النزاع بين البابوية والقومية
النظر نظران: ذاتي وموضوعي، فنحن ننظر للأشياء نظرًا ذاتيًّا كما نشتهيها أن تكون في خيالنا وفق رغائبنا، ونحن نتجرد أحيانًا من خيالنا، وننظر للأشياء نظرًا موضوعيًّا فنراها كما هي في الواقع، تتجرد بذلك من خيالنا ومن شهواتنا.
فإذا نظرنا للدين الإسلامي مثلًا نظرًا ذاتيًّا فإننا عندئذ نجرده من أشياء عديدة؛ من الخلافة، ومن التحرُّج من الصلاة بالحذاء، ومن استنجاس الكلاب؛ وذلك لأننا لا نجد نصًّا بالخلافة في القرآن، ولأننا نعلم أن السلف الأول من المسلمين كانوا يدخلون الجامع ويصلون بأحذيتهم والكلاب تجتاز بالجامع.
وها أنا ذا أنقل من كتاب «ذم الموسوسين» لابن قدامة المقدسي ما يدل على صحة ذلك، قال: «وروى أنسٌ، أن النبي ﷺ كان يصلي في النعلين»، وقال النبي: «إذا جاء أحدكم المسجد فلينظر، فإن رأى على نعليه قذرًا فليمسحه وليصلِّ فيهما.»
وقال ابن عمر: «كانت الكلاب تُقبل وتُدبر وتبول في المسجد، ولم يكونوا يرون شيئًا في ذلك.»
فإذا نظرت إلى الإسلام نظرًا ذاتيًّا قلت إنه لا يقول بالخلافة، وإنه يجوز الصلاة فيه بالحذاء، وإن الكلب ليس حيوانًا نجسًا، ولكن هذا النظر يُخالف الواقع؛ لأن الخلافة عاشت ١٣٠٠ سنة تقريبًا، ولأن استنجاس الكلاب واستقذار النعل من التقاليد القديمة في الإسلام، فأنا لهذا السبب أعد الخلافة جزءًا من الإسلام؛ لأن مركزي هو مركز المؤرخ الذي يقرر الواقع، وينظر نظرًا موضوعيًّا.
وكذلك الحال في المسيحية: إذا نظرت إليها نظرًا ذاتيًّا أنكرت البابوية، بل أنكرت الكنيسة والكهنة؛ لأن المسيح دعا المؤمن به أن يدخل إلى غرفته، ويقفل على نفسه ويصلي. ولكن المؤرخ يجب أن يقول إن في المسيحية كنيسة وكهنة وبابا.
والحقيقة أن النظام الاجتماعي أو الديني لا يقوم بنية صاحبه ومؤسسه، بل بأثره في الهيئة الاجتماعية، والبابوية والخلافة كلتاهما من أثر المسيحية والإسلام، وإن لم يكونا من أبنية المسيح أو محمد، وإذا كان لوثر قد أنكر البابوية، وعلي عبد الرزاق قد أنكر الخلافة؛ فكلاهما يفعل ذاك بصفته رجل دين، لا بصفته رجل تاريخ.
وللبابوية أثرٌ كبير في أوروبا، لا يمكن المؤرخ لحرية الفكر أن يتجاهله؛ فقد كان أسقف رومية في القرون الثلاثة الأولى من المسيحية لا يمتاز من سائر أساقفة المدن الكبرى في الإمبراطورية بشيء، فلما انتقلت عاصمة الإمبراطورية من رومية إلى القسطنطينية، في القرن الرابع، أصبح أسقف رومية أكبر رئيس في العاصمة القديمة، ولا يزال البابا يوقع تواقيعه الآن باسم «أسقف رومية».
وأخذ بابوات رومية في زيادة سلطتهم بتنصير الأمم النائية عن رومية في الشمال والغرب، وكانت الكنيسة في زمانهم لا تدعو إلى النصرانية فقط، بل كانت أيضًا سبيل نقل الحضارة الرومانية إلى الجرمان وما والاهم من أُمم الغرب والشمال، فانتفعتْ هذه الأمم بالكنيسة ديانة ومدنية.
وبين سنة ١٠٩٩ وسنة ١٧٢٠ كافحت رومية الإسلام، فألَّبت عليه الجيوش، وسيَّرتها إلى فلسطين وسوريا؛ لانتزاع الأرض المقدسة من المسلمين، كما أنها طاردت المسلمين من الأندلس حتى اضطروا إلى التنصُّر أو إلى النزوج عن البلاد.
ولكن الكفاح الأكبر هو ذلك النزاع الذي نشب بين البابوية والقومية؛ فإن البابا هو أمير المؤمنين بين النصارى، وهو لذلك ينظر إليهم كأنهم أمة واحدة، لغتهم الرسمية هي اللغة اللاتينية، كما أن ديانتهم هي النصرانية، وهو يعترف بوجود أمراء لهم، ولكن كلمته هي العليا، يجب على هؤلاء الأمراء أن يصدعوا لها.
وقد كان للبابا سلاحٌ قويٌّ، لا يتحرج من استعماله إذا أراد إخضاع أمير خارجٍ عليه، وهذا السلاح هو الحرم، يحرمه من المسيحية وقد يحرم رعيته، فتكف الكنائس عن دق النواقيس، وتقفل أبوابها، فلا يستطيع أحدٌ أن يتزوج، وأيضًا تُحمل الموتى إلى قبورهم بلا صلاة، وفي الوقت نفسه يغري البابا أحد الأمراء المجاورين؛ لكي يغير على إمارة هذا الأمير الخارج، ويبارك عليه في غارته.
وللقارئ أن يتصور أحوال الرعية في هذا الوقت؛ فإن كل مسيحي كان يرى نفسه مرتبطًا بولائين: ولائه لأميره وولائه للبابا، فإذا اختلف هذان الاثنان احتاج إلى أن يُقرر ترك أحدهما، وفي الترك خسارةٌ عليه على كل حال، فهو يختار أهون الخسارتين، فكان ينزل عن الولاء لأميره، ويخرج عليه؛ إرضاء للبابا.
ولننظر في حادثتين فقط من حوادث النزاع: فقد حدث في القرن الحادي عشر أن هنري الرابع — إمبراطور ألمانيا الذي مات سنة ١١٠٦ — اختلف مع البابا غريغوريوس السابع على مسألة أوقاف الكهنة، فلم يكن بأسرع من أن حرمه الباب، وألَّب عليه أمراء ألمانيا، ورأى الإمبراطور أنه بين رعيته كالأجرب، لا يقرب منه أحد بعد هذا الحرم، فخرج ساعيًا إلى البابا — وكان البابا في طريقه إلى ألمانيا، قد نزل في قصر في كانوسه — فوقف الإمبراطور على الباب ثلاثة أيام، وهو في لباس الرهبان حافي القدمين، عاري الرأس، يحمل عُكَّازه ويقر بتوبته. وبعد هذا أذن له البابا فقبل الأرض بين يديه، وخرج إمبراطورًا مسيحيًّا كما كان قبل الحرم، ولكن نار الانتقام صارت تأكل قلبه، فعاد إلى رومية بجيش جرار سنة ١٠٨١، وطرد البابا، وأقام غيره.
وهاك حادثةٌ أُخرى من حوادث هذا النزاع: اختلف الملك يوحنا ملك إنجلترا — الذي مات سنة ١٢١٦ — مع البابا، فحرمه البابا، وعُطِّلت الكنائس من الصلاة، ومُنعت عقود الزواج، وحملت الجثث إلى القبور بلا صلاة، ورأى يوحنا أن ملك فرنسا يتهيأ لغزو بلاده بأمر البابا، فأخذ يبحث عن أمير المؤمنين بين المسلمين؛ لكي يخاطبه في أن يدخل هو وجميع الأمة الإنجليزية في دين الإسلام، ولكن البعثة التي أرسلها أخفقت، فعاد يوحنا صاغرًا، يقر بخطيئته، ويطلب الغفران من البابا، وصفح عنه بعد أن رأى منه من البذل وصدق التوبة ما جعله يرفع الحرم عنه وعن الأمة.
فهذان مثالان يدلان القارئ على سلطة البابوية في القرون الوسطى، ومنها يُعرف كيف أن «محكمة التفتيش» التي أنشأها البابا لمحاكمة الهراطقة لم تحكم قطُّ على أحد من هؤلاء الهراطقة بالقتل، وإنما كان يكفي أن تحرمه هي، فتسرع الحكومة المدنية إلى إحراقه أو إعدامه بأية طريقة أُخرى، وإذا هي توانت عن ذلك رأت السلطة البابوية تتحفز لمناوأتها.
وأخيرًا في سنة ١٥١٧ انتصر مبدأ القوميات بإعلان لوثر للبروتستانتية.