ابن حنبل وَخَلْق القرآن
في عصر المأمون والمعتصم — وهما من خلفاء الدولة العباسية — ظهر القول بخَلْق القرآن، وحُمل الناس على هذا القول، وضُرب المخالفون وعُذبوا، وكان ابن حنبل إمامًا عظيمًا من أئمة المسلمين، سُئِلَ عن رأيه في هذه البدعة فأنكرها، فضربه المعتصم وحبسه وعذبه وهو مُصِرٌّ، وبقي على إصراره حتى مات، وكان ابن حنبل يرى أن القرآن لم يحدَث في عهد النبي، وإنما هو خالد.
ولد ابن حنبل سنة ٧٨١ ومات سنة ٨٥٦م، وكان إمام المحدِّثين، صنَّف كتاب المسند، وجمع فيه من الحديث ما لم يتفق لغيره، وكان من أصحاب الإمام الشافعي وخواصه، ولم يزل مصاحبه إلى أن ارتحل الشافعي إلى مصر، وقال في حقه: «خرجت من بغداد وما خلفت أتقى ولا أفقه من ابن حنبل …» وكان شديد الاتباع للسنن، أخذ عنه كثيرون من الأئمة، وطاف ابن حنبل في بلاد كثيرة، ودخل مكة والمدينة، والشام واليمن، والكوفة والبصرة والجزيرة، وقبره ببغداد مشهور.
قال الدميري: «إن القول بخلق القرآن ظهر في أيام الرشيد، وكان الناس فيه بين أخذ وترك إلى زمن المأمون، الذي حمل الناس على القول بخلق القرآن، وكل من لم يقل بخلق القرآن عاقبه أشد عقوبة، وكان الإمام أحمد بن حنبل إمام أهل السنة من الممتنعين عن القول بخلق القرآن، فحُمل إلى المأمون مقيدًا، ومات المأمون قبل وصوله إليه.»
وتولى المعتصم بعد المأمون، وكان ابن حنبل بالسجن، وكان المأمون قد عهد إلى أخيه المعتصم بالخلافة، وأوصاه بأن يحمل الناس على القول بخلق القرآن، واستمر الإمام أحمد محبوسًا إلى أن بُويع المعتصم، فَأُحْضِرَ إلى بغداد، وعقد له المعتصم مجلسًا للمناظرة «فيه عبد الرحمن بن إسحاق، والقاضي أحمد بن أبي دؤاد وغيرهما» فناظروه ثلاثة أيام، ولم يزل معهم في جدال إلى اليوم الرابع، فأمر بضربه، فضُرب بالسياط، ولم يزُل عن الصراط إلى أن أغمي عليه، ونخسه عجيف بالسيف، ورمى عليه بارية، وديس عليه، ثم حُمل وصار إلى منزله، وكانت مدة مكثه في السجن ثمانية وعشرين شهرًا.
ولم يزل بعد ذلك يحضر الجمعة والجماعات، ويُفتي ويحدِّث إلى أن مات المعتصم، وولي الواثق فأظهر ما أظهره المأمون والمعتصم من المحنة، وقال للإمام أحمد: لا نجمعن إليك أحدًا ولا تسكن في بلد أنا فيه، فأقام الإمام أحمد مختفيًا لا يخرج إلى صلاة ولا غيرها حتى مات الواثق، وولي المتوكل فرفع المحنة، وأمر بإحضار الإمام أحمد وإكرامه وإعزازه، وأطلق له مالًا كثيرًا، فلم يقبله، وفرَّقه على الفقراء والمساكين.
حكي أن الإمام الشافعي — رضي الله عنه — لما كان بمصر رأى سيد المرسلين ﷺ وهو يقول: بَشِّرْ أحمد بن حنبل بالجنة على بلوى تصيبه، بأنه يدعى إلى القول بخلق القرآن فلا يجيب إلى ذلك، بل يقول: هو منزَّل غير مخلوق.
إن المعتصم كان يخلو به — أي بابن حنبل — ويقول له: ويحك يا أحمد! أنا — والله — عليك شفيق، وإني لَأُشفق عليك مثل شفقتي على ابني … فأجبني، فوالله لئن أجبتني لأُطلقن غلك بيدي، ولأطأن عتبتك، ولأركبن إليك بجندي؛ فيقول: يا أمير المؤمنين أعطوني شيئًا من كتاب الله تعالى أو سنة رسول الله ﷺ فإذا طال به المجلس ضجر وقام، ورد أحمد إلى المكان الذي كان فيه.
وتتردد إليه رسل المعتصم يقولون: يا أحمد! أمير المؤمنين يقول لك: ما تقول في القرآن؟ فيرد عليهم كما رد أولًا، فلما كان اليوم الثالث طُلب للمناظرة، فأُدخل على المعتصم وعنده محمد بن عبد الملك الزيات، والقاضي أحمد بن أبي دؤاد، فقال المعتصم: كلِّموه وناظروه، فلم يزالوا معه في جدل إلى أن قالوا: يا أمير المؤمنين اقتلْه ودمه في أعناقنا، فرفع المعتصم يده، ولطم بها وجه الإمام أحمد، فخر مغشيًّا عليه، فتمعرت وجوه وفود خراسان، وكان عم أحمد فيهم، فخاف الخليفة منهم على نفسه، فدعا بماء ورَشَّ على وجهه، فلما أفاق من غشيته رفع رأسه إلى عمه وقال: يا عم لعل هذا الماء الذي رُشَّ على وجهي غصب عليه صاحبه.
فقال المعتصم: ويحكم أما ترون ما يتهجم به علي هذا؟ وقرابتي من رسول الله ﷺ لا رفعت السوط عنه حتى يقول: القرآن مخلوق، ثم التفت إلى أحمد وأعاد عليه القول، فرد أحمد كالأول، فلم يزل كذلك حتى ضجر وأطال المجلس، فعند ذلك قال: عليك لعنة الله، لقد طمعت فيك قبل هذا … خذوه واخلعوه واسحبوه، فأخذ وسحب ثم خلع، ثم قال المعتصم: السياط … وشدوا يديه فتخلعتا، ولم يزل أحمد يتوجع منها حتى مات، ثم قال المعتصم للجلادين: تقدموا، ونظر إلى السياط فقال: ائتوا بغيرها.
وتناوبه الجلادون بالضرب، وجعل بعضهم يقول: يا أحمد إمامك على رأسك قائم فأجبه، وعجيف ينخسه بالسيف ويقول: أتريد أن تغلب هؤلاء كلهم؟! وبعضهم يقول: يا أمير المؤمنين اجعل دمه في عنقي.
وضُرِبَ ثمانية عشر سوطًا، وحُمِلَ إلى حجرة، ثم وجه المعتصم رجلًا ينظر الضرب والجراحات ويعالجه، فنظر إليه وقال: والله لقد رأيت من ضرب ألف سوط فما رأيت أشد ضربًا من هذا، ثم عالجه، وبقي أثر الضرب بينًا في ظهره إلى أن مات.
ثم قام بالأمر بعد المعتصم ابنه هارون الواثق بالله، ولما ولي قتل أحمد بن نصر الخزاعي على القول بخلق القرآن، ونصب رأسه إلى الشرق، فدار إلى القبلة، فأجلس رجلًا معه رمح أو قصبة فكان كلما دار الرأس إلى القبلة أداره إلى الشرق.
ولم يقتل بعد الخزاعي أحد، فقد أصر ابن حنبل على دفاعه عن حقه في اعتقاده، واستشهد الخزاعي في سبيل ذلك، وانتهت الحال بانتصار الناس في معركة صغيرة من معارك الحرية الفكرية.