكريات رينان المطبوعة أن الأفغاني كان ملحدًا، ولكن الذين عاشروه في مصر يعتقدون غير ذلك، وقد كتب هو نفسه عن نظرية داروين ما يثبت نظره الديني المحض.
أما الشيخ محمد عبده فمعروفٌ في مصر بجهاده للحرية، وقد حاول إصلاح التعليم الديني، وبلغ منه شأوًا عظيمًا، وإن لم يحقق جميع أغراضه، وكان مما يهتم له أن يمسح على المعاني القرآنية روح العصر الحديث؛ فقد فسر مثلًا الطير الأبابيل — المذكورة في سورة الفيل — بأنها ميكروبات نزلت بالناس فأحدثت المرض الذي فتك بهم، وأن السماوات السبع هي ضرب من الكواكب ونحو ذلك، ولقي الشيخ محمد عبده عنتًا عظيمًا من علماء الأزهر؛ لاجتهاده ومخالفته المأثور.
ويُعد قاسم أمين في طليعة العاملين للحرية في مصر؛ فقد تربى بأوروبا، واشتغل بالقضاء في مصر، ثم قابل أحوال العائلة عندنا بما هي عليه في أوروبا، وعزا ضعف الأخلاق والجهل الفاشي بين الناس وسوء التربية المنزلية إلى حجاب المرأة، فدعا إلى السفور، وأنكر أن الإسلام يحتم حجاب المرأة، وقد أحدثت دعوتُه ضجة كبرى بين المصريين حينئذ، ولكننا نعرف الآن حكمة هذه الدعوة، ونشعر أن كل يوم يمر على امرأة مصرية محجبة هو يوم لا يكسب من حياتها، وهو خسارة على الأمة بأجمعها، ومن الغريب أننا سبقنا الأتراك إلى القول بحرية المرأة، وسبقونا هم إلى العمل بها.
ومنذ خمسين سنة تقريبًا ترجم فرح أنطون كتاب رينان عن المسيح، واشتبك مع الشيخ محمد عبده في جدال بشأن الحرية الفكرية في الإسلام والنصرانية، وقد انتفع قُرَّاء العربية بكلا هذين العملين من حيث استضر بهما فرح؛ فإن رينان ترجم لحياة المسيح كأنه إنسانٌ لا يمتاز عن سائر الناس إلا بخلُقه العظيم، وذكائه الحاد، ونفسه الوديعة، فكانت هذه الترجمة كشفًا جديدًا بشأن الحرية الفكرية، فقد سار فيه فرح أنطون شوطًا بعيدًا في كتابه «ابن رشد وفلسفته» وأظهر القرَّاء على الاضطهادات الدينية القديمة، سواء من النصرانية أم من الإسلام.
وفي هذه السنين أيضًا كان المقتطف يلقي في أذهان القرَّاء نظرية التطور، ويبدي ويعيد فيها شهرًا بعد شهر، حتى أُشربت عقول طائفة كبيرة منهم بهذه النظرية، فتجرأ الناس بذلك على نقد الأساطير.
ولما احتلت بريطانيا مصر، وجعلت اللورد كرومر عميدها فيها؛ استبحرت الحرية الفكرية في البلاد، حتى كانت مصر مَحَطَّ بعض المضطهَدين، وكان اللورد كرومر رجلًا مثقفًا بالثقافة الإغريقية، يشق على مثله أن يقيِّد الأفكار الحرة، ولكن جاءت بعده طائفةٌ من الجنود والسيايين كانوا بعيدين عن الثقافة، فَضُيِّقَ في عهدهم على الصحف المصرية، حتى كانت المجلة العلمية لا يؤذن بإصدارها إلا بعد تحريات واستقصاءات، قد ينتهي عزم صاحبها وَهَنًا وسأمًا قبل أن تنتهي الإجراءات الخاصة بالإذن له بإصدارها.
ومن القيود التي تغل الحرية الفكرية أيضًا منع تمثيل أي درامة على المسرح ما لم تقرها الحكومة، فإذا وجدت أية إشارة تعتقد أنها تخالف ما تحب من آداب أو أديان أو أنظمة منعت الدرامة من التمثيل.
ومن أقرب حوادث الاضطهاد الديني في مصر حادثة الشيخ علي عبد الرازق؛ فقد كان عالمًا من علماء الأزهر، وقاضيًا شرعيًّا، فوضع كتابًا عن الخلافة قال فيه: إنها ليست أصلًا من أصول الإسلام، وإن الخليفة حاكمٌ مدنيٌّ لا غير، فعوقب على هذا الكتاب بتجريده من العالمية، وفصله من المحاكم الشرعية.
وحدث قبله أن الدكتور منصور فهمي وضع كتابًا بالفرنسية عن حياة الإسلام، فمُنع من التدريس بالجامعة أكثر من سبع سنوات.
كذلك وضع الدكتور طه حسين كتابًا عن «الشعر الجاهلي» خالف فيه العقائد الشائعة، فحاول العلماء أن يمثلوا معه الفصل الذي مثلوه مع الأستاذ علي عبد الرازق.
وخدمت مصر الحرية الفكرية في الشرق كله بمطبوعاتها وصحفها، ونبغ فيها كتَّاب يدعون إلى حرية البحث في الدين والعلم والأدب، وربما كان أبعدهم أثرًا في ذلك منذ بدء النهضة إلى الآن شبلي شميل وفرح أنطون؛ فإن الأول كان يُجاهر بكفره، ويسطو على رجال الدين متسلحًا بنظرية التطور.
وكان الثاني أديبًا له مدخلٌ لطيف إلى قلوب الشباب، كتب عن نيتشه، وعن الثورة الفرنسية، وعن المسيح باعتباره رجلًا، وعن الاضطهاد الديني، وكان في تجديده للأدب العربي جريئًا مقدامًا، يشق الميادين الجديدة، ولولا أنه دخل في غمار السياسة، ودار في إعصارها لانتفع به الأدب العربي كثيرًا.
•••
لا يبرر الحرية الفكرية سوى منفعتها، ولا يبرر تدخل الحكومة ومنعها للناس من حرية التفكير سوى حقها في الدفاع عن النفس، وحماية الجمهور من أذًى مباشر، أما إذا كان الأذى مقدرًا في المستقبل البعيد فلا يصح للحكومة أن تتدخل، فليس للحكومة، مثلًا، أن تمنع خطيبًا يتكلم عن فوائد الاشتراكية وأفضليتها للنظم الحاضرة، ونحو ذلك، ولا يمكنها أن تعتمد في منعه على: أن لهذا الكلام أثرًا في أذهان السامعين، قد يدعوهم إلى الهياج في يوم ما.
ولكن لها أن تتدخل إذا وقف هذا الخطيبُ ودعا الناس إلى الثورة على الأغنياء، وطَرْدِهم من دورهم، والاستيلاء على أملاكهم؛ لأنه في الحالة الأُولى يشرح نظامًا ويقابله بالنظام الراهن، ويقول بأفضليته عليه، ولكنه لا يحض الجمهور على التسلُّح، ومفاجأة الناس بالثورة.
وإذا كانوا هم قد اقتنعوا بصحة النظام الجديد الذي شرحه لهم، وفساد نظامهم؛ فلهم من برلمانهم بابٌ لتحقيقِ هذا النظام، ولا يمكن أن يحمل الخطيب تبعةَ هياجهم.
أما في الحالة الثانية فالدعوة إلى الهياج صريحةٌ، والجمهورُ ينقاد إلى الخطيب المهيج، ويستأنس بألفاظه العالية، كما يستأنس القاتل بسيفه، فهو هنا مسئول عن الهياج، والحكومة مطالَبةٌ بمنعه.
ويشق علينا أن نميز بين الحالات التي يؤدي فيها هذا التفكير الحر إلى الهياج المباشر الصحيح وبين تلك الحالات الأُخرى التي لا يؤدي فيها إلى ذلك، ولنضرب عدة أمثلة:
فهناك مثلًا خطيبان مرشحان للنيابة عن دائرة انتخابية في البرلمان، أحدهما له كثرةٌ ساحقة، فمهما خطب وأسرف وطغى في خطابته لا يجد من يناقضه، ولكن منافسه له قلة صغيرة جدًّا، فإذا نطق بكلمة عُدَّتْ كُفرًا، أو أثارتْ حوله ضجة وهياجًا، ففي هذه الحالة نجد أنه، وإن كانت كلمات هذا الخطيب تحدث هياجًا إلا أننا نرى الحكومة مطالَبة بحمايته هو، ومنع الهائجين من هياجهم؛ لأنه إنما يتكلم عن قلة، ولهذه القلة الحق في شرح آرائها، والذود عنها، وإن كان في هذا إغضابٌ عظيم للكثرة.
وهناك مثلًا درامة تمثل على المسرح، يشرح أحد أشخاصها مساوئ نظام الزواج الراهن، أو حجاب المرأة، أو نحو ذلك، وقد يستثير بمناظره هياجًا بين النظارة، ولكن الحكومة مطالبة مع ذلك بمنع الهائجين، وإلزامهم السكوت، وليست مطالبة بمنع التمثيل.
ففي كلتا الحالتين نجد هياجًا مباشرًا، أساسُهُ خطبة الترشيح للنيابة وأقوال الممثلين، ولكن هذا الهياج غيرُ قائم على أساس صحيح؛ لأن الجمهور الهائج ناقصُ التربية، يستند إلى أغلبيةٍ أو تقاليد مغروسة، وتأديبه وإلزامه السكوت واجب؛ حتى لا تستبد الكثرة بالقلة.
ويمكن أن يُقال لذلك الجاهل الذي لا يستطيع ضبط نفسه: خففْ عنك ورَفِّهْ، ولا تحاول الذهاب إلى دار التمثيل، أو إلى حيث تَسمع تلك الخطبة التي تكرهها.
وليس ينكر أن للحرية الفكرية مضارَّ، ولكن ليس شيء في العالم تُجْنَى منه فائدة دون أن يكون له ضرر، وضررها هذا لا يمنع الناس من الانتفاع بها، فقد يقف خطيبٌ مفتونٌ مهووس يعتقد أن الوحي قد نزل عليه، وأن قيام الساعة قد أزف، فيحمل الناس على ترك أعمالهم، بل على الانتحار تعجُّلًا للساعة، وقد يطيعه بعض المفتونين في ذلك، وقد فعل المهدي السوداني شيئًا شبيهًا بهذا، وجعل من السودان جحيمًا أكثر من عشر سنوات.
ولكن هذه حالات شاذة، إذا تفاقمت، ورأت الخاصة في الأمة أن الأذى واضح؛ لجأت عادة إلى ما تلجأ إليه عند غارة أحد الأمراض الوافدة، كالكوليرا؛ بوقف الشرائع، وإعلان الأحكام العسكرية.
وإنما استقر المفكرون على ضرورة الحرية الفكرية، وعلى ضرورة التسامُح فيما يحدث منها من الأضرار ما دامت هذه الأضرار غير فادحة؛ لأنه ثبت أن هناك آراء مُنِعَ الناس من القول بها كانت صحيحة، وكان المانعون أنفسهم هم المخطئين، وهذا هو المعقول؛ لأن السلطة التي تمنع الناس من البحث في رأيٍ ما مؤلفةٌ من أشخاص معرضين للخطأ، وليس أحدٌ منهم معصومًا منه.
وثبت أيضًا أن العلوم والفنون التي تملَّصت من قيود العبودية تقدمت وأثمرت، كما نرى الآن في الكيمياء والطبيعة والطب والميكانيكيات، فإن تقدم الصناعة إنما يعزى إلى تقدُّم هذه العلوم، كما أن رُقِيَّ الحضارة نفسها يرجع إليها.
وقد يكون هناك مجال للشكوى من سرعة تقدُّم هذه العلوم لا من تأخُّرها، ولكن العلوم العمرانية والأخلاقية والشرعية والدينية كلها لا تزال متأخرة؛ لأن الناس ليسوا أحرارًا في الكلام عنها ومناقشتها، فنحن إذا قابلنا علم الكيمياء اليوم بما كان عليه أيام سليمان الحكيم لَوجدنا فرقًا هائلًا يكاد يكون كالفرق بين الطفل الذي يلعب بالنار وبين معارف مهندس يدير قاطرة، ولكن الفرق بيننا وبين سليمان الحكيم في الآراء الدينية أو الأخلاقية أو حتى العمرانية؛ لا يزال صغيرًا جدًّا، أو قد لا يكون هناك فرق أصلًا.