الحرية في التعليم
التعليم الحديث لا يُفسِد فقط قلوب شبابنا بالاستعباد الصارم الذي يُفرض عليهم، ولكنه أيضًا يوهن تفكيرهم، من خلال اللغة الغامضة التي يغرقهم بها في الحالة الأولى، والاهتمام الضئيل الذي يوجَّه للتوفيق بين مساعيهم وقدراتهم في الحالة الثانية.
لا يوجد في العالم شيء أكثر إثارة للشفقة من طفل تجده خائفًا كلما نظرت إليه، وهو يشاهد بشكٍّ قلقٍ تقلبات رأي المعلم.
الأطفال، حسبما يقال، لا يتأثرون بهموم العالم، فهل لا يتأثرون بهمومهم الخاصة؟ من بين كل الهموم، فإن تلك التي تجلب معها أعظم عزاء هي هموم الاستقلالية. ليس هناك مصدر أكيد للابتهاج أكثر من الوعي بأن لي أهمية ما في هذا العالم. عادةً ما يشعر الطفل أنه نكرة. والآباء، برعايتهم الوفيرة، يهتمون كثيرًا بترسيخ هذه الذكرى المُرة. فكيف يرتقي الطفل فجأة إلى درجة منشودة من السعادة يشعر عندها بالفخر لأن من يكبرونه يثقون به ويستشيرونه؟
الأضرار التي تنتج عن نظام تعليمي قومي هي؛ أولًا: أن جميع المؤسسات العامة تتضمن في داخلها فكرة الديمومة … دائمًا ما كان التعليم العام يستنفد طاقاته في مساندة التحيز … تسري هذه الصفة في كل نوع من المؤسسات العامة، وحتى في مدارس الآحاد الصغيرة، فإن الدروس الأساسية التي تُدرَّس هي التبجيل الخرافي لكنيسة إنجلترا، والانحناء أمام أي رجل يرتدي معطفًا فاخرًا …
ثانيًا: فكرة التعليم القومي قائمة على عدم الاكتراث بطبيعة العقل. إن أي شيء يفعله كل إنسان لنفسه إنما يفعله على نحوٍ طيب، بينما أي شيء يفعله جيرانه أو دولته من أجله فإنه لا يكون طيبًا. ومن الحكمة أن نحث الناس على التصرف بأنفسهم، لا أن نسجنهم في حالة تلمذة دائمة …
ثالثًا: يجب بانتظامٍ إعاقة مشروع التعليم القومي بسبب تحالفه الواضح مع الحكومة القومية؛ فهذا التحالف ذو طبيعة أشد هولًا من التحالف القديم والأكثر تنافسًا بين الكنيسة والدولة. قبل أن نضع آلة قوية كهذه تحت سيطرة طرف طموح كهذا، يتوجب علينا أن نفكر مليًّا فيما نفعل. فالحكومة لن تفشل في استخدامها لتقوية نفوذها وتخليد مؤسساتها … ورأي الحكومة في قدرتها على تحريك النظام التعليمي لن يختلف كثيرًا عن رأيها فيما يتعلق بقدرتها السياسية … [حتى] في الدول التي تسود فيها الحرية بشكل أساسي، من المنطقي أن نفترض أن هناك أخطاءً مهمة، وأن النظام التعليمي يميل بشكل مباشر إلى تخليد هذه الأخطاء وتشكيل كل العقول حسب قالب واحد.
شعر بعض المعجبين بفكر جودوين بالإحراج بسبب هذا الاعتراض على الرأي «التقدمي»؛ فهم يتذكرون الصراع المُر للوصول إلى تعليم إلزامي مجاني عام للجميع في كلٍّ من بريطانيا والولايات المتحدة عقب عام ١٨٧٠. (يوجد تشابه محير في اللغة التعليمية في بريطانيا والولايات المتحدة. في الولايات المتحدة تعني كلمة مدارس «عامة» المدارس الابتدائية والثانوية التي تقدم خدماتها على حساب المواطنين. أما في بريطانيا فكلمتا «خاص» و«عام» هما المستخدمتان لوصف المدارس الابتدائية والثانوية التي يمولها أولياء الأمور الموسرين من أجل أبنائهم الأثرياء، والمدارس التي توصف بأنها مدارس «حكومية» هي التي تديرها فعلًا السلطات الحكومية المحلية.) في بريطانيا شرح منشور في الذكرى المئوية للاتحاد الوطني للمعلمين عام ١٩٧٠ أنه «بعيدًا عن المدارس الدينية والخيرية، فإن المدارس «النسائية» أو العامة كانت تُدار بالجهود الخاصة للمواطنين الذين كانوا غالبًا ذوي تعليم ضعيف»، وتجاهل المنشور العدائية واسعة الانتشار لدى الطبقة العاملة تجاه مجالس مدارس القرن التاسع عشر مع ملاحظة أن «أولياء الأمور لم يكونوا دومًا سريعين في تقدير مزايا تعليم اليوم الكامل في مقابل خسارة الأجور الإضافية.»
هذه المطالبة الهائلة بتعليم خاص بدلًا من العام ربما تتضح بشكل أقوى من خلال حقيقة أن أولياء الأمور من الطبقة العاملة في العديد من المدن الرئيسية قد استجابوا لطرح نظام الحضور الإجباري، ليس عن طريق إرسال أبنائهم إلى مدارس عامة حكومية التمويل — كما تنبأ المفتشون الحكوميون — وإنما بإمداد فترة تعليم أبنائهم في المدارس الخاصة. لقد فضَّل أولياء الأمور هذه المدارس لأسباب عدة؛ فقد كانت صغيرة وقريبة من منازلهم؛ وبالتالي كانت أكثر حميمية وراحة من معظم المدارس العامة حكومية التمويل، كما كانت غير رسمية وتتقبل الحضور غير المنتظم وعدم الدقة في المواعيد، ولم تحتفظ بسجل حضور، ولم يقسم الطلاب تبعًا للسن أو الجنس، وطبقت أساليب تعليمية فردية بدلًا من الأساليب الفاشستية، والأهم أنها كانت تنتمي إلى المجتمع المحلي وتخضع لسيطرته بدلًا من أن تُفرَض على المنطقة بيد سلطة خارجية.
حققت ما أراده العميل وحسب: نتائج سريعة في مهارات أساسية مثل القراءة والكتابة والحساب، ولم تضيع الوقت على الدراسات الدينية والنهضة الأخلاقية، وجسَّدت توجهًا بديلًا بحقٍّ للتعلم في الطفولة عن ذلك الذي ينصح به خبراء التعليم.
قمع شهية أعداد لا تحصى من أطفال الطبقة العاملة للتعليم والقدرة على التعلم باستقلالية، والتي يسعى التعليم التقدمي المعاصر إلى إعادة إيقادها.
نظرًا إلى اختلاف هذا التوجه جذريًّا عن تاريخ التعليم الذي يتلقاه معلمو الطلاب، فإنه يساعدنا على تحديد المفكرين اللاسلطويين في مجال الأفكار التعليمية. مثال على كتابات هؤلاء المفكرين تأملات ليو تولستوي عن المدرسة التي أنشأها في ياسنايا بوليانا، وتأملات فرانسيسكو فيرير (١٨٥٩–١٩٠٩)، مؤسس حركة «المدرسة الحديثة». افتتح فيرير مدرسته الأولى في برشلونة عام ١٩٠١، ساعيًا إلى تعليم عقلاني علماني. وقد ألهم أقرانه في العديد من الدول واكتسب عداوة الكنيسة. وعندما دعت الحكومة الإسبانية للتجنيد الإلزامي في كتالونيا من أجل حربها في المغرب عام ١٩٠٩، حُمِّل فيرير مسئولية حروب الشوارع التي اندلعت في برشلونة والتي قُتل فيها ٢٠٠ متظاهر، رغم أنه لم يكن موجودًا. ورغم إعدامه، لم تَمُتْ حملته عن التعليم العلماني. وبعد ثورة ١٩ يوليو ١٩٣٦، التحق ٦٠ ألف طفل على الأقل في كتالونيا بمدارس فيرير.
لن تكون مدارس بعد الآن؛ ستكون أكاديميات عامة، لن يُعرف فيها لا التلامذة ولا الأساتذة، حيث سيأتي الناس بحريتهم ليحصلوا — إذا احتاجوا — على تعليم مجاني، وهؤلاء الناس، بفضل ثراء تجربتهم الخاصة، سيُعلِّمون بدورهم العديد من الأشياء للأساتذة الذين سيُكسِبونهم المعرفة التي يفتقرون إليها؛ سيكون هذا عندئذٍ تعليمًا متبادلًا، أو فعلًا أخويًّا تثقيفيًّا.
أعتقد أننا سنرى في حياتكم نهاية المدارس التي نعرفها. وبدلًا منها سيظهر مركز اجتماعي أبوابه مفتوحة اثنتي عشرة ساعة في اليوم، سبعة أيام في الأسبوع، حيث يستطيع أي شخص أن يتجول داخل وخارج المكتبة وورش العمل والمركز الرياضي ومتجر الخدمة الذاتية والبار. في غضون مائة عام، ستختفي القوانين الإجبارية لحضور الأطفال إلى المدرسة مثلما اختفت القوانين الإجبارية للحضور إلى الكنيسة.
ليس من المحتمل أن تتحقق نبوءته؛ لأنه بعد عشرة أعوام من خطابه ألقت إحدى الحكومات الجديدة بلائمة انهيار مجال التصنيع البريطاني على المدارس، من بين جميع أكباش الفداء غير المحتملة. تلا ذلك نظام جديد للتدخل غير المسبوق من جانب الحكومة المركزية في إدارة ومناهج المدارس الابتدائية والثانوية التي تمولها في بريطانيا السلطات المحلية. اشتمل هذا على فرض منهج تعليمي قومي، لأول مرة، على يد الحكومة المركزية، وبرنامج مستمر لاختبار الأطفال في أعمار معينة، وفيض من الاستمارات يملؤها المعلمون. (أثبت هذا التقييم اللانهائي دون شك أن المدارس في المناطق الثرية تحقق درجات أعلى من المدارس الموجودة في المناطق الفقيرة؛ حيث اللغة الأم لغالبية الأطفال ليست الإنجليزية. هذه حقائق اجتماعية يدركها بالفعل معظم الناس.)
كان دائمًا واعيًا بحقيقة أن الأطفال الذين كان يتحدث عنهم هم أطفال العمال. سيكون العمل حياتهم عندما يكبرون. لم يجد برودون خطأً في هذا؛ فالعمل الذي يمارسه الإنسان يجب أن يفتخر به لأنه يعطي لحياته فائدة وقيمة وكرامة؛ لذلك كان من الصحيح أن تجهز المدرسة الشباب لحياة عملية. فالتعليم المنفصل عن عالم العمل — أي التعليم الذي تكون فكرته قائمة بأكملها على دراسة الكتب أو تعلم النحو — هو بلا قيمة من وجهة نظر أطفال الطبقة العاملة العاديين. بالطبع، التعليم الذي ذهب بعيدًا في الاتجاه الآخر، والذي ربى الأطفال فقط ليكونوا علفًا للمصانع، كان بدوره غير مقبول. ما كان مطلوبًا هو تعليم يوفر طفلًا لمكان العمل ولكنه يمنحه أيضًا درجة من الاستقلالية في سوق العمل. يمكن أن يتحقق هذا بإعطائه؛ ليس فقط أساس المهنة ولكن أيضًا نطاقًا كاملًا من المهارات القابلة للتسويق، والتي من شأنها أن تضمن أنه لن يكون أبدًا تحت رحمة نظام صناعي يطلب من عماله تخصصًا ثم يتخلص منهم عندما لا يعود هذا التخصص مفيدًا للشركة. وهكذا توصل برودون إلى فكرة التعليم «متعدد المهارات».
سيخمن القراء، بشكل صحيح، أن برودون كان مهتمًّا فقط بتعليم الذكور، لكن هذا لم يكن صحيحًا بالنسبة إلى خلفاء مثل كروبوتكين، الذي كان يأمل في دمج العمل الذهني والعمل البدني، ليس فقط في التعليم ولكن في الحياة، ولا بالنسبة إلى أبطال مثل فرانسيسكو فيرير في إسبانيا، الذي كان يميل بالمثل إلى تعليم يهدف إلى «الانعتاق»، على عكس ما اعتبره تعليمًا يهدف إلى «العبودية». إن أكثر صفحات مايكل سميث تشويقًا للقارئ الإنجليزي تصف «التعليم التكميلي» بشكل عملي من خلال تجربة اللاسلطوي الفرنسي بول روبين والمدرسة التي أدارها منذ عام ١٨٨٠ وحتى عام ١٨٩٤ في سيمبيوس. كانت المدرسة قائمة على التدريب الوِرَشي والتخلي عن الفصل المدرسي لصالح ما نسميه اليوم مركز الموارد. كان الطهو وشغل الإبرة والنجارة وتشكيل المعادن أنشطة يمارسها كلا الجنسين، بينما «كان أطفال سيمبيوس، إناثًا وذكورًا، من بين أوائل الأطفال في فرنسا الذين يذهبون لركوب الدراجات.»
كان التعليم المشترك والمساواة بين الجنسين والإلحاد أسبابًا في ظهور مدرسة روبين، ولكن لاسلطويًّا فرنسيًّا آخر معروفًا — وهو سيباستيان فور — أدار مدرسة مشهورة باسم «خلية النحل». يعلق مايكل سميث أن: «فور تعلَّم درسًا شديد الأهمية من سقوط روبين: ابقَ بعيدًا تمامًا عن نظام الدولة وستضمن الاستقلالية التامة.» ولكن في بريطانيا كانت هناك محاولات مستمرة لتقديم توجهات التعليم الليبرتاري داخل المنظومة التعليمية الممولة من جانب جميع المواطنين. وقد تتبع مؤرخ آخر — وهو جون شوتون — تاريخ هذه المحاولات، وتاريخ محاولات مشابهة لمساعدة جميع أولئك الأطفال الذين أقصاهم النظام الرسمي.
لقد ترك قرن من التجارب التقدمية أثرًا عميقًا على كل مدرسة، وبصورة أوضح على المدارس الابتدائية. لقد تغيَّر دور المعلم من كونه ضابطًا مخيفًا إلى مرشد غير عدائي، في حين أن العقاب البدني — الذي كان في وقت من الأوقات عماد المنظومة التعليمية — أصبح محرمًا قانونًا. مع هذا، هناك فرق يجب أن نوضحه بين التعليم «التقدمي» والتعليم «الليبرتاري»، وهو يتلخص من الناحية العملية حول مسألة حضور الدروس إجباريًّا أو طوعيًّا. ومن أوائل الليبرتاريين إيه إس نيل، الذي على مدار عقود أدار مدرسة سَمرهيل في سوفولك، والتي ما زالت باقية حتى اليوم، بقيادة ابنته زوي ريدهيد.
«أعطِ الطفل حريته»، هذا هو النداء المُلِحُّ للمعلمين الجدد، ولكن من ناحية أخرى عادةً ما يضع مؤيدوه «نظامًا» يقيد هذه الحرية ويتعارض مع هذا المبدأ، رغم قيامه على أكثر الأسس قوة.
نظامه التعليمي كله عبارة عن مجموعة من الحيل، أو عرض للدمى، يمسك فيه محرك العرائس الأسلاك، فلا يشك المتعلم أبدًا في الطريقة التي تتحرك بها.
كان التوجه اللاسلطوي أكثر تأثيرًا في التعليم منه في معظم مجالات الحياة الأخرى. ربما يتعرض للتفنيد والاستنكار من جانب الفاشستيين، بحنينهم لماضٍ مثالي، ولكن من الصعب تصور أن يتحمل الشباب في المستقبل النظام التعليمي الذي تعرض له أجداد حكامهم.
في بعض المناطق من العالم، أصبحت المعركة من أجل حرية الصغار شيئًا من الماضي. وفي مناطق أخرى، ما زالت المعركة دائرة. وسوف يصف الفصل الثامن بعض المحاولات التي ظهرت في بريطانيا لتقديم تجربة بديلة للأطفال الصغار المُقْصَوْن من النظام التعليمي الرسمي.