بَيتُهُ
حريق
حاجة لله.
قلت لنفسي: تدَّعي بأنك تفكر بالحل الفردي، بينما كنتَ وما زلتَ تبحث عن حلٍّ فردي بحجم ذَاتِيَّتك لا أكثر.
اليد الحطبية تمتد، الوجه يصعق وجهي، فقر وَحْل، لكن لكي يحق ولو شيئًا من الحق أقول: في طفولتي لم أكن بأحسن منه حالًا، صديقي الصغير حمزة ولد الفلاتية، لا أعرف شيئًا عن أسرته غير أن والده توفي بالأمس، دائمًا بالأمس كان يقاسمني بقايا الخبز الذي يحصل عليه بِسُبُلِهِ الخاصة، وأقاسمه صيدي من «تسالي» وصمغ زريبة المحاصيل، سعداء كُنَّا في بالوعة فقرنا وَيُتمنا، لكنَّا لم نسأل الناس، ولو أنَّا سرقناهم ما أمكن، فكنَّا كمَن قال عنهم دستويفسكي: «مِن أولئك الذين خلقهم الخالق ثم نسيهم.»
ربنا يعطينا ويعطيك، ربنا يزوجك، ربنا يطيل عمرك، ربنا يعيدك لبيتك سالمًا.
قلتُ لها بجنون متشرد مأزوم: كذبت، كذبت، كذبت!
مكبِّر الصوت ينثر في فضاءاتي قرآنًا كريمًا، تخالطه جلبة الباعة الجائلين … توت … توووت … آيات المقرئ، سيارات البيجو والفيات تحلِّق حول دوران النافورة ناشرةً أجنحتها الغبارية، أتوبيس هيئة النيل للنقل، شحَّاذون يسألون حق صمتهم. كنتُ غريبًا في المقهى «غُربةَ الشيطان»، كما يحلو لأمي القول، صامتًا كنتُ، حزينًا ومعقَّدًا كمخيلة صوفي، قد أبدو مجنونًا لدى بعض العقلاء، وعاقلًا لدى كل الشحَّاذين، زحمة برأسي أيضًا، وضوضاء طاحونة من الصخب اليومي المتراكم، أمي عاملة المزارع الموسمية، فقر أختي، يُتمي، جموح امرأة جنيهات، امرأة لا أحبها أعطتني كثيرًا من عاطفتها وحرام حلمها، امرأة أجحها ناومت منها المستحيل ضوء القمر، وأشباح وأطياف تَسلَّلنَ من ظلها، أما الحياة فلم تعطني شيئًا أكثر مما تستحق، وهبتُها ما أمكن من العمر، ابتسمتُ في قبح أحزاني، ضحكتُ، أنا مفجوع، تراني عندما يطفئ النادِلُ فوانيسَه أحمل كتبي أتمعَّن المجهول جيدًا، كأنني أصيح في وجه الرب. «مبيت لله».
قد أبتسم وأنا أُمَاوت هذه الأفكار، مثل بقية الخلق، أبتسم لأنني تعلمت من أمي كُلَيْمات قديمات: «بكرة ينسيك دا كله.»
بِعْنَا فأسَه بكيلو من السمك الجاف «الكوركي» بسوق الشمس ما بين مستشفى المدينة الذي مات به والبنك الباركليز، بِعْنَا سراويلَه ما عدا تلك المزيقة التي كان يرتديها أثناء العمل؛ نعله، مقاييسه، بِعْنَا منشارَه الجديد — اشتراه قبل وفاته بثلاث سنوات — القدُّوم، أيضًا الفأرة، ما تبقَّى من أخشاب بالمنزل، أمي احتفظت بمقياس الزاوية الرخيص من أجلي؛ فغدًا أكبر وأصبح نجَّارًا ماهرًا مثله في كلِّ شيء إلا في شرب العرقي والمبيت خارج المنزل مع نساء فريق الخور أو السرة طليقة عبد الرحيم البوليس … طبيخ اللوبيا بالسمك الجاف يثير كل غرائز البؤس في نفسي، يثور بركان الغثيان ولا يهدأ، ولأن أمي — اسمها عائشة — تحبنا، ومن خلال مساحات فقرها الصفراء تعطينا ما أمكن؛ فلم أجد بُدًّا من حُبِّها حبًّا مقدَّسًا لا تحده حدود الأزمنة أو الأمكنة أو العوز.
حبوب الفاصوليا شِبه النيئة تتجمَّع حولها خيوطُ البامية الجافة وشرائح السمك، كنتُ وأختي — علوية — نلتقط قطعَ السمك الصغيرة اللذيذة الطعم متجنِّبين الفاصوليا، نسمِّي ذلك «لعبةَ الضيف». أحب أنا الملوخية المفروكة باللحم الجاف، لا باللوبيا البيضاء.
– حاجة لله.
– (…)
– ربنا يزوجك، ربنا يدخلك الجنة، ربنا … ربنا …
– حاجة لله.
– (…)
لا، لم تُعطِني الحياةُ شيئًا، حسنًا ابتسمتُ كعادتي وأنا أسمع البنت التي أحبها تقول في همس شاعري «ممقوت»: أنا أؤمن بالعاطفة، العاطفة المجردة، بالحب، بالحب كقيمة إنسانية سامية، لكن في مسألة الارتباط يجب أن نفكِّر في المستقبل، الإنسان لا بدَّ أن يخطط للمستقبل بجدية.
هدير محرك عربة الجنود، معاكستهم لفتاة تدَّعِي عدمَ الاهتمام ليس بمعاكسة الجنود فحسب، بل بكل تفاهات الوجود غير إيقاع كعبها العالي، قرآن مكبِّر الصوت الكريم … «خالدين فيها» كلمةٌ ضاعت في صخب الشارع «العظيم»، ودين أمي ما عنديش فكة … ما على المؤمنين … هل أنا أَوْضَعُ من أن أنالها … هتاف الجنود … الجنود في كل مكان، أنا لم أطلب أكثر من مواهبي؛ فتاة أحبها، فَلْتحبني، أما وطني فمنذ أن أنجبتني أمي — عائشة — رسمَتْه على صدري وأطلقتني صوبه كالقذيفة. عندما كبرتُ تعلمتُ، عرفتُ «أنك قد لا تجد وطنًا يحتويك، لكنك بلا شك تحتوي أوطانًا في ذاتك».
– أرجوك.
– «ما فيش».
– أبي ميت، أمي مريضة، أخي في السجن، وأنا جائعة!
صديقي الصغير مات أبوه بالأمس، دائمًا بالأمس، سرقنا أرغفة مطعم «الشعب» معًا، اقتسمنا شلنًا وجدناه بسوق الخضار، وعجورة كادت أن تفسد، ترادفنا على عجلة الأجرة الصغيرة، جلسنا عند باب السينما «الوطنية» نتصيَّد الأغاني الهندية وفرقعة المسدسات، سعدنا بتفاهات بائعة الفول السوداني والتسالي «فطومة كانت جميلة، خبيثة ولئيمة، ولا تُخفي حبها للصبيان»، وبقدر حبي للحياة نقمتها عليَّ.
القطة الحبلى السوداء تمسح بطنها الناعمة بساقي الجافة الملساء، تذكَّرتُ القطة السعرانة التي عضَّتْ أحد المؤتمرين الكبار، مندوب إحدى الشركات عابرة القومية، بقاعة محترمة، سحبت رجلي وأنا ألصق نظري وتفكيري بالبعيد، ما وراء البعيد، هل … هل … لأبي؟! أصحيح ما قاله المعري حين فاض به خريف التشاؤم: أهذا ما جناه عليَّ أبي؟
قافلة من السيارات الأمريكية الألمانية وبيجو فرنسا الشهير، تتقدَّم المرسيدس المزينة بأجمل ألوان الدنيا، اثنان من الموتوسيكلات، عاصفة من الأبواق: تيت تيت، تت تيت، تيت تيتي، تت تت تيت … قرآن مكبر الصوت الكريم تداخله زوبعة الطريق، المشاة، الباعة الجائلون، صفارة قطار «الثانية عشرة» … «حسنة لله يا بيه» … ابتسامة بائسة متكلفة … «قق، قق، قق شيشه» عاصفة في …
– عاوزة شلن.
– اسمك مين؟
– صباح.
– اسم والدك؟
– مات والدي مات، ليست لنا أرض، أمي مريضة، أخي مسجون وأنا جائعة.
أمي كانت تؤمن «بِغَدٍ»، إذًا أمي مستقبلية؛ لذا عندما نفدت سراويل أبي وعدة نجارته، علَّمتنا كيف نشارك النملة قُوتَها ونحن نتفحَّص واجهات البنوك المبهرجة العتيقة غير حاقدين ولا شامتين … فقط حالمين.
عندما عَرَفَتِ الفتاة — التي لا أحبها — أنني غريب، بكَتْ كثيرًا كعاصفة هوجاء.
– أنتَ لستَ من هنا؟!
غربتي لم تمنعني من النوم على حجرها، فهي على كلٍّ غريبة أيضًا؛ لأنها لم تجد نفسها إطلاقًا، غريبة بعمق، ثم احتفظتُ بضفيرة محرمة منها، عندما تساومني الطبيعة بمثل هذه الوخزات اللذيذة أرفضها — لأنني أدَّعِي الكفر بالحل الفردي — أكتئب مثل طفل مخطئ أجَّلَ والدُه عقابَه للمساء.
السائلة الصغيرة، جلاليبها المهترئة، وجهها المبرقع، القبيحة قبحًا متعمَّدًا كما لو كانت في حفلة تنكُّرية، المسكينة تحايُلًا وفعلًا، المقزِّزة، تلميذة الرب المزيفة، مَن يُبعِدها عني؟
غير الرب؟!
صديقي الصغير كان يناومهن تحت الكوبري المظلم خلف نادي التعليم، أو ما بين محطة القطار والورشة عند الجنينة المظلمة المفترَشة بالزيت الفاسد والجازولين، «يفترش الكرتون وجوالات الخيش الفارغة»، أما أنا فكنتُ أفكِّر فيهن كما يلي:
أختي «علوية» لها جلباب واحد من التيل المورد الرخيص اشتراه أبي لها، حينما أنجز حجرة نوم «أسامة» ابن المليونير «عبد الغني»، ذلك في عيد الأضحى قبل وفاته بعام واحد.
أختي «علوية» لها من العمر ثلاث عشرة سنة، امتلأ صدرها في ثورة أنثوية، استدارَتْ أطرافها، نَعُمَ صوتُها حتى أصبح مثل صوت خالتي «آمنة».
أختي «علوية» جاعت مثلي، بل أكثر؛ لأن بطنها الصغير كان لا يختزن غير قليل من السمك الجاف والفاصوليا؛ لذا فهي دائمة الشكوى من ألم الجوع.
أختي علوية تعرف تمامًا أنها تمتلك ما لا أمتلكه، ولو أنها تخاف من نار يوم القيامة … إلا أنها تحب الحياة، لا تتعجل الذهاب إلى الآخرة، فكيف تُقهِر جوعها المميت حتمًا؟!
لم تُعطِها الحياة شيئًا، وكأنَّ لها معنا ثارات الحسين بن علي — رضي الله عنهما.
رماد
أطفأ النادل فوانيسه.
أو غَنَّى بصوت قلق باهت، تثاءب.
الناس، كل الناس يمشون نحو بيوتهم في شوارع الله الفسيحة، نحو بيوتهم دائمًا.
أما الشاعر فيرهن قلمه، أوراقه، كتبه، كله؛ للنادل، ثم بكل هدوء وطمأنينة يموت وكأنه يهمس في وجه الرب: مبيت الله.