آخر التسامح: يوليان وهيباطية
القرن الرابع هو القرن الذي يفصل بين عصرين قديمين كلاهما مخالفٌ للآخر، بل كلاهما نقيض للآخر؛ فقبل هذا القرن نجد نحو ٨٠٠ سنة من التفكير الحر الجريء في الأدب والسياسة والعلوم والفلسفة، تعيش كلها في ظل الوثنية، تسيطر عليها جوقة من الآلهة، تتسامح أحيانًا في الآراء الجديدة وأحيانًا تعجز عن مقاومتها.
ففي سنة ٤٠٠ق.م مثلًا، نجد محاولات عديدة في اليونان، غايتُها إثباتُ وجود نواميسَ طبيعية للعالم، لا تستطيع الآلهة أن تخالفها، وفي سنة ٢٠٠ بعد الميلاد نجد أن جالينوس — الطبيب الخاص لمرقس أورليوس، الإمبراطور الروماني — يقول أيضًا بالنواميس الطبيعية، ويصرح بإنكار المعجزات من الأنبياء أو من الآلهة، ولكن بعد القرن الرابع نجد أمامنا نحو ألف عام سادت فيها الكنيسة المسيحية، وزالت النزعة العلمية، وانقطع البحث في العلوم والسياسة والآداب، واقتصر الدرس على التوراة والإنجيل، وعلى قليل جدًّا من الكتب الإغريقية، وعلى شيء كثير من الكتب اللاتينية.
ولسنا نعني بذلك أن الكنيسة كانت السبب الوحيد في إخماد حركة الذهن الإنساني في القرون الوسطى؛ فإن غارات القوط والوندال والمجر والبلغار والهون كانت سببًا آخر لهدم كيان الإمبراطورية ونشر الفوضى فيها — والعلوم والآداب من ثمار الحضارة والسلام — وهذه الغارات وتوحُّش القائمين بها قطعت الصلة بين علوم الإغريق وبين الأوروبيين في القرون الوسطى، فلم تكن الكنيسة تمنع الناس من التفكير الحر بمقدار ما كان يمنعهم جهلهم هم أنفسهم.
فماذا كان يدرس إذن أهل القرون الوسطى؟ كانوا يدرسون الشروح والتعليقات على الكتب اللاتينية، وعلى الإنجيل والتوراة، وعلى كتابين أو ثلاثة من كتب الإغريق القدماء، والشرح يليه شرح، ثم شرح الشرح يليه شرح آخر، على النحو الذي يُرى الآن في بعض الكتب العربية القديمة.
والآن يجب أن نشيع الحرية الفكرية في العصر القديم بعرض بعض حوادث القرن الرابع، ويحسن بنا لكي ننقل للقارئ نفس هذا القرن أن نترجم لحياة اثنين من عظمائه، هما: يوليان الإمبراطور الكافر، وهيباطية الفتاة الفيلسوفة بمدرسة الإسكندرية.
كان يوليان ابن أخت قسطنطين الإمبراطور الروماني، الذي جعل القسطنطينية عاصمة الدولة، والذي جعل المسيحية دينًا للدولة، وولد يوليان هذا سنة ٣٣١، وحمله أهله إلى آسيا الصغرى؛ حيث درس الفلسفة اليونانية في نيقوميدية، ولكنه لم يرتوِ من هذا المنهل، فرحل إلى أثينا، وأخذ في درس القدماء، وأُشربت روحه الوطنية الإغريقية القديمة، وتشبعت نفسه بفلسفة الأثينيين، فصار ينظر إلى المسيحية كأنها فلسفة آسيوية، قد أغارت على الغرب.
ولكنه لم يكن يستطيع أن يصرح بأنه يؤثر آلهة اليونان على آلهة المسيحية، فكظم ما في نفسه إلى أن ساعدتْه المقادير؛ بأن صار إمبراطورًا، فشرع عندئذ يعمر أثينا، ويدعو الطلبة إلى دور العلم فيها، كما كانوا يحضرون أيام أفلاطون وأرسطوطاليس، وكان يحتم عليهم أن يلبسوا اللباس الذي كان يلبسه آباؤهم في عصر الفلاسفة، وأن يتكلموا اللغة التي كان يتكلمها الأثينيون قبل ٧٠٠ سنة.
وقد نرى من ذلك أن حماسته قد جاوزت عقله؛ فإن هذا الحرص على مُحاكاة القدماء ليس تجديدًا بل هو تقليدٌ، حتى أصبحت دور العلم التي افتتحها أشبه شيء بدور التمثيل.
وليس يستطيع أحد أن يحدس ما كان يمكن يوليان أن يفعل لو أن حكمه دام أكثر من سنتين، فإنه حاول أن يمحو ثقافة آسيا، ويقيم مكانها صرح الفلسفة اليونانية، ولكن الفلسفة اليونانية كانت قد نُسيت، وكانت المسيحية قد رسخت في قلوب العامة، وكان الرهبان يؤلفون عنه الأكاذيب، حتى حصبه غوغاء أنطاكية مرة بالحجارة والتراب.
ومع كل هذا الاستفزاز لم يجنح مرة إلى اضطهادهم، وكان يقول: يجب ألا يستشهد أحد، وفي سنة ٣٦٣ — وهو يقاتل الفرس — اخترق جسمه سهم، حمل منه جريحًا، ثم مات بعد أيام، وفي رواية أنه عندما أصيب بالسهم قال: «لقد انتصرت أيها الجليلي!» والجليلي هو المسيح.
وأخذت الوثنية بعد موت حامي حماها يوليان تنهزم وتنخسف أمام المسيحية، ففي سنة ٣٧٨ صدر قانون ينهي الناس عن تقديم القربان للآلهة، فانقطعت بذلك أرزاقُ الكهنة، حتى اضطروا إلى هجرة المعابد، وكانت هذه المعابد تحتوي على طرف الصناعات القديمة، وكان يتمثل في بنائها فن القدماء، فلما هُجرت شرع الناس في نهبها وتدميرها ونقل الأحجار منها، حتى السيرابيوم — المعبد الكبير الذي كان بالإسكندرية والذي تناوبت على بنائه جهود المصريين والإغريق والرومان — دمَّر وبعثر ما فيه.
وجرى التدمير في أرض الفلاسفة بلاد اليونانيين، فكانت التماثيل الناصعة من المرمر تحطم؛ لأنها من آثار الكفار النجسة، وفي سنة ٣٩٤ ألغيت الألعاب الأولمبية؛ لأن الدين الجديد لا يُعنَى بالجسد عنايته بالروح، وجاء الإمبراطور يوستنيان فألغى كلية أثينا، واستصفى الأملاك الموقوفة عليها، وكان بها سبعةٌ من الأساتذة فَرُّوا إلى كسرى ملك الفرس، فرحب بهم، وأذن لهم في قضاء ما تبقى من حياتهم في لعب الشطرنج.
وكان بالإسكندرية جامعةٌ أنشأها البطالسة، وعاشت عدة قرون، وظهر فيها إقليدس صاحب النظريات الهندسية، وأرشميدس مخترع الطنبور — الذي يُستعمل الآن في الري في مصر — وطائفة أخرى من العلماء. فلما كانت سنة ٤١٤ كان بها أستاذة تدعى هيباطية في الخامسة والأربعين، قد اختصت بدرس الحكمة وتدريسها.
وكانت قد نشأت في بيت علم وفضل، أبوها ثيون أحد علماء الإسكندرية، رباها صغيرة، ثم أرسلها إلى أثينا؛ لكي تستكمل ما ينقصها، فلما عادت إلى الإسكندرية أخذت تدرس فلسفة أرسطوطاليس وأفلاطون، وكان الطلبة الذين يحضرونها يعشقونها لحسن بيانها، وللنزاهة التي تتسم بها في عصر كان كله أغراضًا وسفالات وتعصبًا، وكان بطرك الإسكندرية في ذلك الوقت رجلًا يدعى كيرلس، اشتهر بشيئين يدلان على روح الزمن:
أولهما أنه طرد جميع اليهود من الإسكندرية — مع أنهم كانوا دعائم عمارتها.
والثاني أنه ألَّف كتابًا يسب فيه يوليان الإمبراطور المرتد.
وثالثة أثافيه هي تدبيره قتل هيباطية، ومحو العلم من الإسكندرية؛ فقد خاف كيرلس تأثير الحكمة اليونانية في النفوس، ورأى أن بقاء الجامعة يكون بمثابة استحياء البذرة التي تنبت يومًا دوحة كبيرة، قد تقضي على ما حولها من الأعشاب، فقَرَّ رأيه على إلغاء الجامعة.
وفي أحد الأيام — وهيباطية قاعدة تحادث الطلبة — إذا بعشرات من الرهبان يتوافدون عليها، ويَقلبون كل ما يلاقونه رأسًا على عقب، ثم قبضوا عليها، وجَرُّوها إلى أحد شوارع الإسكندرية، ثم مزقوها أشلاء التهمتْها الكلاب الجائعة.
وهكذا كان مصير الحكمة إلى الكلاب على يد كيرلس بطرك الإسكندرية في سنة ٤١٥م، وحق لفم الذهب — بطرك القسطنطينية — أن يفخر في القرن الرابع بأن جميع الكتب الوثنية قد زالت من الوجود.