قراءات إضافية

بغض النظر عن النصوص الموجزة ما بين الحين والآخر (مثل المقدِّمات والخاتمات، والحوارات والمقالات النقدية الارتجالية المكتوبة، وغيرها)، من الواضح أن أعمال لاكان في مجملها تقع في مجموعتَين اثنتَين: منطوق مُتمثِّلًا في التدريس الشفهي، ومكتوب مُتمثِّلًا في الكلمة المكتوبة؛ فلدينا الندوات الأسبوعية (التي كان لاكان يلقيها خلال العام الدراسي أمام حشد متزايد من الجماهير، في الفترة ما بين عام ١٩٥٣ وحتى وفاته) وكتابه المعنوَن «كتابات» (الذي يتضمَّن أبحاثه النظرية المكتوبة). وفي هذا الصدد، أشار جان كلود ميلنر إلى مفارقة مهمة؛ فعلى النقيض من المحاضرات الشفهية غير المتداولة على الملأ والأعمال المطبوعة المنشورة للعامة، يُعَد كتاب لاكان المعنوَن «كتابات» كتابًا «نخبويًّا»، يقتصر في خطابه على دائرة داخلية من النخبة المثقفة، في حين تستقطب ندواته قطاعًا أعرض من الجماهير؛ ومن ثَمَّ فإنها أكثر تداولًا والوصول إليها أسهل. يبدو الأمر هنا كما لو أن لاكان يؤسِّس أولًا وعلى نحوٍ مباشر لإطار نظري معيَّن، بكلِّ ما يتضمَّنه ذلك من تقلباتٍ وأزقة مسدودة، ثم يمضي قُدُمًا لعرض نتائج هذا الإطار النظري على نحوٍ دقيق ومكثَّف. ويرتبط كتابه «كتابات» بكل ذلك فيما يشبه الحوار ما بين الشخص الخاضع للتحليل (العميل) والقائم به (المرشد) في رحلة العلاج النفسي. ففي الندوات: يؤدي لاكان دور الشخص الخاضع للتحليل؛ فنجده يطلق العِنان لأفكاره في تداعٍ حر طليق، ويسترسل مرتجلًا دون تخطيط أو تحفُّظ، ويتخطَّى أمورًا وينتقل انتقالًا مفاجئًا إلى أخرى؛ ذلك كله مخاطبًا جمهوره الذي يقوم في هذه الحالة مقامَ شكلٍ من أشكال التحليل الجَمعي. أما عن كتاباته فنجدها بالمقارنة مع ذلك أكثرَ تكثيفًا وتبلورًا؛ فهي تتناول فرضياتٍ مستغلِقة يتعذَّر قراءتها، وهي تبدو غالبًا مثل ألغاز، تستفز ذهنَ القارئ فيبدأ العمل عليها وترجمتها إلى أطروحاتٍ واضحة، ويقدِّم أمثلة على معانيها ومفاهيمها مع شروحاتٍ منطقية لها. وعلى خلاف الإجراءات الأكاديمية السائدة، التي فيها يصيغ الباحثُ أطروحته ثم يحاول تدعيمها بالحُجج والبراهين، فإن لاكان لم يترك أبحاثه للقارئ يفهمها كيفما يشاء فحسب، بل كثيرًا ما كان يتعيَّن على القارئ أيضًا أن يقف بنفسه على الفحوى الحقيقي لأطروحته، ضمن كمٍّ هائل من الصياغات المتضاربة، أو ضمن المعاني المستغلِقة لصياغة واحدة مبهمة. وبهذا المعنى الدقيق، يكون كتابه «كتابات» أشبهَ ما يكون بمداخلات المرشد المحلِّل الذي لا يقتصر هدفه فقط على تقديم رأي حاضر، أو تقرير لحظي إلى العميل، ولكن أيضًا على تهيئة العميل بوضعه على أول طريق العلاج.

وعليه، فالسؤال الآن هو أيهما تقرأ وكيف: «كتابات» أو الندوات؟ إننا حين نطرح سؤالًا كهذا نكون كمَن يسأل شخصًا عما إذا كان يرغب في احتساء شاي أو قهوة. فكلاهما ينبغي قراءته. فإذا تطرَّقت مباشرةً إلى قراءة كتابه «كتابات»، فلن تفهم شيئًا؛ ومن ثَمَّ عليك أن تبدأ بالندوات ولكن دون التوقف عندها أو الاقتصار عليها؛ لأنك إن قرأت الندوات وحدَها فلن تفهم شيئًا أيضًا. وجدير بالذكر أنه ينبغي للمرء ألَّا يسيرَ وراء الانطباع المضلِّل بأن الندوات أوضحُ وأكثرُ شفافيةً من الكتاب نفسه: ذلك أن الندوات كثيرًا ما تتذبذب، فتأخذك من منهجٍ إلى آخر، ومن مقاربةٍ إلى أخرى. ومن ثَمَّ، فإن أفضل طريقةٍ هي أن تقرأ ندوةً ما، ثم تقرأ ما يقابلها في محتوى الكتاب؛ حتى «تفهم مغزى» الندوة. نحن هنا أمام لحظة مؤقتة من الإدراك اللاحق أو التأثير المتأخِّر Nachträglichkeit (الذي يُترجم إلى الإنجليزية على نحوٍ غير وافٍ إلى action deferred؛ أي «الفِعل المؤجَّل»)، وهو يتناسب مع العلاج التحليلي نفسه: يتميز محتوى «كتابات» بوضوحه ودقة صياغته، ولكن لا يمكننا فَهْمه إلا بعد قراءة الندوات المُستقَى منها بالأساس. وأبرز مثالٍ على ذلك الندوةُ السابعة حول «أخلاقيات التحليل النفسي» التي يقابلها في الكتاب مقالٌ بعنوان «كانط وساد»، والندوة الحادية عشرة بعنوان «أربعة مفاهيم أساسية في التحليل النفسي» التي يقابلها في الكتاب مقالٌ بعنوان «موقف اللاوعي».

إنَّ ما يزيد عن نصف ندوات لاكان متوفِّر الآن باللغة الفرنسية، والترجمات الإنجليزية التي تلت ذلك بعامَين تتميَّز عادةً بجودتها العالية. أما عن مقالاته التي يتضمَّنها كتابه «كتابات»، فإنها متوفرة الآن في شكل مختاراتٍ فقط (تُعَدُّ الترجمة الجديدة الصادرة بقلم بروس فينك أفضلَ كثيرًا من سابقتها، وقد ترجمَ فينك النسخة الكاملة أيضًا من «كتابات» لاكان، ومُرتقَب صدورها قريبًا.) أسند لاكان نفسه مهمةَ تحرير ندواته بغرض النشر إلى جاك-ألان ميلير، حيث رأى أنه «الوحيد الذي يعلم كيف [يقرؤني]». والواقع أنه محقٌّ في ذلك؛ إذ تُعَد كتابات ميلير العديدة وندواته حتى الآن أفضلَ تقديم إلى لاكان. ونجح ميلير، بأفضلِ ما في وُسعه، أن يحقق المعجزة ويحيل صفحة مستغلقة ومبهمة في كتاب لاكان «كتابات» إلى صفحةٍ واضحةٍ تمامًا ومستساغة، حتى إن المرء ليسأل نفسه متعجِّبًا: «كيف لم أفهمها من تلقاء نفسي؟» وفيما يتعلق بالندوات الفردية غير المجمَّعة، توجد إصدارات لكلٍّ منها بعنوان «قراءة الندوة …»، صادرةٌ عن مطبعة جامعة ولاية نيويورك (باستثناء الندوة الأخيرة، الندوة السابعة عشرة، التي صدرت عن مطبعة جامعة ديوك).

فيما يلي بعض الكتب الأخرى التي لا غِنى عن قراءتها أيضًا:

أفضل مقدِّمة قصيرة عامة إلى لاكان:

Sean Homer, Jacques Lacan, London: Routledge 2005.

أفضل مقدماتٍ إكلينيكية:

Bruce Fink, A Clinical Introduction to Lacanian Psychoanalysis, Princeton: Princeton University Press 1999; Darian Leader, Why Do Women Write More Letters Than They Post?, London: Faber & Faber 1996.

أفضل مقالاتٍ حول لاكان وفلسفته:

Joan Copjec, Read My Desire, Cambridge: MIT Press 1994; Alenka Zupancic, Ethics of the Real, London: Verso 2000.

أفضل ما يسميه اللاكانيون «أوجه الارتباط في الحقل الفرويدي» (قراءة لاكانية للظواهر الثقافية والاجتماعية):

Eric Santner, My Own Private Germany, Princeton: Princeton University Press 1996; Mladen Dolar, Voice and Nothing More, Cambridge: MIT Press 2006.

أفضل سيرة ذاتية عن لاكان، تقدِّم كمًّا هائلًا من البيانات (وإن كانت تفسيراتها تتسم بالغموض أحيانًا):

Elisabeth Roudinesco’s Jacques Lacan: An Outline of a Life and a History of a System of Thought (Cambridge: Polity Press 1999).
أخيرًا وليس آخرًا، يظل موقع lacan.com من أفضل المواقع الإلكترونية العديدة التي تتناول لاكان، والموقع تديره من نيويورك جوزيفينا أيرزا صاحبة الجهود الدءوبة التي لا تَعرف الكلل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤