ابنته
حاج زكريا العجوز رجل محدد جدًّا، ومن الصعوبة أن يحب إنسانًا ما، أو يدخل في علاقة عابرة مع مَن كان من الناس، ود محمد يعرف ذلك جيدًا؛ لذا عندما خاطبه حاج زكريا قائلًا: غدًا الجمعة تغدى معنا!
قَبِل فورًا ودون مجاملة، وعلى الرغم من الفارق الطبقي إلا أن إحساسه بأنه أصبح من خاصة الخاصة، أدخل في نفسه عبقًا من البهجة وسرورًا عظيمين.
كان عاملًا بسيطًا في مستشفى الحياة، رجلًا فقيرًا، وبقدر فَقْرِهِ كان محترمًا ومحبوبًا من الجميع، ولو أنه أعظم من الخواجات وقد بهرهم بذكائه وعبقريته في جامعات أمريكا وبكين، ويعظمه القابلات العجائز والممرضات حين ينتفخن بالقول فخورات: لولا أن ستره الله لقتله الخواجات؛ فهم لا يحبون أن يتفوَّق عليهم أحدٌ إطلاقًا.
نحيفًا كان، رشيقًا كعود ثقاب، تعلو هامته صلعةٌ جميلةٌ ملساء، متواضعًا أنيقًا كجناح فراشة، رجلُ نقابةٍ نَشِط، ولكنه كما يقلن لسوء الحظ أو لحسنه (لدى الطبيبات والجميلات المقربات منه) عانس.
فرحوا بزيارته كما لم يفرح طفل بهدايا جدته، ولأنه حلو كلامه محب للطيب من القهوة، حكاوي الجدات، الخالات، والأخوة المتحفظين أيضًا، فكان كنبي الله الخضر في بيت أم موسى.
«هل تريه البنت؟ لا، لا، هذا أمر تافه، وقد لا تقبل أمها أيضًا؛ فهي حريصة على كتمان هذا السر، وهي أيضًا لا تحب أن ترى أحدًا.»
همس في أذن زوجته، فقالت ببرودتها المعتادة: دَعِ الرجل يحترمنا.
– إنه طبيب جرَّاح يفهم كلَّ شيء في هذا الشأن وربما ساعدنا.
– اترك البنت في حالها، أرجوك لا أحد غير الله في هذا الكون يستطيع أن يفعل من أجلها شيئًا.
ولأن حاج زكريا عندما يركبه جنون فكرة ينطلق بها إلى أبد منتهاها، وهو أيضًا أحب أن يرضي زوجته، ألحَّ عليها أن تقبل، وقبل أيضًا ابنه «ناصر»، فابتسم في وجه الدكتور الذي كان غارقًا حتى شعر رأسه في حكاية للجدة فاطمة بنت الوكيل، خرفة، قال: هل أريك ابنتي منى!
– أَلَكَ ابنة؟ قال محاولًا أن يندهش: أَلَك ابنة أخرى غير أمل، سعادة، زهرة؟!
قال حاج زكريا، وكأنه يريد أن يؤكِّد لنفسه هو أيضًا أن له بنتًا تُسمَّى منى: منى، نعم منى. منى، تعال لتراها.
وفي قلق وانفعال سحب دكتور محمد فتحي من يده منتزعًا إياه من خرافات الجدة إلى خرافاته هو الخاصة.
إطلاقًا لم يَرَ في حياته أجمل من هذا الوجه. غير وطنه، رأى وطنين، ففي بكين الأوجه مستديرة ناعمة كلحن فلوت منفرد في ليلة مقمرة، عليها عيون حادة، ذكية ضيقة مختصرة مشحونة بسحر أنوثة عريقة القِدم، دافئة كشط حلم صيفي، فمُنَى خلاصة هذا السحر الكونفوشيوسي.
– إنها وُلِدت هكذا منذ عشرين عامًا.
جذبت الملاءة لتغطي أحزانها، ثم أخذت تبكي بعصبية تحت الغطاء بكاء حامضًا، ثم انفجرت: اتركوني وحدي.
«لا، لا» في عمقه صرخ د. محمد عندما لاحقته صورتها الجميلة المفزعة في نفس الآن، الغيث والصاعقة، «لا، لا»، كان يحاوِل أن يخلق توازنًا نفسيًّا، لم يستطع هذا العقل الجرَّاح الصمودَ أمام مسألة الوجود أو لعبته البسيطة جدًّا.
-
صورة للعجيزة الضخمة نائمة في نهر أنوثتها أمام الوجه الجميل، وهما يتناجيان في حوار خلقي صامت.
-
صورة أمامية أو خلفية للبطن وهما يتناجيان في حوار خلقي صامت.
-
صورة أمامية أو خلفية للبطن في لقائه الغامض بالخصر وملتقى الفخذين، وهما يطلان على الجزء الخلفي من الجمجمة، وربما كان هذا الجزء الأكثر قبحًا وألمًا.
-
وصورة للوجه المبدع بموسيقاه السريالية المجنونة وفضاءات الأسئلة الكامنة فيه، فاكتناز الشفاه يحاور نجل المقلتين الحزينتين، وكما ينفرد النأي بتعبيره العاطفي في لوحة الحب، كان الأنف يشكِّل تواصله غير المتناهي في عبثية القبح، الجمال، الوجود والعدم، ثم دقَّقَ ما أمكن لكي يبرز مسحة الحزن الباهتة التي تنام بين ثنيات تفاصيل وجهها الملائكي، محتضنة الأسئلة الكبرى المقعية ما بين الجفن والرمش والتجاعيد الناعمة والناعسة في زوايا مقلتَيْها.
داوَمَ دكتور محمد فتحي على التواصل إلى أن اعتادت عليه وكأنه أحد أفراد الأسرة، كثيرًا من وقت زيارته كان يقضيه في حجرتها، ولو أنه قد بدأ بأخذ عينات دم وخلايا ومخرجات لإجراء الفحوصات المعملية عليها، إلا أنه اكتشف مجالًا آخَر في ذات «منى»، وأخذ يسبر غوره بكل دقة، صبر وأناة، وكان هذا المجال هو البُعْد النفسي فيها كإنسان، البُعْد الألفوي، فكانت نادرًا ما تتحدَّث معه بعيدًا عن دائرة أسئلته الطبية.
– أتحسين بألم في هذا المفصل؟
– أحيانًا … لا … سابقًا. أو تهزُّ رأسها سلبًا أو إيجابًا.
ولكنه عندما أخذ يحدِّثها عن نفسه، معاناته اليومية، مآسي مرضاه وموتهم في كثير من الأحايين؛ لعدم توافر العلاج، ولشحِّ إمكانيات المستشفى من معدات لِغُرف عمليات إلى أبسط العقاقير، وعن مآسي العالم خارج هواء حجرتها، ثم أخذ يقرأ لها بعضَ الروايات العالمية مثل: غادة الكامليا، أو الرجل الضاحك أحدب نوتردام، آنا كارنينا، أو حتى فتاة من روما، أخذت تتجاوب معه أكثر وأكثر، ثم انفجرت تروي ما حفظته من حكاوٍ عن جدتها بنت الوكيل وأمها، ثم تحدثت ولأول مرة في حياتها عن نفسها، حرمانها، تصوُّرها للحياة الطبيعية خارج هواء حجرتها، شوارع الله الفسيحة، مُدنه، أسواقه، المستشفيات، السينما، المدارس، إلى أبسط تفاهات أحاسيسها: كم أشتهي أن أرى حمارًا، فلقد سمعتُ صوتَه كثيرًا، لا بدَّ أن تكون له رأس ضخمة، أكبر من قُلة المياه.
عشرين عامًا قعيدة ذات الأمكنة، ولأنها تعاني مشقة بالغة عند المشي؛ فإنها تظل أيامًا رقيدة مضجعها، تحلم بالأمكنة الشاسعة الرحبة الخضراء، حيث الهواء، «الحرية»، الناس والحيوانات المرحة الجميلة، وفي منتصف بعض الليالي القمراء، وعندما يهدأ الليل، البشر، العالم كله ينام في ثباته العميق، تصحبها أمها في جولة صعبة مؤلمة في فناء الدار، وقد لا تستمر هذه الجولة أكثر من ربع الساعة لتعودَا وهما مليئتان بالأسى ولعنة الحظ والميلاد إلى آخِر الحزن والمأساة.
– أرجو أن تقبلوا هذا التلفاز هدية مني، من أجل «مُنى».
وهكذا كان لها أفق جديد ومساحة للضوء صغيرة، ولكنها عميقة وبعيدة الأثر في نفسها ووعيها، كان عالم خيالاتها بحرًا، وهذا بحر آخَر.
ولكن كانت المفاجأة الكبرى المجنونة عندما جالَسَ د. محمد حاج زكريا بعد يومٍ شاق قضاه في المستشفى بين المرضى وجرحى المظاهرات وأعضاء نقابة الأطباء في اجتماعهم الطارئ، وسافَرَا في بحور الكلام شرقًا وغربًا، ثم انفجر د. محمد قائلًا: بصراحة يا حاج زكريا أنا أريد أن أناسبك.
– خير يا بني، ولكن «أمل» صغيرة، و«سعادة» مخطوبة لابن خالتها، وزهرة ستُزَفُّ في عيد الفطر القادم لابن عمتها «مجاهد».
– إنني … إنني أطلب يد ابنتك «منى».
بلا شك اعتبره الأب مجنونًا أو في غير وعيه، أو أنه ظنَّ نفسه يحلم حلمًا ملائكيًّا سعيدًا، ولو أنه لا يخلو من الكوابيس الشيطانية.
– لا إنها ليست بنتًا، ولن أزوِّجَها لأحد؛ فهي خليقة مشوَّهة ولا تصلح للزواج.
– ولكني أريدها كما هي؟! فلقد أحببتُها، إنني اكتشفتها كإنسان بعيدًا …
قال منفعلًا مقاطعًا: لا، ليست لي بنت تُسمَّى منى، لا أريد فضائح، يمكنك أن تتزوَّج مَن تشاء من النساء، فأنت رجل مرغوب ونادر، بل يمكنني أن أزوِّجك أمل، ولكن منى لا، إطلاقًا.
– حرام عليك، فهي إنسانة كاملة، فقط …
– لا.
– راجع نفسك؛ لأنه لا مجال أمامي لمراجعة نفسي؛ لأن … لأن منى حبلى الآن؟!
أسرة الحاج زكريا من الأسر العريقة القديمة بالمدينة والغريبة أيضًا، وكان الناس دائمًا تنظر إليها كأسرة غامضة لها خصوصيتها التي لم يجرؤ أحد من الجيران، المعارف أو الأصدقاء على اختراقها أو محاولة الاقتراب منها أكثر مما تشاء الأسرة، وكأنهم لا يريدون أن يدنس أحدٌ حرمةَ عالَمِهم الخاص، فكانوا لا يوسدون صدور فتياتهم غير رءوس أبناء العمومة والخئولة والإخوة، ولا يعشق أبناؤهم غيرهن، فكانوا مثل أشجار السرو تنمو رأسيًّا كافرة بحكمة الدوم والصبار، كما أن أصدقاءهم محدودون ومحدَّدون، ولا مجالَ أمامهم لكسر أطواق محدوديتهم.
لم يَدْعُ أحدًا لحفل الزفاف، بل لم يكن هنالك حفل، ربما غمٌّ صغير مرَّ في رشاقة وتوارَى خلف الأيام، لُفَّتِ الفتاة في ملاءة وأُودِعت العربة لينطلق بها الدكتور نحو بيتٍ قصي اتفق عليه قبل الزواج، وأُتبِعت بأختها الصغيرة «أمل» لخدمتها.
سعيدة منى في ذلك اليوم وأجمل مما كانت في أي وقت مضى.
«ماذا لدي لكي أقدِّمه له، إنني لا أستطيع مجرد خدمته، فهل سيظل مكتفيًا برؤيتي راقدة على السرير أتعلم القراءة والكتابة، أشاهد الفيديو والتلفاز؟! وإنني لا أستطيع أن أغني، أو أقرأ له … دمية … دمية … ليتني ما زلت هنالك بين جدران أبي، نائمة ليل نهار بغير مسئوليات تجاه أيٍّ كان، عاطلة أصارع بؤسي ومحنتي.»
– اغفري لي، لقد جنيت في حقك مرة.
– هل حدث ذلك؟ معقول، لا أذكر إطلاقًا!
– بل حدث، فلقد قلت لوالدك، لكي يرضى بزواجي منك، إنك حبلى.
– معقول، ولكن … ولكن …
– لا، لقد أخبرته بالأمس بكل شيء ولو أنه غضب مني، ولكنه سامحني وربما احترمني أكثر.
– ولكن ماذا لو كان قد فاجأني بذلك؟
– أنا أعرف أنه لا يفعل، فلقد عاشرتُه سنواتٍ طوالًا، وأنا أعرفه أكثر من نفسي.
كثيرًا ما كانا يقضيان الليل متجولين عبر الشوارع الفسيحة الفارغة إلا من عسكر الدورية وبعض المجندين الرسميين، السهرانين في أمكنة المدينة الشتَّى والمتشردين، «هذا شارع صلاح الدين الأيوبي الذي يتفرع منه شارع الثورة، حيث يفضي إلى مستشفى الحياة الجامعي، الذي أعمل به ويعمل والدك به أيضًا، كل هذه المباني المبنية من الخيش والصفيح والكرتون يسكنها النازحون الفقراء. تلك هي سلخانة المدينة، والمبنى الضخم ذو الجدران الحجرية العالية الذي يقبع خلفها هو «السجن الكبير»، أما تلك فهي المقابر. الساعة الآن العاشرة، تبقى من زمن حظر التجوال ساعة واحدة، هل نتمشى قليلًا على كُبري الحرية؟!»
– ماذا لو رآنا أحدهم؟!
– أحرام أن يتمشى رجل وحبيبته، أو يجلسان على شاطئ؟
قالت وقد خنقتها عَبْرة عابرة: أنت رجل عظيم يا محمد، أنا أحبك. (نطقَتِ الجملةَ الأخيرة بصعوبة وجهد.)
– أنتِ متأكدة؟! أما أنا فأحببتُكِ منذ أن عرفتُ كيف أراك.
– فَلْنَعُدْ إلى المنزل. قالت بقلق، وهي تلوي عنقها لكي تنظر إليه نظرة مستقيمة فاعلة.
كان البيت بعيدًا جدًّا، والشوارع الفسيحة يتمطى فيها الأسفلت الأسود البارد ليؤجل عن قصد وصول السيارة بزمن يعادل لهفتها إلى احتضان عبق البيت.
قالوا لها إنها محنة ابتلاك الله بها، وسيأجرك عليها ما صبرت. ولكنه قال إنها عملية تفاعُل الجينات تفاعُلًا كيمائيًّا أو فيزيائيًّا، مما أدَّى إلى ظهور كثير من الصفات المتنحية أو صفة جديدة، وقد يكون للتزواج بين الأقارب منذ مئات السنين أثر … و…
«فكيف» يكون خلقًا مختلفًا فقط كما يقول؟! وإذا كان الأمر كذلك، لماذا يهرب مني؟ لا بدَّ … لا بدَّ …
قال: أنت تبكين؟!
مسحت دموعها بكبرياء وهي تتوكَّأ على كتفه وهما يَلِجَان للداخل.
لم تندهش «أمل» الصغيرة لما طلبته منها، ولكنها أنجزته بجدية وإخلاص، فحفرت في المطبخ وسع دائرة صحف الطعام في عمق ذراع أو أكثر بقليل وبما زوَّدتها أمها من حطب الطلح والشاف ذي الرائحة العطرة، أشعلت الحفرة ثم حجبت عنها الهواء إلى أن انطفأ لهب الطلح أو استحال إلى سحب من الدخان الرمادي الباهت، لفَّت أختها ببطانية الصوف الخشنة الرمادية العسكرية بعد أن أجلستها عارية على فوهة حفرة الدخان، ودلكت بشرتها الملساء الناعمة بزيت السمسم المختلط بعطر الكركار الزيتي والدلكة، كانت تعرف كلَّ ما يدور برأس أختها «منى».
إنها تريد أن تصبح امرأة، امرأة كغيرها من النساء، ولكنها لا تعرف أن «منى» تريد أن تؤكِّد شيئًا واحدًا، شيئًا ملحًّا إلحاحًا مرًّا، وهو أنها إنسانة عادية، فقط بخلق مختلف، «خلق لم نَعْتَدْ عليه».
أما دكتور محمد فإنه أصيب برجفة خفيفة، ولكنها نابعة من عمق الموقف والأسئلة الملحة، ولها بُعْدها الإنساني، وضَعَ المجلةَ جانبًا، ونظر إليها مشدوهًا وكأنه يراها لأول مرة.
– منى؟!
– هل هنالك شيء غريب؟!
أودعتها «أمل» السرير وانسحبت بسرعة إلى حجرتها، حيث أخفَتْ وجهها تحت المخدة وغرقت في عاصفة من الدموع والنحيب.
لا شك أنها امرأة، بل نهر من الأنوثة والجمال الصوفي لا نهائي التدفق، وكانت تحرك فيه كل خبائث رجولته، ولكنها بين يديه كالمتاهة المعقدة في يد طفل نعس.
من أين يبدأ الولوج؟!
أيُّ السبل تقود إلى فك العقدة؟!
بقدر ما كانت «منى» امرأة ممكنة، كانت جسدًا مستحيلًا.
الصدر في مكان الظهر أو العكس، ثدياها المنتصبان، ثديا فينوس تواجه العجيزة الضخمة، والصدر وخلفية الرأس والظهر يشكِّلون متاهةَ التشوُّه مع ملتقى الساقين، وقد فكَّرَ كطبيب لبعض الوقت …
– هل يمكن الحبل بسلامة؟! إنَّ وضْعَ الحوضِ المعكوس سيؤدي إلى وفاتها أثناء الحبل أو الولادة.
ولكنه في الحقيقة له أسباب أخرى إنسانية تخص الآلام، ونفسية معقدة ما باستطاعته سبر غورها.
إلا أنها الآن تفاجئه برغبتها المجنونة.
– «إذا كان لا يرغبني كامرأة، أفضِّل الموت على البقاء في هذا المكان، إنه إحسان قاتل.»
قالت له: لنا عامان منذ أن تزوَّجنا!
قالت لها أمها: أَلَا تنجبان؟!
قال لمنى: لا تقلقي، الأمور ستصير على ما يرام، قريبًا، قريبًا جدًّا.
قالت لأمها: إنني أستخدم موانع الحبل.
قالت له: إذًا، لماذا تزوَّجتني؟! هل تشفق عليَّ؟!
قالت لها: طفلة ستسعدك، وتسر بالك، وتغيِّر حياتك تمامًا، وسيحبك أكثر، ولن يغضب منك، فلا تستخدمي شيئًا.
قال لها: لا تقلقي من أجلي.
– ولكن من أجلي أنا، أنا أيضًا، أليس … أليس …
«أمل» تعرف أنهما منفصلان ولا علاقة جسدية بينهما، ولو أن منى تحاول أن تُفهِمها عكس ذلك.
ليلة مشبعة بدم الحزن والخوف، عميقة بغير غرار، كل شيء كان مستحيلًا، حتى اللغة تباعدت حروفها، وانفرط عقد الكلام، ولأنها كانت ترغب بشدة أن تكون امرأة عادية كغيرها من النساء فقط بخلق مختلف؛ استطاعت أن تنجح في إجراء حوار حسي ذكي معه، واستخدمت إمكانيات جسدها المبعثرة على طول المسافة المستحيلة ما بين أخمص قدمها إلى خصلة شعرها؛ لتقنعه في نهاية الأمر بأن الطريق التي اختارها، هي الطريق نفسها التي يمشيها الآن، وأنه لا أحدَ آخَر غيره هو.
ولأن خدمة المنزل فوق طاقة «أمل» الصغيرة، استأجر دكتور محمد اثنين من النازحين الفقراء، صبية في السادسة عشرة من عمرها؛ أي في عمر أمل، وأخ يكبرها بعام ونصف العام؛ ليقوما بنظافة المنزل وترتيب وتشذيب حديقته، التسوق والأمور البيتية الأخرى، وتفرَّغت أمل لمدرستها، ووَضْع الطعام، وأمور أختها الخاصة جدًّا.
ولكن ثورة «منى» شملت كل شيء بدءًا من عاداتها الخاصة في التجوال والقراءة ومشاهدة الفيديو والإطعام، إلى آخِر علاقاتها الزوجية، وشملت أيضًا وَضْعَ الطفلين الفقيرين وخاصة البنت «محاسن»، فإن منى تريد أن تشارك مشاركة فعالة في ساقية الحياة بالبيت؛ لذا قرَّرت أن تقوم ببعض الأعمال المنزلية، بالرغم من العناء البالغ الذي تلاقيه من جرَّاء القيام بأقل مجهود يتطلَّب حركةً عضلية ولو بسيطة وسهلة، إلا أنها كانت تصرُّ على العمل، الحركة والحياة وبشدة؛ لذا فاجأت الصغيرة محاسن في تلك الأمسية: غدًا لا تحضري.
– لماذا يا ستي؟ هل أنا أخطأت في شيء؟
– لا، ولكني أستطيع القيام بكل ما تقومين به؛ غسل الملابس، كيها، كنس الحوش، نظافة المرحاض … وكل شيء.
– ولكني … ولكني … أين أعمل، والعيد قريب؟!
– سأشتري لك ملابس العيد، وأعطيك أجر الشهر إلى أن تجدي عملًا آخَر، فقط آتي إلينا في الشهر مرتين.
قالت الصبية بطيبة قلب: ولكنك مريضة ولا …
فقاطعَتْها في ثورة وَكَمَن فقدت رشدَها فجأةً: اسكتي يا بنت يا قليلة الأدب، أنا لست مريضة، أنا قوية، هيا اغربي عن وجهي!
كان الجلباب المتسع الذي ترتديه يعوق حركتها، ولكنها تفضله؛ لأنه يخفي تفاصيل جسدها، فتتعثر وهي تُعمِل المكنسة على الأرض الرملية الرطبة، أو تسقط على وجهها فجأةً وهي تحاول أن تنتزع عُشبة برية تطفَّلت على أزهار الحديقة. وهكذا، صراع مرير مع مفردات الواقع، وإذا ما حاولت «أمل» أن تريحها شفقةً عليها، انتهرتها بصرامةٍ: إنه بيتي وزوجي، وأنا امرأة البيت؟!
في نهاية الشهر انتظرت نقاط الدم الداكنة كالعادة، ولكنها شكَّلت غيابًا تامًّا، وفي الأسبوع الأول من الشهر الجديد، اقتنعت يقينًا بأنها ستنجب قريبًا، بعد ثمانية أشهر ويومين، طفلةً جميلة ستسميها «سارة محمد فتحي».
وستلعب معها في الحديقة وعند شاطئ النيل بين أشجار الحراز والمانجو، وستزرعان معًا أزهارَ الياسمين والفل والورد البلدي، وستكتب اسمها على سوق التين الشوكي، وتُعلِّمها القراءة والكتابة والموسيقى قبل أن تدخل المدرسة، ولن تتركها تلعب مع أطفال الشارع؛ حتى لا تفسد أو تُؤذَى، وكما غنَّت لها أمها وهي في المهد، ستغني لها:
وستحفظ من أجلها عشرات الأغاني الأخرى الجميلة من أمها وجدتها.
وعندما تكبر سارة لن تزوِّجها إلا لزوج يقبل أن يعيش معها في المنزل، ويجب ألَّا يكون من أبناء الخئولة أو العمومة، ولكن مهندسًا أو طبيبًا أو مديرًا غريبًا عن الأسرة، وحتى لا تكون سارة مشوَّهة مثلها، أو عادية بخلق مختلف، ولكنها متناسقة كوالدها، جميلة الوجه مثلها، وسيتخانق عليها العشَّاق والخطَّاب وهم يتدافعون عند بابها، ولكن بشروطها هي الخاصة.
قال منزعجًا: سارة … سارة … مَن سارة؟!
فلَوَتْ ذراعها إلى الخلف مشيرةً إلى بطنها: إنها هنا؟
وقف على رجليه وحملق في عينَيْها بخوف: إذًا حدث ما كنتُ أخشاه.
قالت والدتها وهي تقبِّلها بحماس: مبروك، مبروك يا بنتي، ومنذ الليلة اعملي حسابك وابقي عشرة على نفسك.
قال بجدية بالغة: أخطر شيء في حياتك هو الحبل.
قالت لأمل: ستكون عيناها متسعتَيْن كالفضاء، شعرها أسود كالليل، وفمها أعزب من النيل.
قال لوالدها: أرجو أن تقنعها بأن تجهض حبلها، إنه خطر عليها.
قالت له: لن أفعل وَسَأَلِدُ بسهولة، ولن أقتل طفلتي سارة.
قالت والدتها: كانت دميتك وأنت صغيرة اسمها أيضًا سارة.
قال وبه من الحزن ما به: حياتك أهم من أيِّ طفل ستنجبينه.
قالت بعنادٍ: أنا معافاة … ولن يصيبني سوء، أنا لست مريضة، ويمكنني أن أتجول في الشوارع، وأنجب كما تنجب النساء.
قال أستاذ الجراحة بالمستشفى الجامعي: وضع الرحم معكوس؛ أي وضعه عكس وضع الحوض الطبيعي، وبالتالي تستحيل الولادة الطبيعية، وبنفس القدر تستحيل الولادة القيصرية؛ لأن موقع الظهر غير الطبيعي المشوَّه جعل الرحم في موضع ملاصِق للظهر ولا يمكن الوصول إليه إلا بتفريغ الأحشاء، أو إجراء العملية عن طريق فتح الظهر، وهذا مستحيل لوجود النخاع الشوكي.
إذًا أمامها فرصة واحدة.
ولكنها ترفض بشدة.
عادت «محاسن» للبيت وانضمت لفريق العمل بعدما أقنعت «منى» نفسها بأن تتفرغ لأجل طفلتها القادمة، فكانت تقضى جُلَّ وقتها في حياكة ملابسها الصغيرة، وصُنْع سرير المرجيحة من السعف، وتجهيز العطور وغيرها من ضرورات النفاس، كانت تحس في قَرارة نفسها أنها في الطريق الصحيح، وأن المخاطر التي يتحدثون عنها لا وجودَ لها إلا في أذهان الأطباء وعاطفة والدها، ولأنها كانت تخشى أن تُدسَّ لها بعض العقاقير في الطعام أو الشراب لكي تُجهِض حبلها؛ فكانت تصنع طعامها الخاص بيدَيْها، ولو أنها أجبرت أختها أمل على أن تقسم على المصحف بأنها لن تفعل شيئًا يُفقِدها «سارتها».
في ذلك الشهر، كان إضراب الأطباء عن العمل احتجاجًا على عدم توافر الأدوية ومعدات العمليات والفحص والتشخيص، بالإضافة إلى ممارسات جهاز الأمن والاحتياطي المركزي وقوات الشرطة العنيفة ضد طلاب المدارس والجامعات في شوارع المدينة طلبًا للخبز والديمقراطية ورفع حالة حظر التجوال والطوارئ، وقد فشل الإضراب، واعتُقِل دكتور محمد فتحي لدوره في تنظيمه ومشاركته الفعَّالة في تنفيذه، ولم يُطلَق سراحه إلا بعد ستة أشهر؛ أي في الشهر الثامن لحبل «منى».
ففي تلك الأيام العصيبة كانت «منى» تعاني آلامَ المخاض.
في الوقت الذي كانت «منى» في أوج سعادتها تسبح في عبق الفرحة المنتظرة، كانت أسرتها جميعًا في عمق القلق ونار الترقُّب ينتظرون، أما الدكتور محمد فكان متفردًا في حزنه نسبةً إلى إيمانه المطلق بأن منى لا محالةَ ذاهبة إلى حيث لا رجعة. ولأنها كانت تعني له الكثير؛ كان حزينًا لأجلها: «هذه المرأة أول مَن أحببتُ، والأخيرة أيضًا.»
– أحسُّ بحزنك، ولكني سأفاجئك وألِدُ ابنتي في سلام تام، فماذا تقول؟ ألَمْ تقل لي من قبلُ إني عادية وطبيعية فقط في خلق مختلف؟! فها أنا أؤمن بقولك، وإذا بك تكفر بما تقول؟!
– لا تدريب كما الآخَر يختلف في حالة الحبل والولادة.
– لا، لا يختلف أنا أحسُّ بذلك.
ولكن تدريجيًّا تلاشت شجاعتها، وكلما اقتربت من زمن الوضع، كبرت مخاوفها وتبدَّدَ يقينها، وكفرت هي الأخرى بمعرفتها.
– هل سألد بسلام؟!
– بالتأكيد، فلقد كانت مخاوفنا كاذبة، فقط هدِّئي من روعك وكوني طبيعية، وبعد ساعات سترين «سارة».
كان الجو غائمًا، الرياح الجنوبية تبشِّر بالأمطار.
وهتاف الطلاب والعمَّال والنسوة ينبثق من عمق الأمكنة السحيق محمَّلًا بفرقعة غدارات العسكر وصراخ الجرحى، أما رائحة البمبان الحارقة فتتسلق متين الريح لتغمر كلَّ فجٍّ بشرورها، فتدمع المُقل الحزينة ويختنق الأطفال.
و«سارة» في العمق المشوَّه والجسد الجميل سجينة لا تجد منفذًا تعانق به نور الشمس. الحوض معكوس، والظهر لا يمكن شقه، ما بين الرحم وسطح البطن أحشاء، كل شيء كان مستحيلًا، مُغلَقًا وقاتمًا.
قال البروفسور: يجب أن ننقذ إحداهن!
وفهم الجميع معنى هذا القول، حيث لا خيار، أما «منى» فقد اختارت سبيلَها التي سلكت، وأفسحت المجال واسعًا من أجل «سارة».
قام فريق الجراحة بإجراء عملية قيصرية عنيفة، بعدها استطاعت «سارة» أن تعانِق الرياح الخريفية المحمَّلة بهتاف الطلاب، العمال، المزارعين، النساء، الأطفال، أجراس الكنائس، صياح الديكة، تراتيل الآذان … وأن تصرخ ما أمكن صرخةً تجاوب هزيم العاصفة القادمة لا محالة، الكامنة في جوف سحابات الغد الحبلى.
فَصَل د. محمد الجسدَ إلى ثلاثة أجزاء، أعاد وضعه في شكل متناسق صحيح ومتناغم، تنفَّسَتْ «منى» الصعداء، وحبلت في لا نهائية وجودها بعشرات الأطفال العاديين الطبيعيين، ولكنهم كانوا دائمًا في خلق مختلف، خلق أبقى!