سيرته الذاتية
(أ)
الشارع التُّرابي العام يمر بعيدًا عن الحي متجنبًا الغوص في متاهاته، وكأنه عافَ عفونة أزقته ومواء أطفاله. من هذا الشارع العام تتفرَّع أشرطةٌ من أَزِقَّة ضيقة تذوب تدريجيًّا بين البيوت المتلاصقة الصغيرة المبنية من قصب الذرة الرفيعة والطين اللَّبِن، مطلية بروث الماشية والحمير، وعلى أطراف الأَزِقَّة تحت أحواش القصب الرطبة يتقنطر بُراز الأطفال رماديًّا أو أسود يابسًا، عليه جيوش من ذباب الخريف الأخضر الضخم ذي الأرجل الخشنة، طنينه قد يُفزِع بعضَ المارة.
أما المرحاض العام، زريبة المواشي، دكان اليماني صالح، وبالوعة مياه الجبنة العَفِنة تقع في ملتقى الأَزِقَّة وسطَ الحي.
ماسورة المياه المتعطلة تصنع نهرًا طينيًّا يشق صدر الزقاق الضيق المفضي إلى الخور الكبير، يبني على ضفَّتَيْه الأطفالُ الرماديون ذوو الأنوف المتسخة والجلاليب المهترئة (مؤخراتهم الغبشاء عارٍ نصفها خلال مزق سراويل الدمور القديمة تعانق عفن الأمكنة) خزاناتٍ من الطين المختلط بالطحالب الخضراء، عفن الخبز وبيض الضفادع اللَّزِج، ويشكِّلون جِمالًا، حميرًا، وجرَّاراتٍ صغيرة، وبعض التفاهات التي تشبه عيونهم الجميلة المقذية.
يَشتِمون بعضهم البعض بألفاظ هشة مصنعة في الغالب من أطيان نهيرهم وخراء أزقتهم المتخمِّر تحت شمس الخريف الدافئة.
الناس كالأشباح ينسلون من ثنايا صمت الأزقة الرطبة، يحتضنون صخبَ أشعة الشمس، في بطونهم لا شيء. مباني المدرسة التي ستكتمل بمشيئة الأزمنة القادمة تقبع كالموتى، ما بين ميدان كرة القدم والجمعية التعاونية القديمة؛ أي في بداية شارع الماسورة. بعض المباني غير المكتملة، وفي داخلها ترقد جثث القطط والكلاب وغيرها من الحيوانات النافقة أو التي اغتالها أطفال الحي الذين ليس لديهم ما يشغلهم طوال اليوم.
هنا وُلِدَ، في هذا المكان.
(ب)
الشرطي الوسيم ذو الهراوة الكهربائية الجميلة التي يُسمَع لها خشيش مرح حينما تلتحم بجسد فارٍّ أمامها، غاضب هذا الجندي غضبًا لا مبرر له إلا الحفاظ على المظهر العام، قُرْبَه تقف عربة الفورد المصفَّحة السريعة «بأريلها» المرسل في أحشاء الهواء الساكن، على بُعْد مترين منه يقف الجندي الآخَر الغاضب — أيضًا — القبيح، وعلى بُعْد مترين يقف جندي آخَر سمين له كرش متفيِّلة ووجه كحلي مُلصَقة عليه عينان صغيرتان لا لونَ لهما في الغالب، الجميع أمام مبنًى من ثلاثة طوابق وحديقة صغيرة مختصرة، ثلاثة كلاب متشابهة سوداء تتجوَّل في فناء الحديقة، تتبوَّل بانتظام على حجر أملس كان نصبًا تذكاريًّا في الأزمنة الماضية لشيء ما، أو شخص ما. الحجر أبيض فيما عدا خرائط البول الصفراء التي صنعَتْها الكلاب عليه.
المكان هادئ، وبين وقت وآخَر يخرج رجل متأنق نظيف معبق بعطر مثير، وقد يخرج أكثر من شخص من هذه العيِّنة ويدخل آخَرون، ولكن فجأةً قد تسمع أصواتَ محرِّكِ عربة فورد تقف عند الباب الخلفي للمبنى، وإذا استرق الإنسان السمع، أو الكلاب الثلاثة ورجال الشرطة، يمكنهم سماع صرخات مكتومة وأنَّات باردة تُسرَق من عمق هدوء المبنى.
هنا مات، في هذا المكان.