لحظات ثورية
خلال الفترة التي اندلعت فيها الثورات وانتشرت في أوروبا عام ١٨٤٨، يقال إن رئيس الشرطة في باريس أبدى تعليقًا عن اللاسلطوي ميخائيل باكونين قائلًا: «يا له من رجل! في اليوم الأول من الثورة كان كنزًا حقيقيًّا، ولكن في اليوم التالي كان ينبغي إطلاق النار عليه.» تلخص ملاحظته كلًّا من الدور والمصير المحتوم للاسلطويين وأسلافهم على مدار سلسلة طويلة من الانتفاضات الشعبية الأوروبية.
وقد كشف مؤرخو جميع الحركات السياسية دون استثناء عن أمثلة لهذه الحركات من الماضي، كما وجد اللاسلطويون أسلافًا لهم في ثورات العبيد خلال عهد الإمبراطورية الرومانية، وفي جميع الانتفاضات الثورية اللاحقة التي قام بها المضطهدون. وبالمثل، رصدوا أسلافًا لهم في ثورات مثل ثورة الفلاحين التي بدأت في إنجلترا عام ١٣٩١، والعصيان المسلح للتابوريين في بوهيميا عام ١٤٩٣، وكذلك حركة الأنابابتيست (تجديد العماد) بعدها بقرن.
المجتمع في كل دولة هو نعمة، ولكن الحكومة حتى في أفضل أحوالها ليست إلا شرًّا لا مناص منه، وفي أسوأ حالاتها كيان لا يُطاق؛ لأننا عندما نعاني — أو تُعَرِّضنا «الحكومة» لنفس المنغصات التي نتوقع التعرض لها في دولة «بلا حكومة» — يتضاعف شعورنا بالفاجعة لظننا بأننا نزودها بالوسائل التي تعذبنا بها. فالحكومة، مثل الكساء، علامة على فقدان البراءة، فقصور الملوك تُبنى على أنقاض أكواخ الفردوس.
الطغيان قد انتقل من قصور الملوك إلى دائرة لجنة. ليس الزي الملكي، ولا الصولجان، ولا التاج، هو ما يجعل الملوك مكروهين، بل هو الطموح والاستبداد. في بلدي، الزي فقط هو ما تغيَّر.
الاستقلال التام للكومونة ممتدًّا إلى جميع المناطق الفرنسية، بما يضمن لكلٍّ منها حقوقها الكاملة ولكل رجل فرنسي الاستثمار الكامل لقدراته، كإنسان، ومواطن، وعامل. استقلال الكومونة لن يحده إلا الاستقلال المكافئ لبقية المجتمعات الملتزمة بالاتفاقية، فاتحادها يجب أن يضمن حرية فرنسا.
(من نافلة القول أنه على الرغم من أن الكومونة حظيَتْ ببطلة لاسلطوية — لويز ميشيل — فإن المانيفستو لم يَطُل بهذه الحقوق النساء الفرنسيات.)
خلال الثورات الكبرى التي اندلعت في القرن العشرين، ظهرت عناصر لاسلطوية مميزة، ولكن كان اللاسلطويون في كلٍّ منها ضحايا للحكام الجدد. ففي المكسيك، بدأ ريكاردو فلوريس ماجون وشقيقاه في عام ١٩٠٠ نشر صحيفة نقابية لاسلطوية تحت اسم «البعث»، لحشد المعارضة ضد الديكتاتور بورفيريو دياز، والتي انتقلت عبر الحدود إلى كاليفورنيا عندما أصبح طبعها صعبًا. مع سقوط دياز، تواصل ماجون مع الفلاح الثائر إيميليانو زاباتا في ولاية موراليس بالجنوب، معارضًا محاولات كبار ملاك الأراضي لضم أراضي المزارعين الفقراء. ويُقال إن ماجون قد ثقَّف زاباتا من خلال قراءة ومناقشة كتاب كروبوتكين «الاستيلاء على الخبز». تم الإيقاع بزاباتا واغتياله عام ١٩١٩، في حين اعتُقل ماجون في الولايات المتحدة وقُتِل في سجن ليفينورث عام ١٩٢٣. المثير للمفارقة أن كلا الرجلين يُحتفى به في «مبنى المشاهير» بمدينة مكسيكو سيتي. أما «جيش زاباتيستا للتحرير القومي»، فهو التجسيد العصري لحملة زاباتا في المكسيك، كما هي الحال مع «حركة عمال ريفيين بلا أرض» في البرازيل. فكلتاهما حملة للفلاحين المحرومين من الملكية من أجل السيطرة المشتركة على أرض استولت عليها أقلية من مربي الماشية.
خلال الثورة الروسية عام ١٩١٧، تزعزعت سيطرة البلشفيين على الحكم بفضل شعارات لاسلطوية مثل «الخبز والحرية» و«كل السلطة للسوفيتيين»، والتي كانت بعيدة كل البعد عن خبرات الحياة اليومية في ظل النظام الجديد. كان البطل اللاسلطوي للثورة هو الفلاح الأوكراني نستور ماخنو، الذي كان ينظم عمليات سيطرة الفلاحين على الأراضي ويدافع عنهم أمام كلٍّ من البلشفيين والجيش الأبيض. كان من بين المنفيين العائدين من روسيا إيما جولدمان وألكسندر بيركمان — بعد طردهما من الولايات المتحدة — وكروبوتكين، الذي اضطُر إلى العيش خارج بلده لمدة ٤٠ عامًا. وجَّه كروبوتكين رسائل انتقادية إلى لينين وكتب «رسالة إلى عمال أوروبا الغربية» يصف لهم دروس الثورة الروسية. كانت جنازته في عام ١٩٢١ المناسبة الأخيرة التي أُطلق فيها سراح اللاسلطويين الروس إلى حين الإفراجات التدريجية من معسكرات سجون ستالين بعد عام ١٩٥٦.
حاولت جولدمان وبيركمان كشف حقيقة حكم لينين لروسيا لدى مغادرتهما البلد، ولكنهما وجدا أن اليساريين في الغرب يرفضون رسالتهما، ويعتبرونها «مناهضة للثورة». نفس النوع من الإقصاء الذي شنَّه اليساريون قوبل بمحاولات لاسلطوية مستمرة لكشف حقيقة الاتحاد السوفييتي، في الوقت الذي دمرت فيه اختراقات ستالين نزاهة سلسلة طويلة من التنظيمات العمالية في الغرب.
بدأ تاريخ إيطاليا اللاسلطوي عندما استقر باكونين هناك عام ١٨٦٣، بعد أن رشحه جاريبالدي ومازيني لبعض رفاقهم الثوار، رغم أنه كان يعارض في الحقيقة فكر جاريبالدي ومازيني القومي تحت اسم الاستقلال الاشتراكي والفيدرالية. ترجع إلى هذه الفترة من حياة باكونين مجادلاته ضد ماركس والتي تنبأت — بدقة وبشكل غير مسبوق — بتطور الديكتاتوريات الماركسية في القرن العشرين. وقد شنَّ تلميذه إريكو مالاتيستا، الذي مات خلال خضوعه للإقامة الجبرية في إيطاليا في أثناء حكم موسوليني، حملات من الدعاية اللاسلطوية في إيطاليا وأمريكا اللاتينية، والتي ما زالت تتدفق حتى يومنا هذا في صورة انتشار مبهر للمطبوعات والحملات.
وفي الشرق الأقصى، كانت عادة إرسال صغار السن المنتمين إلى عائلات ثرية لإتمام دراستهم في أوروبا سببًا في ظهور مجموعة من الطلاب الثائرين الذين جلبوا معهم من باريس إلى الصين رسالة كروبوتكين اللاسلطوية في كتبه الدعائية «الاستيلاء على الخبز»، و«المساعدة المتبادلة»، وخصوصًا «الحقول والمصانع وورش العمل». كان العديد من التحولات والتقلبات في سياسة الحزب الشيوعي بالصين بين خمسينيات وستينيات القرن العشرين ذا صلة ملحوظة بأجندة كروبوتكين، طبعًا على الرغم من أن هذه التحولات فُرضت دون أدنى مبالاة بالمعاناة الإنسانية. كان الروائي الشهير باتكين (لي باي كان) يرى في إيما جولدمان «أمه الروحية» وصاغ اسمه المستعار من مقطع لفظي واحد من كلا اسمي باكونين وكروبوتكين؛ نتيجة لذلك، تعرض ﻟ «إعادة التثقيف من خلال العمل» عدة مرات، وفي عام ١٩٨٩ — وهو في سن الرابعة والثمانين — تم اعتقاله بسبب تأييده لمظاهرات ميدان السلام السماوي.
لكن الدولة التي غرست اللاسلطوية فيها أعمق جذورها كانت إسبانيا، والتي شهدت في ثلاثينيات القرن العشرين ظهور اتحادَيْ عمال نقابيين لاسلطويين، هما «الاتحاد الوطني للعمل»، و«الاتحاد الفيدرالي اللاسلطوي الأيبيري»، وهي هيئة لاسلطوية كانت تظهر من وقت إلى آخر من مخبئها. تعكس ثورة ١٩ يوليو ١٩٣٦ في إسبانيا فجوة أخرى بين التفسير اللاسلطوي للأحداث والطريقة التي تُدرَك وتوصَف بها هذه الأحداث من خلال أصوات أكثر تأثيرًا.
في ١٨ يوليو ١٩٣٦، عاصرت إسبانيا ثلاث حكومات جبهة شعبية خلال يوم واحد، تناقش كيفية مقاومة التمرد العسكري للجنرالات في المغرب — والذي كان يزحف إلى البر الإسباني — وتقرر عادةً أنه لا جدوى من المقاومة. في الوقت نفسه في عدة مدن ومناطق، لم يتم الاستيلاء فقط على أسلحة الحاميات العسكرية والحرس المدني، لكن كذلك تولى أعضاء الاتحاد الوطني للعمل زمام السيطرة على المصانع ووسائل النقل والأراضي. ومثَّل اليوم التالي نقطة البداية، ليس فقط لحرب ضد عصيان فرانكو المسلح، بل لثورة شعبية.
تم عصيان فرانكو بمساعدة الأسلحة والجنود وقاذفات القنابل الآتية من إيطاليا في عهد موسوليني وألمانيا النازية، لكن اتفاقية عدم التدخل التي أيدتها الحكومتان البريطانية والفرنسية جعلت إمدادات الأسلحة للقوات المعادية للفاشية تقتصر على تلك التي وفرها الاتحاد السوفييتي (على حساب احتياطي الذهب الإسباني). كما دُفع ثمن أكبر نظير مساعدة الاتحاد السوفييتي؛ فقد تطلبت سياسة ستالين الخارجية عدم الاعتراف بالثورة الإسبانية لصالح مفهوم «الجبهة الشعبية». وفي محاولة لمقاومة التأثير السوفييتي المتنامي، أصبح المقاتلون اللاسلطويون والنقابيون بالفعل وزراء في كلٍّ من الحكومة الكتالونية في برشلونة والحكومة المركزية في مدريد.
آلت الحرب في إسبانيا إلى منتهاها البائس في أبريل عام ١٩٣٩، بعد خسائر هائلة في الأرواح. وفي أغسطس من العام نفسه، وُقِّعت معاهدة عدم الاعتداء بين ستالين وهتلر، وفي سبتمبر اندلعت الحرب العالمية الثانية. استمر نظام فرانكو في إسبانيا حتى موت الديكتاتور في عام ١٩٧٥. وقد تسبب سقوط المعارضة في شن حملة وحشية للانتقام من أولئك الذين تجرءوا على معارضة فرانكو؛ فكانت هناك أعداد لا تُحصى من أحكام الإعدام، وامتلأت السجون، وعاش ملايين الإسبانيين حياتهم في المنفى.
من وجهة نظر اللاسلطويين، عكست إسبانيا هكذا مفارقات رهيبة؛ فمن حيث تطبيق المبادئ الجماعية على الزراعة والصناعة، قدمت مثالًا حيًّا وملهمًا لنظريات كروبوتكين عن تولي العمال السيطرة. ففي مناطق البلد التي لم تستولِ عليها وحدات الجيش المؤيدة لفرانكو كانت هناك استيلاءات واسعة النطاق على الأراضي. كانت إسبانيا دولة زراعية بشكل أساسي؛ حيث يمتلك ٢٪ من ملاك الأراضي ٦٧٪ من الأراضي. في الوقت نفسه، كان العديد من حيازات الأراضي الصغيرة أصغر من أن تطعم عائلة. وقد شرح جيرالد برينان، في كتابه الكلاسيكي «المتاهة الإسبانية»، أن «الحل المنطقي الوحيد لبقاع إسبانية واسعة هو الحل الجماعي.»
في عام ١٩٣٦، قُدِّر أنه في تلك المناطق من إسبانيا التي لم تجتَحْها قوات فرانكو، يعيش نحو ثلاثة ملايين رجل وامرأة وطفل في كوميونات جماعية. وبالمثل أثبت ملاحظون ينتمون إلى تلك الفترة الزمنية تطبيق المبادئ الجماعية في المصانع في كتالونيا وإعادة تنظيم الخدمات العامة ووسائل النقل والهواتف والغاز والكهرباء في برشلونة.
وصفٌ كهذا، مع اهتمامه بالعلاقات الإنسانية والصورة المثالية للمجتمع العادل، لا بد وأن يبدوَ غريبًا على وعي المفكر رفيع الثقافة؛ ولهذا ينظر إليه بازدراء، أو يعتبره ساذجًا أو بدائيًّا، إن لم يكن غير منطقي. فقط في حالة التخلي عن هذا التحيز سيكون بإمكان المؤرخين إجراء دراسة جادة عن الحركة الشعبية التي غيرت وجه إسبانيا بنظامها الجمهوري في واحدة من أهم الثورات الشعبية التي عرفها التاريخ.
ما يجذبني إلى اللاسلطوية على المستوى الشخصي هو أهدافها التي تحاول مواجهة مشكلات التعامل مع المجتمعات الصناعية المنظمة المعقدة داخل إطار من الهياكل والمؤسسات الحرة.
لبَّت التجربة الإسبانية بالكاد معياره الثاني، ولكن أحداث عام ١٩٣٦ أكدت تعليقاته تمامًا؛ فبالكاد رصدت وسائل الإعلام في دول أوروبا الغربية هذه الإنجازات خارج صحف اللاسلطوية وأقصى اليسار اللاشيوعي، وعندما حاول جورج أورويل — بعد عودته من إسبانيا — كشف مؤامرة الصمت في كتابه «الحنين إلى كتالونيا» عام ١٩٣٧، باع كتابه ٣٠٠ نسخة فقط قبل أن يصبح كتابًا غير رائج في المكتبة اللاسلطوية عام ١٩٤٠. وبعد عدة عقود، استقبلت إسبانيا بحفاوة فيلم كين لوتش «الأرض والحرية» (١٩٩٥) لتعبيره الدرامي عن فترة مهمة في الحرب الأهلية، غير معروفة تقريبًا في إسبانيا نفسها حتى الآن.
من الواضح أنه خلال سنوات المنفى، كرس أولئك اللاسلطويون الذين نجَوْا من الحرب ومن انتقام فرانكو مجادلاتهم المتواصلة لتناول القرار المهلك الذي اتخذه قادة الاتحاد الوطني للعمل بأن يصبحوا جزءًا من الحكومة في محاولة لمقاومة الهيمنة السوفييتية. وبما أن كل تيار لاسلطوي عارض هيكل السياسة والنظام السياسي، فقد مثَّل هذا القرار حلًّا وسطًا لم يجلب معه أية فائدة وإنما كثيرًا من العار. يميل أولئك اللاسلطويون الذين درسوا الأمر إلى الاتفاق مع تعليق اللاسلطوي الفرنسي المحنك سيباستيان فور: «أنا واعٍ بحقيقة أنه من غير الممكن دائمًا أن يفعل المرء ما يجب أن يفعله، ولكني أعلم أن هناك أفعالًا لا ينبغي للمرء أبدًا أن يرتكبها تحت أي ظروف.»
وبعد عقود، أعادت سلسلة جديدة من الانتفاضات الشعبية اكتشاف الشعارات اللاسلطوية في تحدٍّ بطولي لإمبراطورية ستالين القوية ظاهريًّا. وظهرت الطموحات المكبوتة في شوارع المدن المجرية والبولندية عام ١٩٥٦، وفي تشيكوسلوفاكيا عام ١٩٦٨. كانت هذه كلها بشائر للسقوط غير الدموي اللاحق للاتحاد السوفييتي، بعد عقود من المعاناة المرعبة التي عاشها أولئك الذين فشلوا — عادةً دون قصد — في إرضاء حكامهم.
بدأ اللاسلطويون الناجون يشعرون ببعض الراحة مع سقوط أنظمة سَجَّانيهم من حولهم، رافعين أعلامهم الاحتجاجية السوداء في وجه الرأسمالية الجديدة التي تشق طريقها إلى الوجود من خلال قامعيهم القدامى. ظل هؤلاء على صواب دون كلل أو ملل، ولم تتغير أولوياتهم.