طموحات بيئية ومستقبل لاسلطوي
عندما صدر كتاب كروبوتكين «الحقول والمصانع وورش العمل» عام ١٨٩٩، وجده رواد الحركة الخضراء مُلهِمًا؛ نظرًا لأن مؤلفه قد أكد على أهمية الصناعات اللامركزية صغيرة النطاق، والمنهج «البستاني» لإنتاج الطعام، بفضل إنتاجيتهما الهائلة. عندما أعيد نشر كتابه في نهاية الحرب العالمية الأولى، ذكرت ملاحظة تمهيدية مضافة أنه: «ينادي باقتصاد جديد للطاقات المستخدمة في توفير احتياجات الحياة البشرية، بما أن هذه الاحتياجات تتنامى والطاقات لا تنضب.»
في تلك الأيام، كان هذا اعترافًا نادر الحدوث لحدود النمو. اليوم لدينا كتابات كثيرة عن مشكلات استنزاف الموارد والدمار البيئي. يُعتبر مكمن الصعوبة بالنسبة إلى الناشطين البيئيين الذين يحاولون حشد تأييد باقي المواطنين هو تحديد الأولويات؛ فأي حملة في أمسِّ الحاجة ليد المساعدة؟ تجوب الرأسمالية العالم، باحثة عن أسواق العمل الأقل حماية والبيئة المادية الأقل حماية، بهدف تحفيز وكسب سوق نامية لسلعها. وهي تصف هذه العملية بصفة «سيطرة المستهلك»؛ ومن ثَمَّ تتهرب من أية مسئولية عن استغلالها الشرس للفقراء والاقتصادات الضعيفة. وكلما زدنا ثراءً، زدنا ميلًا إلى التخلي عن نصيبنا من هذه المسئولية.
لسنوات عدة تعرضت اقتصاداتنا الثرية لسلسلة من الحركات والحملات التي توصف بمصطلحات عامة بأنها «بيئية» أو «حفاظية» أو «خضراء» أو حتى «إيكولوجية»، والتي تلفت انتباهنا إلى الأزمات البيئية والاحترار العالمي واستنزاف الموارد غير المتجددة. يشير نقاد هذه الحملات في العالم الثري إلى أنها لا تتضمن وعيًا بأزمة فقراء العالم الثري. يعلق أمارتيا سين على المفارقة بأنه «في العالم الفقير يكون الفقراء نحيلين والأثرياء بدينين. وفي العالم الثري يكون الأثرياء نحيلين والفقراء بدينين.» وهو مؤلف دراسة شهيرة عمن يأكل وعمن يتضور جوعًا، و«عما» يأكلونه، أورد فيها نظرية «الاستحقاقات»، مُعرِّفًا إياها بأنها مجموعة من «الحزم السلعية البديلة التي يستطيع المرء المطالبة بها». تعتبر ملاحظته تذكِرة بأنه في كل مجتمع يوجد العديد من ثقافات الغذاء، والتي تحددها في نهاية المطاف مستويات الفقر والثراء. في العالم الفقير يعيش ذوو النفوذ والأثرياء وصفوتهم العسكرية ببذخ، في حين يتعرض الفقراء لسوء التغذية وأحيانًا يتضورون جوعًا. أما في العالم الثري، فتعيش أقلية فقيرة ملحوظة على «الطعام عديم القيمة الغذائية» الذي يتعفف الأثرياء عن تناوله. في بريطانيا زاد عدد الأطفال الذين ينشَئون في بيئة فقيرة بمعدل ثلاثة أضعاف بين عامَي ١٩٦٨ و١٩٩٨.
هونج كونج، أكثر المدن كثافة سكانية في العالم، تنتج داخل حدودها ثلثَي الطيور الداجنة، وسدس الخنازير، ونحو نصف الخضراوات التي يأكلها مواطنوها وزائروها.
المنطق المحتوم هو أنه رغم أن الزراعة الحضرية قد تحتاج حتى ثماني وحدات طاقة من الوقود الحفري لإنتاج وحدة طاقة غذائية واحدة تُباع في الأسواق التجارية، فإن الزراعة الحضرية تستطيع توفير حتى ثماني وحدات طاقة غذائية لكل وحدة طاقة واحدة من الوقود الحفري.
أنظمة التوزيع بالأسواق التجارية تعتمد كليةً على الطاقة الرخيصة. إن المجمَّعات التجارية الضخمة ليست أكثر راحة، بل إنها تجعلنا في الواقع نقوم بزيارات تسوقية أكثر، لا أقل. وقد زاد متوسط العدد بنسبة ٢٨٪ بين عامَي ١٩٧٨ و١٩٩١. كما يُضطَر المتسوقون إلى الذهاب إلى مسافة أبعد؛ فقد زادت المسافة بنسبة ٦٠٪ بين عامَي ١٩٧٨ و١٩٩١ … العامل المشترك في كل هذا هو استخدام تجار الغذاء لأنظمة التوزيع المركزية. كل شركة لها مراكز توزيع إقليمية خاصة بها. يذهب كل الطعام إلى مراكز التوزيع الإقليمية ومن هناك إلى المتاجر. وكنتيجة لذلك ينتقل الطعام مسافة أبعد …
تُعرف هذه بمشكلة أميال الغذاء، وقد امتدت حتى إلى مدًى أشد غرابة بسبب سياسات تجار الغذاء الكبار، الباحثين في أرجاء العالم عن مورِّدين أرخص، بصرف النظر عن فشل موارد المياه المحلية في تلبية الاحتياجات المحلية التقليدية. في أقرب مدينة لي في شرق أنجليا يمكنني شراء الجزر المكسيكي والبصل الأسترالي والبازلاء الخضراء الأفريقية، والأسباراجوس الآتي من بيرو. وتساهم هذه الحقيقة في حدوث الاحترار العالمي أكثر من استخدامي المستهتر للكهرباء. يرى البروفيسور جون هوتون، رئيس اللجنة الملكية للتلوث البيئي ورئيس اللجنة الاستشارية للأمم المتحدة عن التغير المناخي، أن ثَمَّةَ شيئًا من العبث في حقيقة أنه تناول نوعًا جديدًا لذيذًا من البطاطس على غدائه. فقد وصلتْ بواسطة سيارة نقل زنة ٤٠ طنًّا إلى المجمع التجاري المحلي بعد سفرها بالطائرة النفاثة إلى إنجلترا. وحسبما علق: «كان باستطاعتي زراعتها في حديقتي الخلفية.»
ما نحاول عمله هو استرداد جوانب معينة من الحلم الأمريكي. توجد، بالطبع، عدة أحلام أمريكية؛ أحدها على طريقة جون وين عن راعي البقر الذي يذهب إلى الغرب الأمريكي، على غرار فكرة المذهب الفردي، وآخر هو حلم الهجرة الأمريكي، باعتبارها أرض الفرص التي تُعبَّد شوارعها بالذهب. لكن يوجد حلم أمريكي ثالث، وهو الأقدم بينها، يعود تاريخه إلى العصور البيوريتانية، والذي يؤكد على أهمية المجتمع واللامركزية والاكتفاء الذاتي والمساعدة المتبادلة والديمقراطية المباشرة.
عند هذا تصادم بوكتشين مع حلم أمريكي آخر؛ فمع انتشار الوعي الإيكولوجي بين أطفال الأثرياء، أدَّى الإحساس القومي بالذنب بسبب الإبادة الجماعية للسكان الأصليين إلى تمجيد فكرة «الهمجي النبيل» والنفور من البشر العاديين الذين لم تأتِهم «الرسالة». وما كان يعتبر «إيكولوجيا عميقة» أصبح اتجاهًا سائدًا وسط أولئك الأثرياء بما يكفي ﻟ «الإفلات من شعور الذنب» والسعي وراء كل شكل من أشكال الإيمان الروحي، ما دامت الشيكات ستواصل التدفق إلى حساباتهم البنكية. وقد تحوَّل العديد من المواطنين المؤمنين ببوكتشين من المشاركة في المشكلات الاجتماعية إلى إضفاء المثالية العاطفية والمميزة على «البرية» والبيئة الطبيعية، مع بغض لاحق نحو بقية البشر.
كان إنكار بوكتشين القوي لهذه المناهج يهدف إلى مواجهة تجاهل القضايا الاجتماعية في المجتمع الأمريكي المنقسم بشكل متزايد، ليؤكد مجددًا ادعاءات «الإيكولوجيا الاجتماعية»، ويهدف — حسب وصفه — إلى طرح «تحدٍّ جاد أمام المجتمع بتاريخه العسكري وجهازه الحكومي العنصري الهرمي الضخم الذي تحكمه الطبقية.»
سيستخف معظم اللاسلطويين بحقيقة أن المجتمع الصالح إيكولوجيًّا يتعارض مع الرأسمالية ومطلبها بتوفير أسواق دائمة التوسع، وهو ما يتحقق عن طريق خلق الرغبات الاستهلاكية والتقادم المتأصل في السلع الاستهلاكية. في الوقت نفسه، يشعر معظمنا بأننا خلال سعينا إلى طرق إيكولوجية أكثر صلاحية، فإننا لا نستطيع الانتظار لحين سقوط النظام الرأسمالي. وقد وُجدت الحركة الخضراء لفترة طويلة بما يكفي كي يعلم مؤيدوها أي المناهج أكثر ارتباطًا «بهم».
في سبعينيات القرن العشرين حالفني الحظ لأجد عملًا وأصدر جريدة للمعلمين والدارسين اسمها «نشرة التعليم البيئي». كان أحد مستشاريها رجلًا شابًّا مبدعًا وهو بيتر هاربر، الذي سافر في عام ١٩٧٥ إلى ويلز للانضمام إلى مجموعة من الحماسيين الذين كانوا يؤسسون مركز التكنولوجيا البديلة في ماكينليث، في محجر قديم بمنطقة مهجورة صناعيًّا. ومع نهاية القرن كان قد زار هذا المشروع (الذي أُدير كتعاونيات عمالية مكونة من ٢٨ عضوًا) نحو ٨٠ ألف شخص كل عام، من بينهم ٢٠ ألف طفل، وهو مشهور عالميًّا بصفته موقعًا يستعرض توليد الطاقة وتشييد المباني والتخلص من مياه الصرف بشكلٍ لا يضر البيئة. وقد علمت أنه يولِّد ٩٠٪ من احتياجاته للطاقة بصورة متجددة من الشمس والرياح والمياه.
الهوس بالاكتفاء الذاتي والإنتاجات الصغيرة قد زال. لا تحاول أن تفعل كل شيء بنفسك. ابدأ من نقطة قوتك، لا نقطة ضعفك … لا تحاول أن «تنتج» طاقتك، بل حاول أن «تدخر» طاقتك. أغلب العمل سيجري في المدن، حيث سيعيش معظم البشر قريبًا وحيث — بعكس افتراضاتنا الساذجة — سيصبح من الأسهل اتباع نمط حياة مستدام.
قادته دراسته المستمرة للوعي البيئي للمواطنين إلى تقسيمهم على نحوٍ مخالف للتقسيم التقليدي إلى أنصار الإيكولوجيا العميقة وأنصار الإيكولوجيا الاجتماعية؛ إذ يقسمنا بيتر هاربر إلى خُضر بسطاء (حيث أموالنا أكثر من وقتنا) وخُضر عميقين (حيث، ربما، وقتنا أكبر من أموالنا). وهو يشير إلى أن الخضر البسطاء منخرطون في التكنولوجيا الجديدة الخاصة بالتسخين الشمسي والسيارات الخفيفة التي تتمتع بالكفاءة في استهلاك الوقود، والاستهلاك المستدام، في حين أن الخضر العميقين يؤمنون بوسائل النقل والدراجات والبيوت الصغيرة المعزولة، والطعام المزروع منزليًّا، والإصلاح وإعادة التدوير، وخطط العملة المحلية، والمقايضة.
يطمح الناس إلى خدمات وراحة أكبر، ومساحة خصوصية أكبر، وسهولة في التنقل، وإحساس باحتمالات أوسع. هذا هو المشروع الاستهلاكي العصري، وهو جوهر المجتمعات الحديثة. إنها سمة محورية في السياسة والاقتصاد السائدين ألا تتعرض الطموحات الاستهلاكية لهجوم جاد. بل على العكس، فالرسالة الرسمية المفهومة ضمنًا هي: «اصمدوا مكانكم: سنلبي رغباتكم.» إن الشعار الأساسي بسيط إلى درجة مفجعة: «المزيد!»
لاحظ بيتر هاربر في إحدى محاضرات شوماكر في بريستول عام ٢٠٠١، أن بعضنا يمتلك رؤًى تنبُّئية بكوارث خارجة عن السيطرة في المستقبل وناتجة عن النشاط الاقتصادي غير المميِّز. أما هو، بصفته متفائلًا، وبناءً على خبرته الخاصة كناشط بيئي، فله توقع مختلف؛ فهو يعتقد أنه مع تدهور الحياة تدريجيًّا إلى الأسوأ بالنسبة إلى كل شخص آخر، فإن الخُضر العميقين (الأفراد الذين يصفهم بالجينات المتنحية في الحركة المستدامة) سنجدهم قد حلوا ما يسميه باللغز الكبير المتعلق بالتوفيق بين الحداثة والاستدامة: «سيبدون رأي العين أنهم مستمتعون بوقتهم: مستريحون، بأنماط حياة متنوعة وضغوط أقل، أصحاء وسُلَماء جسمانيًّا، بعد أن أعادوا اكتشاف فضيلتَي ضبط النفس والتوازن الجوهريتين.»
ما كان يعتبر في الماضي غير عملي وخياليًّا أصبح اليوم عمليًّا تمامًا … ولو نظرنا إلى الديمقراطية المجتمعية المباشرة، والتكنولوجيا المحرِّرة، واللامركزية بوصفها رد فعل للظروف السائدة — كلمة «لا» قوية في مقابل كلمة «نعم» التي تقال قبولًا لما هو موجود اليوم — يمكن طرح أسباب موضوعية تؤكد على مدى عملية المجتمع اللاسلطوي.
تم الدفاع عن المشكلات البيئية والإيكولوجية لفترة طويلة تكفينا كي نميز لحظات المد والجزر في التأييد الذي تناله من الجماهير العامة غير الملتزمة، التي تُعتبر مشاركتها ضرورية لإحداث التغيير. توجد صراعات في الوعي بالأزمات، مثلما هي الحال في معظم الجوانب الأخرى من حياتنا المجتمعية. والفكرة المريحة بالنسبة إلى اللاسلطويين هي الرأي بأن مجتمعًا متقدمًا بما يكفي لقبول الضرورات البيئية للقرن الحادي والعشرين سيكون ملزمًا بإعادة اختراع اللاسلطوية كرد فعل لهذه المشكلات.
لقد أثبت لنا مؤلفون مثل موراي وبوكتشين وآلان كارتر بشكل قوي أن اللاسلطوية هي الأيديولوجية السياسية الوحيدة القادرة على مجابهة التحديات التي يفرضها وعينا البيئي الجديد على النطاق المقبول من الأفكار السياسية. لقد أصبحت اللاسلطوية أكثر ارتباطًا على نحو متزايد بالقرن الجديد.