إضعاف القومية والأصولية
يدَّعي اللاسلطويون أن التنظيم الذاتي الشعبي يمكن أن يقدم تلك الأشكال الجديدة من التنظيم الاجتماعي التي — كما وصفها كروبوتكين في ملاحظة سبق واستشهدت بها — سوف تتولى «تلك الأدوار الاجتماعية التي تشغلها الدولة من خلال البيروقراطية.» ومع هذا، ليست هذه هي الموضوعات الوحيدة التي تُثار عندما ينظر الشكَّاكون إلى اللاسلطوية بصفتها أيديولوجية بدائية ليست ذات صلة بالعالم الحديث. فلديهم سبب مختلف؛ إذ يلاحظون الدولة القومية الحديثة والخصومات والتنافسات الحادة التي تنشأ بين حكومة أي دولة عظمى وغيرها. أو في واقع الأمر الضغائن المهلكة الملحوظة بين الفصائل المختلفة في منطقة واحدة تم تحديدها كدولة، والمشاحنات المخيفة التي تنشأ بين معتنقي الديانات المختلفة. وقد يلاحظون بصفة خاصة التراث السامي الذي تركته الإمبريالية الأوروبية للمناطق التي استولت عليها واستعمرتها تلك القوى البانية للإمبراطوريات.
فإنها تتسم بميل فطري إلى التطرف والخوف من الغرباء، والاعتقاد بسموها من ناحية وتَدنِّي العدو من ناحية أخرى. غالبًا ما يُزيَّف التاريخ بل وتُلفَّق أحداثه لخدمة أجندة سياسية قومية.
من الصعب أن نستوعب كيف يمكن أن ينخرط اللاسلطويون — بعدائيتهم المطلقة لكلٍّ من الصراعات الدينية والسياسات الإقليمية — في هذه النزاعات، فيما يتخطى الرفض المباشر للإمبريالية، إلا بتمني أن يعيشوا في الماضي. إن الامتناع عن التصويت نفسه يمكن أن يكون سلوكًا محفوفًا بالمخاطر، وإن كان ضروريًّا، وقد لاحظنا جميعًا في جميع أنحاء العالم أمثلة حوَّل فيها المتعصبون انتباههم الوحشي إلى أولئك الذين يجرءون على محاولة التعايش مع الشعوب الموجودة في «الجانب الآخر». وقد حذر مارتن بوبر — الذي قدَّم منذ نصف قرن مضى بعض الإسهامات القيِّمة لتحليل اللاسلطوية — رفاقه الصهاينة منذ عام ١٩٢١ أنه لو لم يعِش اليهود في فلسطين «مع» العرب إضافةً «إلى جوارهم»، فسيجدون أنفسهم في عداوة معهم. وعندما مات — بعد ذلك بأربعة وأربعين عامًا — علَّق كُتَّاب النعي أن مساندته للقومية المزدوجة جعلته منبوذًا من جانب المتعصبين باعتباره «عدوًّا للشعب».
ستكون أكثر فاعلية، مقارنةً بجميع الدعايات اللاهوتية للملحدين، في تدمير المعتقدات الدينية عن بكرة أبيها وإفساد عادات الناس، وهي معتقدات وعادات أشد ارتباطًا مما هو مفترَض عادةً.
انتقل باكونين بعد ذلك إلى الطبقات المسيطرة ذات النفوذ في المجتمع التي، رغم خبرتها الكبيرة بالحياة بما يجعلها ترفض أن تكون هي نفسها من العابدين، «يجب على الأقل أن تصطنع شكلًا من أشكال الإيمان»؛ لأن الإيمان البسيط لدى الشعب كان عاملًا مفيدًا في كبحهم. أخيرًا، في هذا التصريح تحديدًا عن مواقف باكونين، فإنه يشير إلى مروِّجي الدين الذين عندما تتحداهم في أي سخافة في عقيدتهم مرتبطة بالمعجزات أو الولادات العذرية أو البعث، يصفونها باستفاضة بأنها أساطير جميلة وليست حقائق واقعية، و«أننا» نحن الذين نثير الشفقة بسبب موضوعاتنا المبتذلة، وليس «هم» لنشر الأساطير على أنها حقيقة.
لم تختلف آراء باكونين في هذا الموضوع عن آراء خصمه كارل ماركس، الذي كانت أشهر عباراته هي وصفه للدين باعتباره «أفيون الشعب». ويصنف مؤرخو الأفكار كلًّا من الليبرالية والاشتراكية والشيوعية واللاسلطوية على أنها ثمار الفترة المعروفة باسم عصر التنوير، وهو نتيجة عصر العقلانية، الذي اختمرت فيه الأفكار وروح التساؤل فيما بين الثورة الإنجليزية في أربعينيات القرن السابع عشر والثورتين الأمريكية والفرنسية في سبعينيات وثمانينيات القرن الثامن عشر.
من منظور إنجليزي محدود، كان التسامح الديني إحدى النتائج التدريجية المعترف بها على مضض في عصر التنوير. نحن ننزع إلى نسيان أن إنجلترا تملك كنيسة تابعة للدولة، أُنشئت بسبب مشاجرة بين هنري الثامن والبابا حول أحد طلاقاته. ولهذه الكنيسة شهداؤها هي الأخرى، وهو ما يُذكِّرنا به تاريخ طويل من قمع المنشقِّين، والصراع المستمر من أجل الحرية الدينية. فقيود الأهلية القانونية لم تُرفع عن اليهود المؤمنين حتى عام ١٨٥٨، كما أن المواطنين الذين لم يستطيعوا الإقرار بالبنود التسعة والثلاثين لكنيسة إنجلترا لم يُقبَلوا في الجامعات العريقة حتى عام ١٨٧١. قد تكون كنيسة إنجلترا غير مهمة بالنسبة إلى غالبية الشعب البريطاني، ولكنها تذكِرة بحقيقة سياسية واجتماعية مهمة. فقد كانت إحدى نتائج عصر التنوير هي أن الأفراد الذين كتبوا دساتير عدة دول سعَوْا إلى الاستفادة من دروس التاريخ وأهوال الحروب الدينية عن طريق الإصرار على الفصل التام بين الممارسات الدينية والحياة «العامة». فالدين يجب أن يكون شأنًا خاصًّا.
كان هذا صحيحًا بالنسبة إلى مؤسسي الولايات المتحدة الأمريكية، الذين فر أجدادهم من الاضطهاد الديني في أوروبا، وكان صحيحًا بالنسبة إلى الجمهورية الفرنسية، وبالتبعية إلى تلك الدول التي — بعد خسارتها أعدادًا هائلة من الأرواح — حررت نفسها من الإمبريالية الفرنسية. كما كان صحيحًا أيضًا بالنسبة إلى العديد من الجمهوريات الجديدة التي أُنشئت بالمثل كنتيجة لانهيار الإمبريالية في القرن العشرين. تتضمن بعض الأمثلة المهمة جمهوريات الهند وتركيا ومصر والجزائر وإسرائيل.
الآن، وفي جميع أنحاء العالم، تخضع الدولة العلمانية للتهديد؛ إذ تواجه الأنظمة السياسية العلمانية في شمال أفريقيا والشرق الأوسط حركات دينية مسلحة، وهناك تهديد أصولي متنامٍ تجاه الدستور العلماني للولايات المتحدة. ليس هذا ما تنبأ به باكونين أو ماركس، أو أي مفكر سياسي آخر ينتمي للقرن التاسع عشر، بدايةً من ألكسي دو توكفيل وصولًا إلى جون ستيوارت مِل.
المسيحيين الأصوليين يحاولون أن يقمعوا دراسة تطور الكائنات وممارسات منع الحمل والإجهاض في الغرب والعالم الثالث. أما اليهود الأصوليون فيحاولون دمج فلسطين كلها داخل إسرائيل وفرض «الهالاخاه»؛ وهو القانون العرفي اليهودي. والمسلمون الأصوليون يحاولون تأسيس أنظمة إسلامية في جميع الدول التي تضم سكانًا مسلمين (بما في ذلك بريطانيا) وفرض «الشريعة الإسلامية». والأصوليون من جميع الأديان يلجئون إلى الاغتيال والإرهاب في جميع أنحاء العالم لقمع الحرية أو مناقشة مثل هذه الأمور.
هذه مأساة صِرف بالنسبة إلى غالبية المواطنين في أية دولة، تلك الغالبية التي تهتم فقط بأمور حياتها العادية وإعالة أسرها والاستمتاع بمباهج الحياة اليومية، مثلما هي كذلك بالنسبة إلى من يطمحون إلى تحسين أوضاعهم عن طريق العمل المجتمعي والعدالة الاجتماعية.
النخبة المحلية، المرتبطة بالعادات الإسلامية والمدرِكة لدرجة من الشبه بين القيم الإسلامية والاجتماعية، خانت أنشطتها غير الدينية بنفس المداومة التي زيفت بها أرقام إنتاج القطن. وكانت تجمعات الشيوخ لقراءة القرآن توصف للمتعصبين من جمعية الإلحاد العلمي بأنها جلسات للمحاربين القدامى الذين شاركوا في الحرب الوطنية العظمى.
في تركيا، بدأ كمال أتاتورك — الذي كان بدوره متفقًا مع أفكار باكونين عن الدين — تطبيق سياسة ديكتاتورية لما يمكن أن نُسميَه «القضاء على الأسلمة». كما أن خلفاءه الحاليين ممنوعون من تأسيس ولو حتى مجرد مظهر سطحي للديمقراطية؛ تحديدًا بسبب التهديد بعودة الدين. وفي فترة زمنية مختلفة، خَلَف شاه إيران، الذي كان معتنقًا خالصًا للفكر الغربي، نظامًا أصوليًّا لم يتوقعه أحد. وبالنسبة إلى مصر والجزائر، فهما ممزقتان بين النخب المتنافسة المؤيدة للدولة العلمانية أو الدينية. وفي الولايات المتحدة، يعد الائتلاف المسيحي هو الأقوى من بين جميع الجماعات السياسية، مع تعاظم نفوذه في الحزب الجمهوري. وهو ينكر مسئوليته عن مقتل آخر طبيب أجرى عملية إجهاض في الجنوب الأمريكي.
إنه لمن المحبط وغير المتوقع بالنسبة إلى اللاسلطويين العلمانيين — الذين اعتقدوا أن حروب الدين قد أمست طيًّا منسيًّا — أن يُضطَروا اليوم إلى مواجهة قضايا الاعتراف بالاختلاف، في أثناء محاولتهم الانتقال إلى القضايا التي تربطنا بدلًا من أن تفرقنا. أحد التوجهات التي يمكنهم تبنيها هو ذلك الذي اتبعه المروج اللاسلطوي رودولف روكر منذ قرن مضى في جمعية وايتشابل اليهودية بشرق لندن؛ فقد اختار بعض الحلفاء العلمانيين الترويج للسلوك التحريضي في صباح أيام السبت خارج المعبد اليهودي في شارع بريك لين. وحين سئل روكر عن رأيه في هذه التظاهرات، أجاب بأن مكان العابدين هو بيت العبادة، أما مكان غير العابدين فهو الاجتماعات الثورية. لكن المشهد تغير؛ فنفس المبنى الذي توالت عليه عدة ديانات، بصفته كنيسة بروتستانتية فرنسية، ومجلسًا للمنشقِّين، ومعبدًا يهوديًّا، أصبح الآن مسجدًا. وأي شخص ينتهك العابدين الجدد اليوم ليس بنجلاديشيًّا علمانيًّا، وإنما عنصري إنجليزي عنيف يهدف إلى غرس الرعب وإثارة المشكلات.
لقد قيل، مثلًا، عن حزب بهاراتيا جاناتا («حزب الشعب الهندي») في الهند — الذي نجح في نشر العنف العام في مناطق من البنجاب حيث كانت تعيش سابقًا مجتمعات مختلفة في وئام — إن اسم المرض ليس الأصولية وإنما القومية العرقية. ينطبق هذا الرأي على مناطق أخرى بالعالم، وفي مثل هذه الحالات — بما في ذلك عدة مناطق من العالم الإسلامي — يمكننا مجددًا أن نختار إلقاء اللوم على الإذلالات والإهانات اللانهائية للثقافة المحلية التي فرضتها الإمبريالية الغربية.
يحتوي التحليل النقدي المعقد لإدوارد سعيد (انظر المربع بالأسفل) على حقائق مهمة. كانت دول الشرق الأدنى والأوسط على مدار قرون خاضعة لنظام إمبريالي أو آخر، وكانت ثقافاتها تتعرض للاستهزاء أو الإذلال، وحتى حدودها شكَّلتها خطوط مرسومة على الخريطة على يد شركات وحكومات أوروبية. تنبع قيمة هذه الدول اليوم من مواردها البترولية أو لكونها أسواقًا محتملة، في حين أنها غارقة وسط الأسلحة المتبقية من رشاوى الحرب الباردة. وقد سارع حكام الشرق الأوسط إلى اعتناق الدين العلماني الغربي ذي الانتشار الواضح، ولكنهم لم يقدموا شيئًا للغالبية الفقيرة من رعاياهم سوى الآمال المُحبطة.
إن الخوف والرعب الناتجين عن صورتَي «الإرهاب» و«الأصولية» المبالغ فيهما — سمِّهما صورًا مجازية دولية أو عابرة للحدود القومية صنعتها شياطين أجنبية — يعجلان بخضوع الفرد لسيطرة تقاليد اللحظة. ينطبق هذا على مجتمعات ما بعد الاستعمار الجديدة مثلما ينطبق على الغرب عمومًا والولايات المتحدة خصوصًا؛ ومن ثَمَّ، فإن معارضة الانحراف والتطرف المترسخين في الإرهاب والأصولية — يحمل مثالي درجة ضئيلة للغاية من السخرية — يعني أيضًا تأييد الاعتدال والعقلانية والمركزية التنفيذية للروح «الغربية» (أو المحلية والوطنية المزعومة) المحددة بشكل غامض. مكمن المفارقة أننا بدلًا من أن نصبغ الروح الغربية بالثقة و«الحالة السوية» الآمنة التي نربطها بالشرف والاستقامة، فإن هذه الديناميكية تجعلنا نتشرب بحيل دفاعية وغضب مبرر نرى فيه «الآخرين» في نهاية المطاف أعداءً يهدفون إلى تدمير حضارتنا وأسلوب حياتنا.
عندما انتهيت من تأليف هذا الكتاب أدركت شيئًا واحدًا: لو كانت حقوق النساء مشكلة بالنسبة إلى بعض الرجال المسلمين العصريين، فهي ليست بسبب القرآن، ولا النبي، ولا التقاليد الإسلامية، ولكن ببساطة لأن هذه الحقوق تتعارض مع مصالح النخبة الذكورية. يحاول الفصيل النخبوي إقناعنا بأن نظرتهم الأنانية وشديدة الانحياز والركاكة عن الثقافة والمجتمع لها أساس ديني.
على غرار جميع الفصائل اليسارية الأخرى التي ظهرت في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، اعتبر اللاسلطويون الانفصالية المكانية والدينية شأنًا غير مهم تخطاه المجتمع البشري. ورسالتهم الوحيدة المحتملة هي الأمل بأن يفقد التعصب قوته الدافعة عندما يجد قادته أنهم بلا أتباع، ويكتشف الناس موضوعات أكثر تشويقًا وإمتاعًا — أو على أقل تقدير أقل إهلاكًا — ليتناقشوا فيها مع جيرانهم.