صنم
طفل جميل يحبه الجميع، يهشون عند لقائه إلا أنا؛ فقد كنتُ أمقتُه مقتًا حامضًا، وأرجو أن لا تسألوني لماذا، فربما لأنني لا أجد سببًا لكرهي له، أو لأنَّ جدليَّة الكره والمحبة مسألة شخصية، دقيقة الخصوصية، ثم هل هناك حجْر في أن أكره مَن أشاء؟!
قيل إن لهذا الطفل سماتِ الملائكة، لا يهمني ذلك، كما أنه ليس هناك رابطة بين هذا وأن يسموني في الخفاءِ: الصنمَ.
أمه هي أمي.
ما إن يسمع وقع خطاي على الأرض يهف للقائي فرحًا، يصرخ وتتسع عيناه السنجابيتان ويهز كتفيه بطريقة طائر البطريق، ثم يصيح: صمم، صمم.
يحبني أكثر ممَّن خلق الله جميعًا، تخيَّلوا أن يحبك طفل أكثر من أمه! إلا أنني كنتُ أبادله حبه، قليلًا وشَنَفًا، وجذله غمًّا، وأنتهز فرصة الخلو به لأقرصه على شحمة أذنه بوحشية غارسًا أظافري المتسخة فيها، وقد أزلقه من على «العنقريب» ليستلقي على الأرض صارخًا، مادًّا إليَّ يدين غضتين، متوسِّلًا أن آخذه لأُجلِسه قربي. أرجوكم أيضًا لا تسألوني لماذا يحبني بهذا القدر؛ لأنني لا أقول لكم سوى أن المسافة ما بين البغض والوَلَه كالمسافة ما بين الريح ودوراتها، ربما كان ريحي وأنا دوراتِه، أو كان العكس، فكنتُ ريحَه … فلقد قرأتُ: «بقدر حبِّ الرب لنا … عذابه.»
لا، ليس هنالك وقتٌ لمسائل عينة ما ذكرت، المهم، كذلك لا داعي أن أقص عليكم فنون تعذيبي له، فتخيَّلوا أوحَشَ ما يمكن أن يناله طفلٌ من شخص مثلي.
فاجأتني أمه — التي هي أمي: لماذا تمقته هكذا؟ ولكنني لم أملك سوى تمتمة جبانة انسلخت من شفتي ببرود وألم، لا أدري ماذا قلتُ، اعذروني، تماديتُ في كرهي له، همستُ في أذنه: سأقتلك. ضحك، هزَّ كتفيه بطريقة طائر البطريق — وهذا شأنه إذا سُرَّ — وهو يردِّد: تاني تاني. فلقد كان يستلذُّ بالنقنقة التي يُحدِثها صوتي في أذنه. قلت، كرر، قلت … قرصتُه فأدميتُ ذراعَه.
دخلتُ البيت الكبير، كانت «الراكوبة» تتوسط الحوش، حولها تنبت شجيرات العشر وخلفها اللالوبات نائمات في شيخوخة أزمنتهن الأسطورية، «حبوبتي» حريرة، في الزمن الكسول الذي ولَّى، قالت إن الجان يسكن أشجار اللالوب، ثم سردتْ لي قصةَ الحطَّاب، التي استمرت في حكيها لمدة شهر كامل، ذلك الحطَّاب الذي لم يعِ القول بأن الجن يسكن اللالوب، فقطعه، لتنزف سوقه دماء حمراء دافئة، فجُنَّ. جلس تحتهن قليلًا، كانت أنفاسه منتظمة، كان يعمه سلام غريب وهو يغط في نومه، ذبابات يتجمَّعن على أنفه وبين شفتيه يمتصصن ما علق عليها من لعاب مختلط ببقية حلوى تناوَلَها، ربما قبل نومه أو نام ولا تزال بقاياها في فمه، طنينها حادًّا، وهي تتطاير في كل صوب، وجهه في وجهي، كان فمه صغيرًا، وشفتاه ورديَّة طفولية في غاية البراءة، بحذر وخفة شيطانية … اسمحوا لي أن أسألكم: مَن منكم رأى الشيطان؟ لا أريد إجابتكم الخرساء، فأنا على كلٍّ رأيته، وكان في شكل كلب «بت كركر»، ورأيته في رمضان قبل صلاة الفجر وهو ينزل من على شجرة اللالوب الكائنة بالخور الكبير، سمين ذو رأس ضخمة، أبيض، رمقني بنظرة رشيقة لكنها حادة، وجرى نحو النهر، كان خفيفًا كالريح، أقول بخفة شيطانية، وأؤكد لكم على هذه الكلمة، وضعت قطعة الشطة ملوَّثة بالشيء القاتل في فمه وعبر ورد شفاهه، وهربت حاولت سحبَ لعابه من أصابعي، ولكنه كان عنيدًا لَزِجًا فتجاهلته. «شيوخ مجمع السَّحَرَة الأعزاء، دعوني أصلي قليلًا في ذكرى تلك الأيام متوضِّئًا بتعاسة جحيمي وعاصفة خبثكم، اسمحوا لي أن أبصق قليلًا من الحلم والصلاة إذا سمحتم. حسنًا لا أظن تستهوي أمثالَكم تفاهةُ تفاصيلي.»
إذًا تسللتُ إلى الحارة، كانت الضجة وصلتني وأنا لم أدلف إلى الزقاق الذي يقود إلى الحارة بعدُ، لا أدري لماذا يطغى نباح الكلاب دائمًا على ضجيج البشر إذا اجتمع الجمعان؟ كان الجميع يتكلم بانفعال وحماس نادرين؛ نساء، رجال، أطفال، تكومت الكلاب جماعة تطارد كلبًا غريبًا، أتى خلف سيدة من حارة مجاورة، ضخمًا ذا ذيل مقطوع أرخم تلتصق بعض القردان على أذنيه، عواؤه كان حزينًا، رمقني بنظرة رشيقة وهو ينزلق عبر الزقاق البارد الضيق. عرفت ما حدث، بل سألت ودققت في الاستفسار لأُبعِد عني الشبهات، استعجلت الجمع إلى مستشفى المكان، ولكنه (فَلْيرحمه الرب أينما كان) مات موتًا باردًا أملسَ رماديًّا يزكم الأنفَ فخيخُه.
بصقتُ، أي والله، أي والله.
في ذلك الزمن المسيخ تنازعتني أمكنة وكتل، أقل ما يمكن أن تُوصَف به أنها جنونية، شعرتُ أن هنالك شيئًا ثقيلًا انزلق من على ظهري وحملًا ثقيلًا تسلَّقني، كان شديد البرودة والصمت والكآبة لَزِجًا، تسلقت الطريق إلى قطيتي، ويا ويلي من الطريق التي ما رِجل مشتْ ولا قدم وطئتْ، وَحْلٌ من الأسمنت المحشو بالدبابيس والأسلاك الشائكة والخبث المحمي، الليل مظلم ثقيل، كنت أحس بثقل الليل على أهداب عيني، على رموشي، على كل مسافة في جلدي، يتخلَّلني كما يتخلل الزيتُ الفاسد الأرضَ العطشى، جرجرت رجلي، التصق حذائي بالأرض، تخلصت منه، حافيًا مشيتُ، كان صراعًا مريرًا بيني وبين المشوار، وبعد طن من الزمن وحشد من العذابات وصلتُ بيتي … آه، سأحاول أن أقصَّ عليكم تفاهة تفاصيلي ما أمكن … آآييه … شيوخ مجمع السَّحَرَة الأعزاء، دعوني أصلِّي قليلًا في ذكرى تلك الأيام، متوضِّئًا بتعاسة جحيمي وعاصفة خبثكم. حسنًا، حاولتُ فتحَ الباب، فكان ما لا يد فتحَتْ ولا رِجْل دفعَتْ، ثقيلًا كان وعصيًّا، سقطتُ عليه بكل جسدي، فأصدر خشخشة حادة وتحرَّك في بطء، وكنتُ خائفًا ومرهقًا في وقت واحد، مثقلًا بما لا أدري وما أدري، بحثتُ في جيوبي عن علبة كبريت، عثرتُ عليها، لم أبحث عن المصباح، تحسَّسْتُ فراشي لحظات، وكدت أن أرمي برأسي الثقيلة على الوسادة الباردة الشبعة بالرطوبة حينما سمعت طرقات على الباب، الصوت بعيد وكأنه من عمق سراديب الآخرة، المعبَّأة بالشياطين والسَّحَرَة، ثقيل على أذني، صار الطَّرْقُ رعدًا، عاصفة هوجاء، قلت: آآآآتٍ، آآآتٍ … كانت المسافة بين سريري والباب لا تتعدَّى المترين، ولكنها تفجرت في ذاتي براكين من العذابات والأسفار من الأسئلة الممسوخة المجردة.
مَن يا تُرَى، مَن؟
أم أنهم … قد …؟
رفعتُ رِجلًا ثقيلة من على الأرض، وضعتها أمامي، رفعت الأخرى وضعتها أمامها — وهي اليسرى — «لم تعلمني أمي — التي هي أمه — أن أقدِّمَ الرجلَ اليسرى على اليمنى، وكذا الحال في شأن اليدين؛ لأنَّ بهما الشيطان.»
بالتأكيد هذا لا يخصكم كثيرًا. حسنًا، رفعتُ اليسرى وضعتها أمام اليمنى، وهكذا ﻣ… ﺸ… ﻴ… ﺖ، شهرًا كاملًا، نعم شهرًا كاملًا، وأنا أسير نحو الباب، لقد كان جسدي أثقل من جبل من الملح والزيت، ونفسي خاوية كبِئْرٍ من الوهم، وأخيرًا فتحت الباب، بالرغم من حلكة الظلام استطعت أن أتبيَّنه، لقد كان مُضاءً تمامًا، وكمَن جاء من سفر شاسع، أشعث أغبر، لا يتعدَّى طوله نصف المتر، أما أطرافه اللدنة الغضة عضلات مفتولة وكأنها جُبيلات من اللحم، جبنتُ أن أتمعن وجهه جيدًا، فأنتم أدرى بخوف القَتَلَة من أوجه جنائزهم.
أو لأنني تعب ومرعوب. دخل، أغلق الباب خلفنا، ثم قفز في رشاقة «جنونية» — آسف على استخدام هذه الكلمة كثيرًا، لكن ماذا أفعل وهي تقفز إلى لساني هكذا في جنون! — حسنًا، همس في أذني قائلًا: سلام، الشيء المسموم قتلني!
ولم أعِ شيئًا بعد ذلك، قال لي البعض: وُجِدتَ تحت لالوبة الغنم على شاطئ النهر مغمًى عليك أو سكران، وأنتم أدرى بشَيطانية اللالوب وغموض صمته وخاصةً في الليل.
ساءت صحتي وأمسيت كالمجنون، لا بل كنتُ عاقلًا يَقِظًا كقط محصور، نعم، كنتُ كسولًا عاطلًا لا أُرَى إلا في نعل نقل وثياب ممزقة، طلبت مني أمي التي هي أمه أن أقيم معها في البيت الكبير، فرفضت بشدةٍ وإصرارٍ غريبين وقلتُ لبعضي: ابحث لك عن دار نازحة وانخسف إلى الأبد.
تكلفت الرحلة ما تكلفت من السنين، وربما أنها لم تأخذ زمنًا بهذا الكم، ربما، نعم، آسف تكلفت الرحلة زمنًا أكثر، كان لزامًا عليَّ أن أفعل ذلك، فقد داوَمَ على زيارتي يوميًّا، وكنتُ أجده في كل الأمكنة الممكنة وغير المحتملة أيضًا، همس الناس حولي … الثقل الذي يعذبني.
القرية التي اخترتها بعناية فائقة تقع في المنطقة الاستوائية الغزيرة الأمطار، تسكنها غابات الموهقني والتيك العملاقة والمستنقعات، وكثير مما خلق الرب من الوحوش والضواري: «اختبئ أيها الصنم.»
استأجرت كوخًا لصياد شمط، في أطراف القرية، وأجرته أرنبًا بريًّا في الأسبوع، أقول هذا ليحق الحق فقط، أرجوكم لا تنزعجوا. حسنًا، حسنًا، سمعتُ طرقًا على الباب، كانت سنتيما ابنة الصياد تقوم بخدمتي، ولا أدري ماذا أقول لكم عن سنتيما غير أنها من أجمل ما أبدع الله من صبيات، كانت سوداء بنعومة قلب الأبنوس، في سعة عينَيْ صغير الجاموس الوحشي عيناها، دعجاء، لها شفاه مكتنزة، لعساء، مشحونة بسحر الدغل الغامض وكرنفالات المستنقعات وحنين المطر، وشعر رأسها القصير الأسود يتجمع في مستعمرات صغيرة، منكمشة على نفسها كحبات الفلفل المنثورة على قرعة سوداء، فَرْعَاء كالسنطة، معبَّأة بالرغبة والحياة، دائمًا ما تُرَى وهي — كبقية بنات القرية — ملفوفة بثوب صارخ الألوان يتدلَّى من تحت نهديها — آسف، فاتني أن أذكر لكم أنها ناهد جموح كمُهرة بريَّة — ويتدلى إلى فوق الركبتين ثوبها، وعلى عنقها الرشيق عقد من الخرز الملوَّن الرخيص المليء بصدفات بيضاء تتوسَّطها تميمة مغلفة بجلد الحرباء، أما نهداها فطليقان كنسرين مهووسين لا تحدهما حدود. ماذا أتى بها في الليل! الظلام ملء المكان، والذئاب مشحونة بها الطرقات والأَزِقَّة. لم أفكِّر بها إطلاقًا؛ فلدي ما يكفي من الخوف ليمتلئ وقتي كله وأكثر، ماذا تريد مني؟ وفتحتُ البابَ، ضحكته ملأَتِ المكانَ طنينًا حادًّا وتغلغلت بين مسامات جلدي لتغزو قلبي ورئتي بألم وشعور بارد يدفعني إلى التقيؤ، أغلَقَ البابَ خلفنا، جلس على حجري بعد أن تناول المصباح الزيتي وأشعله، قال بصوت شديد الحموضة أملس: انظر إلى وجهي.
كنتُ خائفًا، عواء الذئاب يأتي من كل صوب، وجهه يحاصر المكان في فوضوية مطلقة، نملة تقرصني تحت إبطي، وأخذتْ تزحف بين جسدي والجلباب إلى أسفل، توقَّفَتْ قليلًا عند حَنِيَّة أحد الأضلاع، لم أستطع تحريك ذراعي لهَرْشها، انتهرني، أوزعت البول. «انظر إلى وجهي.» رفعت وجهي في جُبْن تام، جاهدتُ ما أمكن لإحالة بصري إلى وجهه، في الباب معلَّقةٌ بعضُ الأردية تبدو كَلَوْحة سريالية لفنان في خريف جنونه؛ لأنَّ ضوء المصباح الذي يتسلَّل ما بين صدري وظهره المتموج كحلقات جنزير، يسقط ظلالًا ذات انكسارات غريبة على الباب. قال بصوت حادٍّ وبشكل حاسم: انظر.
واهتزَّ ضوءُ المصباح، تحرَّكت النملة إلى أسفل، البلل عمَّ الرداء، ولأنه مضاء تمامًا، رأيتُ كلَّ شيء وكاد يغمى … المفاجأة مذهلة وغريبة بشكل تام. نعم، لقد كان وجهي، وجهي نفسه، بكل تفاصيله؛ ملامحه وسماته، الندب الصغيرة التي تعلو جبهتي، شاربي الكث، الوحمة الكبيرة بخدي الأيسر؛ أمي التي هي أمه توحَّمت عندما كانت حبلى بلالوبة، كان الفصل شتاء فلم يتحصَّل أبي إلا على لالوبة واحدة في كل المدينة، فكانت هذه الوحمة، شفاهي الغليظة، وجهي تمامًا إلا أنه كان مشوَّهًا ملطخًا بالدماء والصديد والديدان الميتة، ثم … لا … لا … لا، لديَّ أشششياء مهمة لم أقلها بعدُ، آه ه ه.