ثورات هادئة
يمكن اعتبار الفجوة بين طموحات اللاسلطويين والتاريخ الفعلي للقرن العشرين مؤشرًا لحماقة الآمال المستحيلة، لولا الفشل المتزامن لأيديولوجيات سياسية أخرى يسارية. مَن منا لم يتنفس الصُّعَدَاء من صميم قلبه بعد سقوط الشيوعية السوفييتية، رغم أننا لا نملك سببًا قويًّا للابتهاج بالأنظمة اللاحقة؟ ومع تفريغ المؤسسات العقابية لناجيها تدريجيًّا، اضطُر المؤيدون الحقيقيون إلى الشك في افتراضاتهم.
البديل الثوري ﻟ «الوضع الراهن» اليوم ليس الملكية الجمعية من جانب «الدولة العمالية» أيًّا كان معنى «هذا»، ولكنه نوع من اللامركزية اللاسلطوية التي ستقسم الكتلة المجتمعية إلى مجتمعات صغيرة يستطيع الأفراد أن يعيشوا فيها معًا كبشر متنوعين لا كوحدات مجردة الشخصية في الكتلة الكلية. تُظهر سطحية الخطة الاقتصادية الجديدة ونظام حزب العمال البريطاني الذي أتى بعد الحرب من خلال فشلهما في تحسين أيٍّ من الأمور المهمة في حياة المواطنين؛ العلاقاتِ الفعليةَ في العمل، والطريقة التي يقضون بها وقت فراغهم، وتربية الأطفال، والجنس، والفن. الحياة الكلية هي التي تُفسد اليوم كل هذه الأمور، وكذلك الدولة التي تحافظ على «الوضع الراهن». تمجد الماركسية «التكتلات الجماهيرية» وتؤيد الدولة. أما اللاسلطوية فتعود إلى الفرد والمجتمع، وهو ما يعتبر «غير عملي» ولكنه ضروري؛ أو بعبارة أخرى، ثوري.
بطريقة متحيزة وناقصة، ولكن واضحة، غيَّرت العديد من الثورات التي سعى إليها من المظهر الخارجي للحياة بالفعل. لنأخذ مثالًا يعتبر سطحيًّا، وهو مثال واضح وجلي ولكن نادرًا ما يخضع للمناقشة، تخيل الثورة في طريقة الملبس التي ظهرت في النصف الثاني من القرن العشرين. منذ خمسين عامًا في بريطانيا، كان يمكن تمييز الطبقة الاجتماعية برجالها ونسائها وأطفالها من ملبسها. لم يعد هذا صحيحًا اليوم، فيما عدا الأقلية بالغة الصغر التي تستطيع معرفة دلالات الزي الباهظ والمقصور على طبقة معينة. يعزى هذا عادةً إلى نمو الإنتاج الضخم وحقيقة أن تجارة الملابس هي الطريق الأول للاقتصاد العالمي بالنسبة إلى أي قوة عاملة منخفضة الأجر في العالم «النامي»، ولكنه مرتبط أكثر بالتحرر من قيود الملبس، التي بدأها على مدار القرن العشرين رفْض المنشقِّين الثوريين للموضة.
أولًا: بإثبات نفسها كشخصية ذات هوية، لا كسلعة جنسية. ثانيًا: برفض سيطرة أي شخص على جسدها، وبرفض إنجاب الأطفال، ما لم تكن هي من ترغب فيهم، وبرفض أن تكون خادمة للرب أو للدولة أو للمجتمع أو للزوج أو للعائلة … إلخ، وبجعل حياتها أبسط ولكن أعمق وأثرى. يتم هذا بمحاولة فهم معنى الحياة وجوهرها وجميع تعقيداتها، وبتحرير نفسها من الخوف من الرأي العام والإدانة المجتمعية. هذا فقط، وليس صندوق الاقتراع، هو ما سيحرر النساء …
لقد نشأت العادة التي يمكن أن نسمِّيَها ﺑ «الزيجات الحرة» — بعكس الزيجات التي تجيزها الكنيسة أو الدولة — بين اللاسلطويين. وهي اليوم شائعة بنفس درجة الزيجات العادية، وكانت النتيجة أن وصمة العار التي ارتبطت في يوم من الأيام باللاشرعية اختفت على مدار القرن. وقد عجَّل بهذا التغيير، طبعًا، ثورة العقاقير التي أحدثتها حبوب منع الحمل.
اكتساب الوعي والسلوكيات التي يمكن أن تنشأ من تجربة جنسية ممتعة لا يسبب انسحابًا أنانيًّا؛ بل هو أقرب إلى تحويل الناس إلى ثوريين. إن معاداة الجنس في المجتمعات الفاشستية والأشخاص الذين يديرونها لا تنشأ بوازع الإيمان الراسخ (فهم أنفسهم يمارسون الجنس)، ولكنها تنشأ من الفهم الملتبس بأن الحرية في هذا المكان قد تؤدي إلى الولع بالحرية في مكان آخر. الأشخاص الذين أسبغوا الشبقية على تجربتهم مع أنفسهم والعالم هم، من ناحية، غير ميالين للحرب بشكل غير مريح، ومن ناحية أخرى، مولعون بالقتال العنيف لمقاومة العنصريين ومروجي السياسات الذين يهددون الحرية الشخصية التي بلغوها ويريدون أن يشاركوها مع الآخرين.
كان كومفورت يأمل أن تقدم كتبه الطمأنينة والحرية، وأن تصبح إسهامًا لثورة أخرى في القرن العشرين؛ ثورة في العلاقات بين الآباء والأبناء. من الصعب أن نتخيل في أوروبا الغربية اليوم أن يستخدم السلوك التأديبي الذي اتبعه الآباء مع أبنائهم، والذي كان أمرًا مسلمًا به، منذ قرن مضى.
ينطبق ذلك أيضًا على العلاقات بين المعلمين والأطفال. فذكريات الأشخاص الذين كانوا تلاميذ في العَقد الأول من القرن العشرين تمتلئ بأوصاف عن العقاب الجسدي الذي كانوا يتلقونه أو الذي كانوا دائمًا يخشونه. لكن خلال العقد الأخير من القرن حرم قانون بريطاني العقاب البدني في المدارس. لم يكن هذا قرارًا قانونيًّا مفاجئًا، بل عكَس تأثير مجموعة من المدارس «التقدمية» على التفكير التربوي العام.
يدَّعي كثير من الملاحظين أن النظام المدرسي قد فشل في الاستعداد للمعضلات التي نشأت بعد التخلي عن العقاب البدني. لقد حُرِم المعلم من السلاح الذي كان يعتبر الملجأ الأخير بالنسبة إلى المدرسة. أدى هذا إلى تزايد أعداد الأطفال الذين يتم إقصاؤهم من المدرسة لأن المعلمين رفضوا استقبالهم في الفصل. وأي شخص يلاحظ كيف يستطيع عضو واحد مشاغب أن يجعل العملية التعليمية مستحيلة بالنسبة إلى المجموعة كلها؛ لا ينتقد هؤلاء المعلمين (خصوصًا وأن أصحاب العمل يضغطون عليهم كي لا يفسدوا الإحصاءات).
في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، نشأ موقف مثير للاهتمام في العديد من المدن البريطانية: لندن وليفربول وليدز وجلاسجو؛ فقد عثرت مجموعة من المتحمسين على مبانٍ خاوية وأَنشَئوا فيها «مدارس مجانية» لتقديم تعليم غير رسمي للأطفال الذين إما تم إقصاؤهم من المدرسة أو قد أقصَوْا أنفسهم بالتسرب منها (إحداها كانت مدرسة وايت لايون المجانية في لندن، التي استمرت منذ عام ١٩٧٢ وحتى عام ١٩٩٠). صُمم نظام هذه المدارس عن قصد بناءً على تجربة حركة المدارس التقدمية. وقد سألتُ خبيرة في هذه التجارب عن سبب عدم عودة الفكرة إلى الحياة لدى الجيل الجديد من الأطفال المُقْصَون في بداية القرن الجديد، فقدمت لي سببين؛ الأول: هو اضطرار جميع المدارس في بريطانيا قانونًا إلى تدريس المنهج القومي الذي قُدم خلال فترة حكم تاتشر وأبقاه خلفاؤها، والثاني: هو صعوبة إيجاد مبانٍ توفي معايير الأمان والنظافة المطلوبة في المدارس. مع هذا، من الصعب تخيل العودة إلى نظام الخوف الذي حكم المدارس منذ قرن مضى. إن الثورة الهادئة في التعليم لا يسعها إلا أن تتقدم إلى الأمام.
يوجد تغييران آخران ظهرا في بريطانيا منذ ستينيات القرن العشرين ويبدوان بدورهما لا رجوع فيهما. الأول هو محو الخوف من المحاكمة الجنائية بتهمة المثلية الجنسية. وقد أُوصي بهذا في تقرير حكومي صادر عن لجنة جون ولفيندين ونُشر عام ١٩٥٧، ولكن إحداث تغيير في القانون تطلب سنوات من الجدال والاضطراب. أما التغيير الآخر فكان إلغاء عقوبة الإعدام عام ١٩٦٥. عشية النقاش الذي تسبب في إحداث هذا التغيير، قدم الناشرون اللاسلطويون من دار فريدم بريس لكل عضو في البرلمان نسخة من طبعتهم لكتاب تشارلز دوف المؤلم «مرجع للشنق»، الذي أخذ شكل دليل إرشادي للجلادين. وحدهم الملاحظون المفتقرون بشدة إلى حس الدعابة هم فقط الذين سيشتكون من أن مساندة الحملات الداعية إلى إلغاء القوانين الوحشية تعارض الموقف اللاسلطوي المناهض للنظام البرلماني.
في جملتها، تعتبر التغييرات الاجتماعية في بريطانيا التي عَدَدتُها مؤشرًا إلى أنه رغم إحراز اللاسلطويين تقدمًا بسيطًا نحو التغييرات واسعة النطاق في المجتمع، التي كانوا يأملون في إحداثها، فقد ساهموا في سلسلة طويلة من التحريرات الصغيرة التي رفعت قدرًا كبيرًا من الشقاء الإنساني.
لا يوجد آمر في المخ، ولا كتلة عصبية أو غدِّية اسمها الأخ الأكبر. داخل عقولنا تعتمد حياتنا على تكافؤ الفرص، على التخصص مع التعدد، على التواصل الحر والقيود العادلة، على الحرية بلا تدخلات. هنا أيضًا، تستطيع الأقليات، وتقوم فعلًا، بالتحكم في وسائلها الخاصة للإنتاج والتعبير من خلال الحوار الحر والمتكافئ مع جيرانها.
المَخرَج بالنسبة إلى الموقفيين ليس انتظار ثورة بعيدة، وإنما إعادة إنتاج حياة يومية في هذا الوقت وهذا المكان. فتغيير مفهومنا عن العالم وتغيير الهيكل المجتمعي هما نفس الشيء. وعندما يحرر المرء نفسه، فإنه يغيِّر علاقات القوة؛ وبالتالي يغيِّر المجتمع …
ذهب الموقفيون، مثل الكابوتر، في طي النسيان، دون أن يستطيعوا تغيير المجتمع، لكن فرنسا وهولندا، مثل بريطانيا، شهدتا سلسلة من المكاسب الحضارية المتواضعة.
في أبريل من عام ١٩٩٨، حقق تجمع غير منظم من المحتجين الهزيمة الأولى في سلسلة من الهزائم الموجهة ضد ائتلاف لأقوى المصالح على كوكب الأرض. كانت الأمم التسع والعشرون الأكثر ثراء قد وحَّدت قواها مع أكبر الشركات متعددة الجنسيات في العالم لصياغة «دستور اقتصاد عالمي واحد». ولو كانت اتفاقية الاستثمار متعددة الأطراف، التي اقترحها وصاغها رجال الأعمال — وناقشتها الحكومات سرًّا — قد نجحت، لمنحت الشركات حق مقاضاة أي بلد تعيق قوانينها قدرة هذه الشركات على جني المال. كانت المعاهدة، حسبما يدعي معارضوها، صكًّا لسيطرة الشركات على العالم.
يشرح مونبيو كيف أدى تسريب خبر هذه المعاهدة السرية عام ١٩٩٧ إلى قيام المعترضين بنشر تفاصيلها على الإنترنت، مؤكدين قيام تظاهرات أينما اجتمع المفاوضون الحكوميون. أجبرت الضغوط الشعبية والخلافات الداخلية قادة العالم على التخلي عن مفاوضاتهم، ثم أعادوا إحياءها تحت رعاية منظمة التجارة العالمية. وقد اجتمع مفاوضوها في سياتل في نوفمبر من عام ١٩٩٩، لكن فشلت المحادثات هناك بسبب احتجاج عشرات الآلاف من الأشخاص من جميع أنحاء العالم خارج قاعة الاجتماع، بالنيابة عن الدول الفقيرة وبيئة كوكب الأرض.
جاءت شبه جيوش من المحتجين مرتدية ثياب جنيات ومسلحة بمنافض الريش لمداعبة رتب قوات الشرطة كثيفة التسليح والملبس. في مثل هذه الاحتجاجات، تتعطل خطوط المواصلات؛ ليس بسبب المتاريس المشتعلة وحروب الشوارع بقدر ما هو بسبب الأدوات الضخمة مثل «دمية الحرية»، القادرة على إعاقة طريق سريع رئيسي.
حجم الاحتجاجات وتنظيمها الذي أرهب قوات الشرطة إلى حد قيامهم بسلوكيات غير قانونية مسعورة وسافرة دعمته حقيقة أن من بين ٦٣١ اعتقالًا، ١٤ فقط خضعوا للمحاكمة.
العنف الشرطي «العادي» الذي بدأ في سياتل تصاعد خلال الاحتجاج المناهض للرأسمالية في جوتنبرج في يونيو ٢٠٠١ إلى حد استخدام الشرطة للرصاص الحي؛ مما أدى إلى إصابة ثلاثة أشخاص. وعندما انطلق احتجاج آخر مناهض للرأسمالية في جنوة في شهر يوليو، تحول الحدث إلى شغب عنيف؛ حيث انطلقت السيارات المصفحة بسرعات عالية وسط الجموع المحتجة، هذا إلى جانب الهجوم شديد العنف الذي شنته قوات الشرطة فجأة في وقت متأخر من الليل على مبنًى يضم النشطاء الإعلاميين وأدواتهم.
قُتل شاب لاسلطوي واحد في جنوة، وقد أدى موته إلى مناقشات متجددة حول استراتيجيات الاحتجاج. هل توجد طرق أكثر مهارة لهدم الرأسمالية العالمية؟ لم يكتشف الثائرون الهادئون الذين غيَّروا ثقافة الدول الغربية في القرن العشرين هذه الطرق بعد.