شوفه
احتياطي مركزي، أمن الدولة، بوليس المطافئ، جند القوات المسلحة، مخبرون سريون، المباحث الجنائية، الهجانة، الشرطة العسكرية، جند خاص مختبئةٌ أعينُهم خلف نظارات معتمة، فرقعة السياط، كعكعة العصي، تفتفة البصاق المدمى «أي أية» الغرباء وصرخاتهم العميقة المتبعة.
– يا زول اعمل حسابك.
«عملت حسابي»، في الريح أيضًا عملت ساقيَّ، أطلقتهما، وانطلق خلفي كلب بوليسي أغبش ضخم، خلفه انطلق سيده وسيدي الشرطي.
في حقيقة الأمر، كنتُ خائفًا من الشرطي أكثر مما أنا خائف من كلبه؛ «لون الكلب أغبش.
لوني لون التراب.
عيناه حمراوان ضيقتان، عيناي …
بنباحِهِ بَحةٌ خفيفة، بصوتي أيضًا بَحة، لن يطلق النارَ عليَّ.»
شوارع الخرطوم مليئة بالمارة، لكنه سينسؤني بهراوته الغليظة على أم رأسي، أصرخ، ثم ينسؤني فأصرخ أتأوَّه، ينسؤني، أسقط مغشيًّا عليَّ، يركلني على بطني بمقدمة «بوته الحديدية»، ولأنني مصاب «بفتق» في سرتي لي أسبوعان فقط منذ أن غادرْتُ المستشفى للمرة الثانية في نفس الشهر؛ فإنني — حتمًا — سأموت.
– اصح يا عبد الله المدعو موسى.
– مَن أنتما؟
– أنا «منكر» عبد الله خلقني من الأسئلة.
– أنا «نكير» عبد الله خلقني من الأسئلة.
– ماذا تريدان؟
– نسألك ما لك وما عليك …
– ما كسبت يداك.
– لماذا تهرب من الشرطة، الاستخبارات العسكرية، الاحتياطي المركزي، الكلاب المعاونة إلى آخِره إلى آخِره؟
– هل أعتبر أن هذه محاكمة؟
– نحن نسأل فقط.
لو تأكدتُ أن الشرطي — جماعته من العسكريين والأمنيين والكلاب — لن يؤذيني، ضربًا بهراوته، ثم رفسًا برجله في بطني فاتقًا بذلك «عمليتي الجراحية»؛ لاستسلمت له.
– سَجِّل أنه مبرراتي.
– لقد أرهقتَ الكلب المعاون.
كان هريره مُفزِعًا، وبحته مخيفة ثقيلة على قلبي، وأنا رجل نحيل بسيط مسالِم، لهاث أنفاسه تحت رجلي يقلقني، الناس يفسحون لنا الطرق صارخين:
– ووب علينا.
– سجمنا.
– يا سيدنا الحسين.
– بري.
– يا أخينا.
– يا هو، يا هو، يا هو.
– ود الكلب.
– ده ساكينو وين؟
– الكشة، الكشة، ووويهو.
«لا إله … سوى البندقية.»
لمَن الويل، لمن الشقاوة؟
لمَن المخاصمات؟
لمَن الكرب؟ لمَن الجروح بلا سبب؟
أنا لا أشرب الخمر.
ولم تنظر عيناي للأجنبيات، وما نطق قلبي بأمور ملتوية.
تخطَّينا بنك فيصل، بائع حجارة البطارية، أستوديو كاسيت المدينة، طاردتنا لحظةً بعضُ ألحان رخيصة. تخطَّينا فندق صحاري — صديقي عطا المنان يعمل نادلًا به — نادي البورصة الدولي، صف المواطنين عند شباك مكتب الجنسية، الجوازات والهجرة، تقلَّصَ الصف فجأةً إلى أن صار رجلًا واحدًا أو أقل قليلًا، فلقد كنتُ مسرعًا ودائخًا لم أستطع أن أتأكَّد. تخطَّينا مدينة الخرطوم العتيقة وأمكنةً محترمة شتَّى.
كانت دربًا ضيقة رطبة، أحسستُ أن خيوطَ جرحي تنقطع واحدة خلف الأخرى، ألمٌ كونيٌّ يمزقني. قال «منكر» بهدوء: أنت أتعبْتَ الشرطيَّ.
أحنيت رأسي فجأةً في زاوية حادة جهة الشمال، فصفَّرت العصا وهي تشق الهواء وتسقط بعيدًا معانِقة صوان الطريق.
– ووب عليَّ … موسى؟
قلت لأمي بصوتٍ صَدَرَ في الغالب من معدتي: ابعدي، ابعدي عن الدرب، حتمًا سأعود إلى المنزل حتمًا، احذري الكلب، إنه شَرِس.
- (أ)
حواء الفوراوية: تحمل جرة المريسة وتدفقها تحت أقدام الشرطي فيتزحلق، ثم تزغرد وصديقتها «كيكي».
- (ب)
أبكر، شوفل، سيد أحمد، كوكو أو كير، عيسى كويا، ساتي؛ سينقضُّون على الكلب الأغبش الضخم ركلًا، ضربًا بالعصي فيقتلونه، وفي الغد يحمله «جبرين الجزار» ويبيعه كضأن في جزارة أم درمان.
- (جـ)
جعفر محمد مختار البوليس الأقرع، وعلي محمد آدم صول الجيش العجوز.
بطرق فنية عسكرية وتكتيك ميداني عبقري سيطيحان بالشرطي، يجردانه من غدارته، هراوته، صفارته، زيِّه، بوته، كابه، شواربه، شراباته، نياشينه، أنواطه، شجاعته، ثم يطلقانه في طرق الله هزيلًا منكسرًا دائخًا مثل قط مسلول، فاقدًا الذاكرة وخلفه الأطفال ينشدون وهم يرمونه بالحجارة:
سألني نكير بهدوئه ودِقته المتناهية: أَلَمْ تكلف ميزانية الدولة مائةَ جنيه؟
٥٠ جنيهًا حجارة بطارية لعصا الشرطي.
٢٠ جنيهًا إفطار الكلب.
١٠ بَدَل جري للشرطي.
٢٠ قيمة ضمادات وتتراسايكلين للشرطي علاجًا للجراح التي أصابته عندما لكمك بقبضته في فمك؟!
جُرحي ينزف شيئًا دافئًا لَزِجًا، «ريحته» دم، دم ودم لونه آهاته دم ودم دقات قلبه.
قال رسول الله ﷺ فيما معناه: «روضةٌ من رياض الجنةِ القبرُ، أو حفرةٌ من النار.»
اللهم اغفر لنا خطايانا، وسامحنا ما عصينا ولاة الأمر منَّا، قسَتْ قلوبنا فما استطاعت إطاعتهم.
هرير الكلب أصبح واهنًا ضعيفًا، أتعبتُه، لم يراعِ أننا يمكن أن نكون حليفين.
أغبشان، قراد أذنه وقمل إبطينا.
كلانا عانس ويتشوَّق إلى صدر أنثاه (هو إلى ظهرها).
بحَّتِي وبَحَّته، عبوديتنا، هريرنا.
في الحق، إن الكلب كان يجري مائلًا بجسده ناحية اليمين وبرجلي اليسرى عطب خفيف.
السياسي الحاذق هو الذي يبحث عن نقاط التقاءٍ بينه وبين أعدائه، بل بينه وبين الذين يعتبرونه عدوًّا لهم.
«هوشي منه.»
عشرون خطوة وبيت كلتومة الفلاتية.
فإذا صرختُ: النجدة يا ناس الحلة، النجدة!
نادت «رقية» زوجها ووجهها مطلًّا من أعلى «الصريف»: يا كافي … كافي … الحقْ.
أصابني دوار خفيف، وشعرت بالغثيان وأنا أشمُّ رائحةَ دمي النازف، صاح «منكر» بصوت حنون طيب: تشهَّد يا عبد الله، تشهَّد.
قلت مستسلمًا، مسلمًا، مسالمًا، أمري لله وحده … أشهد أن لا إله إلا …
وَهَوَتْ هرواةُ الشرطي على أم رأسي، إصابة أطارتني في الهواء ولم تنزلني إلا عندما أحسستُ أن الكلب الأغبش يتبوَّل على أنفي، لقد كان مدرَّبًا جيدًا، وعندما التقت عينانا، واساني بنظرة حانية وانسحب خلف الشرطي واختفيا، ولكني كنتُ مرهقًا ضعيفًا، كنت أحتضر، مرَّتْ بي كلابٌ شتَّى، ولكن كلبة صغيرة سوداء هي وحدها التي لاحظت أن كلبًا قد تبوَّل على أنفي، هزَّتْ ذيلها القصير، مسحت أنفها على الأرض بغرائزية فطرية، شمَّتْني، قربت من أنفي، رفعَتْ رجلها الخلفية!
بالرغم من ضعف بصري استطعْتُ أن أرى تحتَ ذيلها مباشَرةً عشرَ قرادات صغيرة عجفاء.