الأفعال الإنجازية والإيماءات الفارغة: لاكان يواجه مؤامرةَ وكالة المخابرات المركزية
يصوِّر المكسيكيون مسلسلاتهم التليفزيونية بوتيرةٍ محمومة (حلقة مدَّتها ٢٥ دقيقة كل يوم) لدرجةِ أنه لا يتسنى للممثلين حتى الحصولُ على نص السيناريو ليحفظ كلٌّ منهم دوره مقدَّمًا؛ فيرتدون سمَّاعاتٍ صغيرة في آذانهم تلقِّنهم ما يجب القيام به، ويتعلَّمون كيف يترجمون ما يسمعون إلى أداءٍ تمثيلي («الآن اصفعيه وأخبريه أنكِ تكرهينه! ثم احتضنيه! …»). يقدِّم لنا هذا الإجراء لمحةً عما يعنيه لاكان ﺑ «الآخر الكبير» وفقًا للتصور الشائع. النسق الرمزي، الذي يمثل الدستور العُرفي للمجتمع، هو الطبيعة الثانية لكل إنسان ناطق؛ فهو هنا يوجِّه أفعالي ويتحكَّم فيها؛ هو البحر الذي أسبح فيه، ولكنه يظل في النهاية مَنيعًا؛ إذ لا أستطيع وضْعَه أمامي والإمساك به. الأمر وكأننا نحن، المحمولةَ عليهم اللغة، نتحدَّث ونتفاعل مثل الدُّمى، وكأن كلامنا وإيماءاتنا تُملى علينا من كيان مجهول يشمل كلَّ شيء. هل يعني هذا من منظور لاكان أننا كأفراد مجرد ظواهر ثانوية، ظلال لا تملك من أمرها شيئًا، أن تصوُّرنا لأنفسنا كعناصر فاعلة حرَّة ومستقلة هو ضربٌ من الوهم الذي يعمينا — نحن المستخدمين للغة — عن حقيقة كوننا أدواتٍ في أيدي «الآخر الكبير» الذي يتوارى خلف الستار، ويتلاعب بالخيوط ليتحكم سرًّا في مجريات أمورنا؟
ومع ذلك، هناك العديد من سِمات «الآخر الكبير» التي يُغض عنها الطَّرْف في هذا المفهوم المبسَّط. فوفقًا للاكان، يتألف واقع الإنسان من ثلاثة مستويات متشابكة: الرمزي، والتخيُّلي، والواقعي. يمكن توضيحُ هذه الثلاثية بدقةٍ من خلال لعبة الشطرنج. فقواعد اللعبة التي يجب اتباعها تمثِّل البُعد الرمزي لها: فمن وجهة النظر الرمزية الشكلية البحتة، يُعرَّف «الحصان» فقط بالنقلات التي يمكن أن تتحرَّكها هذه القطعة في كل مرة. يختلف هذا المستوى بالتأكيد عن المستوى التخيُّلي، الذي يُعنى بطريقة تشكيل قِطع الشطرنج المختلفة وتمييزها بأسمائها (الملك، الوزير، الحصان)، ومن السهل تصوُّر لعبة لها القواعد نفسها، ولكن برؤية تخيُّلية مختلفة، حيث يمكن أن تُسمى هذه القطعة مثلًا «مرسالًا» أو «عدَّاءً» أو أي شيء آخر. أخيرًا، البُعد الواقعي هو مجموعة الظروف العرضيَّة المتشابكة التي تؤثر مجتمعةً على مجرى اللعبة: مثل ذكاء اللاعبين، أو النقلات التكتيكية غير المتوقَّعة التي قد تشتِّت أحد اللاعبين أو تحسم المباراة وتنهيها.
يعمل «الآخر الكبير» على مستوًى رمزي. تُرى، ممَّ يتكون إذن هذا النسق الرمزي؟ إننا عندما نتحدَّث (أو بالأحرى هنا، نستمع)، فإننا لا نتفاعل مع الآخرين فحسب؛ بل يعتمد نشاطنا الخطابي على قبولنا بشبكة معقَّدة من القواعد، وأنواع أخرى من الافتراضات المسبَّقة، والاستناد إليها. أولًا، هناك القواعد النحوية التي يجب إتقانها تمامَ الإتقان وعلى نحوٍ تلقائي: فلو حرصت على وَضْع هذه القواعد نُصبَ عينَيَّ طوال الوقت، فسيصبح كلامي مفتقرًا إلى الترابط. ثم هناك خلفيةُ أنني وشريكي في الحوار نشترك في عالَم الحياة نفسه، وهو ما يتيح لنا فَهْم أحدنا الآخر. والقواعد التي أتَّبعها تتميَّز بهُوَّة سحيقة فيما بينها: فهناك قواعدُ (ودلالات) أتَّبعها اتباعًا أعمى، بحُكم العادة، ولكن إذا فكَّرت فيها، يمكن أن أنتبه إليها وأستخدمها وأنا على وعي جزئي بها على الأقل (مثل القواعد النحوية الشائعة)؛ وهناك قواعدُ أتَّبعها، ودلالات تستحوذ عليَّ وتراودني وأنا جاهل تمامًا بها (مثل محظورات اللاواعي). ثم هناك قواعدُ ودلالات أعرفها، ولكن يتعيَّن عليَّ عدمُ إظهار معرفتي بها، مثل التلميحات البذيئة أو الخليعة التي يتجاهلها المرءُ في صمتٍ للحفاظ على مظهر لائق.
يُعَدُّ هذا الفضاء الرمزي معيارًا يمكنني قياس نفسي عليه. هذا هو السبب في أن «الآخر الكبير» يمكن تشخيصه أو تجسيده ماديًّا في فاعل واحد: «الله» الذي يرعاني من الجانب الآخر، وجميع الأفراد الواقعيين، أو «قضية» تستحوذ على اهتمامي (مثل الحرية، أو الشيوعية، أو الوطن) وأنا على أُهبة الاستعداد أن أبذل حياتي لنصرتها. إنني عندما أتحدَّث لا أكون مجرد «آخر صغير» (فرد) يتفاعل مع «آخرين صغار»؛ فلا بد أن يكون «الآخر الكبير» حاضرًا دائمًا في هذه العملية. هذه الإحالة المتأصلة إلى الآخر تجلَّت في نكتةٍ سافرةٍ عن فلاح فقير تحطَّمت السفينة التي كان على متنِها مع — لنقل مثلًا — الممثلة الأمريكية سيندي كروفورد، فوجد نفسه عالقًا معها على جزيرة منعزلة. وبعد أن مارسا الجنس معًا، سألته عن رأيه فيما حدث؛ فأجابها بأن الأمر كان رائعًا، إلا أن لديه طلبًا صغيرًا لتكتمل لذَّته … سألها هل يمكنها أن ترتديَ ملابس صديقه المفضَّل، فتلبس بنطالًا وترسم شاربًا على وجهها؟ راحَ يطمئنها أنه لا يعاني شذوذًا جنسيًّا دفينًا، وذلك كما رأت بنفسها بمجرد أن لبَّت طلبه. وعندما فعلت، اقترب منها، ونكزها في كتفها، وأخبرها بابتسامة تنمُّ عن تواطؤ ذكوري: «أتدري ما حدث لي؟ لقد مارست الجنس مع سيندي كروفورد!» هذا الثالث الحاضر دائمًا بوصفه شاهدًا، تنتفي معه إمكانيةُ تحقُّق أي متعة شخصية بريئة وخالصة. فالجنس دائمًا ما يقترن — ولو بدرجةٍ ضئيلة — برغبةٍ متأصلة لدى المرء في الاستعراض والتباهي، واكتمالُ لذَّته مرهونٌ بنظرة الآخر.
وعلى الرغم من كل سلطته الراسخة، فإن الآخر الكبير هشٌّ وواهن، وافتراضي تمامًا، بمعنى أن حالته هي حالة افتراض ذاتي. يتشكَّل وجوده «بقدرِ ما يتصرف المرءُ كما لو كان موجودًا». وهو يشبه في حالته حالةَ قضية أيديولوجية مثل الشيوعية أو الوطن: إنه جوهر الأفراد الذين يتعرَّفون أنفسَهم فيه، هو أساس وجودهم بأكمله، النقطة المرجعية التي توفِّر الأفق النهائي للمعنى، هو شيءٌ هؤلاء الأفراد على أتمِّ استعدادٍ لبذل حياتهم من أجله، ومع ذلك فإن الشيء الوحيد الموجود حقًّا هو هؤلاء الأفراد ونشاطهم؛ ومن ثَم فهذه الماهية موجودة بقدرِ ما يؤمن الأفراد بوجودها ويتصرَّفون وَفقًا لذلك. وبسبب هذا الطابع الافتراضي للآخر الكبير، فإنه يُعد — وَفقًا لما قال لاكان في نهاية «ندوته عن الرسالة المسروقة» — رسالةً تصل دائمًا إلى وجهتها. يمكن حتى القول بأن الرسالة الوحيدة التي تصل إلى وجهتها بكامل فحواها وفاعليتها هي الرسالة التي لم تُرسَل؛ فالمتسلِّم الحقيقي إياها ليس الآخرين بذواتهم الفعلية، ولكنه الآخر الكبير نفسه:
ألا ينطبق هذا تمامًا على مصطلح «العرَض» بالمفهوم الفرويدي له؟ وفقًا لفرويد، عندما يظهر على المرء عرَضٌ ما، فإنه ينتج رسالةً مشفرة حول أعمقِ أسراره الدفينة، حول رغباته وصدماته الكامنة في اللاوعي. ولا يُصدِّر هذا العرَض إلى إنسان آخرَ بعينه: لا سبيل مطلقًا إلى قراءة الرسالة التي يحملها العرَض واستيعاب فحواها، حتى يبدأ المحلِّل في حل شفرتها وفكِّ طلاسمها. إذن ما الوجهة المقصودة بهذه الأعراض؟ لا يبقى سوى الآخر الكبير الافتراضي. تعني هذه الشخصية الاعتبارية للآخر الكبير، ذات الطابع الافتراضي، أن النسق الرمزي ليس جوهرًا روحيًّا له وجود مستقل عن الأفراد، ولكنه شيء يستمد ديمومتَه من خلال نشاطه المتواصل. ومع ذلك، لا يزال منشأ الآخر الكبير غيرَ واضح. كيف لا يكون الأفراد بصدد التفاعل فيما بينهم عندما يتبادلون الرموز، بل بصدد إحالة دائمة إلى الآخر الكبير الافتراضي؟ عندما أتحدَّث عن آراء الآخرين، فالأمر لا يقتصر على ما أعتقده أنا أو أنت أو غيرنا، ولكن أيضًا ما يعتقده ذلك الآخر «المجرَّد». عندما أنتهك قاعدةً معينة من قواعد اللياقة، أنا لا أفعل ببساطة شيئًا لا يفعله غيري من غالبية البشر — أنا أفعل ما لا يفعله ذلك «الآخر».
هذا يقودنا إلى الفقرة الدَّسمة التي افتتحنا بها هذا الفصل: ما يقترحه لاكان هنا لا يعدو كونه بيانًا موجزًا عن نشأة الآخر الكبير. يرى لاكان أن اللغة هي هدية على جانب كبير من الخطورة، أُهديت إلى البشرية مثلما أُهدي الحصان إلى أهل طروادة: فهي تقدِّم نفسَها لنا مجانًا، ولكنها تستعمرنا وتستحوذ علينا بمجرد قبولنا لها. ينبثق النسق الرمزي من هدية، منحة يُضفى على محتواها الطابع المحايد كي تظهر بمظهر الهدية: عند تقديم هديةٍ ما، فإن ما يهم ليس محتواها ولكن الرابط الذي ينشأ بين المانح والممنوح عند قبول الممنوح الهدية. في هذه الفقرة، يستعرض لاكان أيضًا بعضَ تأمُّلاته بشأن علم السلوك الحيواني؛ فطائر السنونو البحري الذي يمرِّر سمكة اصطادها من منقار طائر إلى آخر (كما لو كان يوضح أن الرابط الذي يتكوَّن بهذه الطريقة أهمُّ من الوقوف على حقيقة أي طائر سيحتفظ بالسمكة ويأكلها في نهاية المطاف) يشارك بفاعلية في نوعٍ من التواصل الرمزي.
كلُّ مَن يمرون بتجربة حب يعرفون هذا: إذا أردت أن تهديَ حبيبًا هديةً ترمز إلى حبِّك إياه، فلا بد أن تكون هذه الهدية غير ذات نفع، وزائدة عن حاجته؛ لأنه عندئذٍ فقط يمكن للهدية أن ترمز إلى الحب بإبطال قيمة استخدامها أو الانتفاع بها. يتميز التواصل البشري بالانعكاسية غير القابلة للاختزال: فكلُّ فعل ينمُّ عن التواصل يرمز في الوقت نفسه إلى حقيقة التواصل. أطلق رومان ياكوبسون على هذه السِّمة الرئيسية الغامضة التي يتسم بها النسق الرمزي البشري اسمَ «التواصل اللغوي»: الكلام البشري لا ينقل رسالة فحسب، بل يؤكد أيضًا بانعكاسه الذاتي على الميثاق الرمزي الأساسي بين الأطراف المتواصلة.
أبسطُ صور التبادل الرمزي هو ما يسمَّى «الإيماءة الفارغة أو العديمة الجدوى»، وهي عبارة عن عرض لا يُقصَد منه شيء أو متوقع له الرفض. جسَّد بريخت هذه السِّمة على نحوٍ مؤثِّر في مسرحيته «القائل نعم»، حيث يُطلب من صبي صغير أن يوافق طواعيةً على ماهية المصير الذي سيدركه في كل الأحوال (أن يُلقى في الوادي)؛ فكما يفسِّر معلِّمه، جرَت العادة أن يُسأل الضحية عن رأيه في المصير الذي أُقِرَّ في حقه، ولكن جرَت العادة أيضًا أن يجيب الضحية بالإيجاب معلنًا عن موافقته على ذلك المصير المحتوم. إن الانتماء إلى مجتمعٍ ما يتضمَّن نقطة تنطوي على مفارقة يُطلب فيها من كل واحد منَّا أن يتقبل طواعيةً، بمحض اختياره الحر، ما يُفرض عليه على أي حال (يتحتَّم علينا جميعًا أن نحب بلادنا، ووالدينا، وديننا). هذه المفارقة في قبولِ ما هو إلزامي (أي اختياره بمحض الإرادة الحرة)، وفي التظاهر (الحفاظ على المظهر) بوجود اختيارٍ حرٍّ مع أنه في الواقع غير موجود، يعتمد تمامًا على مفهوم الإيماءة الرمزية الفارغة من المعنى؛ أي الإيماءة — أو العَرْض — التي تُقدَّم ومُبتغًى لها الرفض.
هناك شيء مماثل ضمن قواعد سلوكنا اليومي. فعندما يحدُث أن أفوز في منافسة شرسة مع أقرب صديق لي على ترقيةٍ وظيفية، فإن التصرُّف السديد الذي يجب القيام به هو تقديم عرضٍ بالانسحاب؛ بحيث يحصُل هو على الترقية، والتصرف السديد من جانبه هو أن يرفض عَرْضي؛ فربما يمكن بهذه الطريقة إنقاذُ صداقتنا. نحن هنا إزاءَ موقف يجسِّد مفهوم التبادل الرمزي في أوضحِ صوره: إيماءة قُدِّمت لكي تلقى الرفض. ويكمُن سحر التبادل الرمزي في أنه على الرغم من أن وضعنا لم يتغيَّر في النهاية عنه في البداية، فإنه يتحقَّق لكلا الطرفَين مكسبٌ فريد في إطار ميثاق التضامن المبرَم بينهما. تكمُن المشكلة بالطبع في: ماذا لو أن الشخص الذي قُدِّم إليه العَرْض ليرفضه قد قَبِله بالفعل؟ ماذا لو أنني قبِلتُ عَرْض صديقي للحصول على الترقية في النهاية بدلًا منه، بعد أن خسرتُ المنافسة؟ إنَّ وضعًا كهذا هو وضع كارثي حقًّا: فهو يسبِّب تفكُّك مظهر «الحرية» المتعلق بالنظام الاجتماعي، وهو ما يعني تفكُّك الجوهر الاجتماعي نفسه، وانهيار الرابط الاجتماعي.
بسبب هذا البُعد الإنجازي، كلُّ اختيار نواجهه في اللغة هو اختيار وراء اختيار؛ أي اختيار بشأن الاختيار نفسه، اختيار يؤثِّر في إحداثيات اختياري ويغيِّرها. لنتناول مثلًا موقف الحياة اليومية الذي يريد فيه شريكي (الجنسي، أو السياسي، أو المالي) أن أبرم صفقة؛ ما يقوله لي في الأساس هو: «رجاءً، أنا أحبك حقًّا. إذا توصلنا إلى اتفاق هنا، فسأكون مهتمًّا تمامًا لأمرك! ولكن حذارِ! إذا رفضتني، فقد أفقد السيطرة وأجعل حياتك بائسة!» تكمُن الفكرة هنا بالطبع في أنني لست إزاءَ اختيار واضح: فالجزء الثاني من هذه الرسالة يقوِّض الجزء الأول — فالشخص الذي هو على استعداد لإلحاق الضرر بي إن أنا رفضته، لا يمكن أن يكون محبًّا لي ومهتمًّا لسعادتي حقًّا كما يدَّعي. ولذا فالخيار الحقيقي الذي أواجهه ينفي شروطه: فالكراهية — أو على الأقل اللامبالاة الباردة والمُخادعة تجاهي — تشكِّل الأساس لشرطَي الاختيار. سيكون ضربًا من الرياء المماثل أن أردَّ عليه بقولي: «أنا أحبُّك وسأقبل باختيارك مهما كان؛ ولذا حتى لو كان رفضك سيدمرني (وأنت تعلم هذا)، فمن فضلك اختر ما تريد حقًّا، ولا تعبأ بتأثير ذلك عليَّ!» إن الزيف الخادع الذي ينطوي عليه هذا العَرْض إنما يكمُن في الطريقة التي يستخدم بها تأكيده «الصادق» على أنني يمكن أن أرفض، وهو نوعٌ من الضغط الإضافي عليَّ لأقبل: «كيف لك أن ترفضني، وأنا أكنُّ لك كل هذا الحب؟»
يمكننا الآن أن نرى كيف أن لاكان مهتم تحديدًا بكيفية تشابُك إيماءات التمثيل الرمزي مع عملية الممارسة الجَمْعية وكيفية تضمينها فيها، وكيف أنه لم يتَّفق مع وجهة النظر القائلة بأن «النسق الرمزي» يحكم الإدراك والتفاعل البشريَّين بوصفه نوعًا من المعرفة التجاوزية القبْلية (أي كشبكة صورية، مقدَّمة سلفًا، تحدُّ من نطاق الممارسة البشرية). يتجاوز ما يتطرَّق إليه لاكان بوصفه «حركة مزدوجة» للوظيفة الرمزية؛ حدودَ النظرية القياسية للبُعد الإنجازي للكلام بالكيفية التي تطوَّرت بها من جيه إل أوستن إلى جون سيرل:
المثال التاريخي الذي يسوقه لاكان لتوضيح هذه «الحركة المزدوجة» يتضمَّن إحالاتٍ خَفية ذات دلالاتٍ أعمق:
يقوم لاكان هنا بإحالة (ضمنية) إلى كتاب جورج لوكاش بعنوان «التاريخ والوعي الطبقي»، وهو عملٌ ماركسي كلاسيكي صدر عام ١٩٢٣، ونُشرت ترجمته الفرنسية المشهودُ لها على نطاق واسع في منتصف الخمسينيات من القرن العشرين. يرى لوكاش أن الوعيَ هو على النقيض من مجرد المعرفة بالموضوع: فالمعرفة خارجية بالنسبة إلى الموضوع المعروف، بينما الوعي في حدِّ ذاته «عملي»؛ بمعنى أنه فعلٌ يغيِّر الموضوع نفسَه. (بمجرد أن يَعُدَّ العامل نفسَه ينتمي إلى صفوف الطبقة العاملة، يتغيَّر واقعه تمامًا: إذ يتصرَّف تصرفًا مختلفًا). يفعل الإنسان شيئًا، ويَعُدُّ نفسه أنه هو الذي فعله (أي يصرِّح بذلك)، وعلى أساس هذا التصريح، يفعل شيئًا جديدًا؛ ومن ثَم تحدُث لحظة التحول الذاتي في لحظة التصريح، وليس في لحظة الفعل. لحظةُ التصريح الانعكاسية هذه تعني أن كل منطوق لا يَنقل فقط بعض المحتوى، ولكنه في الوقت نفسه «ينقل الطريقةَ التي يرتبط بها الفرد ويتصل بهذا المحتوى». وحتى أكثرُ الأشياء والأنشطة واقعيةً وتواضعًا دائمًا ما تحتوي على هذا البُعد التصريحي، الذي يشكِّل أيديولوجية الحياة اليومية. يجب ألَّا ننسى أبدًا أن المنفعة بمثابة مفهوم انعكاسي: إنها دائمًا ما تنطوي على تأكيد المنفعة دلالةً ومغزًى. فالرجل الذي يعيش في مدينة كبيرة ويمتلك سيارة لاند روفر (والتي من الواضح أنه لا يستفيد بها) لا يعيش حياةً عملية وبسيطة فحسب؛ بل «يشير» امتلاكه هذه السيارة إلى أنه يعيش حياته تحت شعار الموقف الجِدي والبسيط. وارتداء الجينز ذي المظهر الرثِّ هو «إشارة» إلى موقف معيَّن تجاه الحياة.
كان كلود ليفي-ستروس هو الخبير الذي لا مثيل له في هذا التحليل؛ حيث يرى أن الطعام يصلح أيضًا لكي يكون «موضوعًا للتأمل». تعمل الطرائق الثلاث الرئيسية لتحضير الطعام (نِيئًا، مخبوزًا، مسلوقًا) مثلثًا دلاليًّا: إذ نستخدمه رمزًا يمثِّل التعارض الأساسي بين الطبيعة («الطعام النِّيء») والثقافة («الطعام المخبوز»)، بالإضافة إلى الحالة الوسطى بين النقيضَين (في إجراء السلق). هناك مشهدٌ لا يُنسى في فيلم لويس بونويل «شبح الحرية» حيث يتم عكس العلاقات بين تناول الطعام والتغوط: يجلس الناس على مراحيضهم حول الطاولة، يتجاذبون أطرافَ الحديث الممتع، وعندما يرغبون في تناول الطعام، يسألون الخادمة بهدوء: «أين ذاك المكان؟» ويتسللون إلى غرفة صغيرة في الخلف. وتكملةً لما قدَّمه ليفي-ستروس، يمكن أن نقترح أن البُراز يمكن أيضًا أن يكون «موضوعًا يدعو إلى التأمُّل»: فالأنواع الثلاثة الأساسية لتصميم المرحاض في الغرب تشكل نوعًا من الطباق الإخراجي لمثلث الطهو عند ليفي-ستروس. ففي المرحاض الألماني التقليدي، تكون الفتحة التي يختفي فيها البُراز بعد تدفُّق الماء متقدِّمة كثيرًا؛ بحيث يكون البُراز ظاهرًا لنشمَّه ونتفحصه بحثًا عن أي آثار للمرض، وفي المرحاض الفرنسي النموذجي تكون الفتحة متأخِّرة، حتى يختفي البُراز في أسرع وقت ممكن، وأخيرًا، المرحاض الأمريكي يقدِّم توليفة من نوعٍ ما بين هذا وذاك، حالة وسطى بين هذَين القطبَين المتناقضَين — حيث يكون حوض المرحاض مليئًا بالماء، بحيث يطفو البُراز فيه، فيكون مرئيًّا، ولكن ليس لتفحُّصه. لا عجبَ أن إريكا يونج، في مناقشتها الشهيرة للمراحيض الأوروبية المختلفة في بداية روايتها شبه المنسية «الخوف من الطيران»، تدَّعي بسخرية أن «المراحيض الألمانية هي في الحقيقة مفتاحُ ما بثَّه الرايخ الثالث من رعب. فمَن يمكنهم تصميم مراحيض مثل هذه قادرون على ارتكاب أي شيء.» من الواضح أنه لا يمكن تفسير أي شكل من أشكال المراحيض هذه بمصطلحاتٍ نفعيةٍ تمامًا: فالتصوُّر الأيديولوجي لكيفية ارتباط الذات بالبُراز المزعج الذي يخرج من أجسادنا؛ واضح تمامًا فيه.
كان هيجل من أوائل مَن فسَّروا الثلاثي الجغرافي المتمثِّل في ألمانيا وفرنسا وإنجلترا على أنه يعبِّر عن ثلاثة مواقف وجودية مختلفة: الاستقصاء التأمُّلي لدى الألمان، والعجلة الثورية لدى الفرنسيين، والبراجماتية النفعية المعتدِلة لدى الإنجليز. من حيث الموقف السياسي، يمكن قراءة هذا الثلاثي على أنه يمثِّل المحافِظيَّة الألمانية، والراديكالية الثورية الفرنسية، والليبرالية المعتدِلة الإنجليزية؛ ومن حيث هيمنة أحد مجالات الحياة الاجتماعية، تكون الميتافيزيقا والشِّعر الألماني في مقابل السياسة الفرنسية والاقتصاد الإنجليزي. الإحالة إلى المراحيض تتيح لنا التمييزَ بين هذا الثلاثي نفسه في إطارٍ أكثر خصوصية يتمثَّل في أداء الوظيفة الإخراجية: الافتتان التأملي الغامض، المحاولة المتعجِّلة للتخلص من الفائض الكريه بأسرعِ ما يمكن؛ النهج البراجماتي في التعامل مع الفائض على أنه شيء عاديٌّ يجب التخلص منه كيفما ينبغي. من السهل على الأكاديمي أن يدَّعي في جلسة حوارية أننا نعيش في عالمِ ما بعد الأيديولوجيا — لكنه في لحظة ذهابه إلى المرحاض بعد نقاش محموم، سيجد نفسه غارقًا مرة أخرى في الأيديولوجيا.
يمكن توضيح هذا البُعد التصريحي للتفاعل الرمزي، من خلال موقف حسَّاس يحدُث في العلاقات البشرية. تخيَّل زوجين يتفقان ضمنيًّا على أنهما في مقدورهما الانخراط في علاقات سريَّة خارج إطار الزواج. إذا أخبر الزوج زوجتَه فجأةً عن علاقة حالية، فسيكون لديها سببٌ لأن تجزع: «إذا كانت مجرد علاقة عابرة، فلماذا يخبرني بها؟ لا بد أن الأمر ينطوي على ما هو أكثرُ من ذلك!» فعملية الإبلاغ العلني عن شيءٍ ما لا تكون محايدة أبدًا؛ فهي تؤثر في المحتوى نفسه المبلَّغ عنه، وعلى الرغم من أن الزوجين لم يعرفا شيئًا جديدًا من خلال الإبلاغ عنه في هذا المثال، إلا أنه يغيِّر كلَّ شيء. هناك أيضًا فارق كبير بين الشريك الذي لا يتحدَّث ببساطةٍ عن مغامراته السرية، وبين الشريك الذي «يعلن صراحةً أنه لن يتحدَّث عنها» («كما تعلم، أعتقد أن لديَّ الحق في عدم إخبارك بجميع علاقاتي؛ فهناك جزء من حياتي لا يهمك!»). في الحالة الثانية، التي يتم فيها التصريح علنًا بالاتفاق الضمني غير المعلَن، لا يمكن لهذه الجملة نفسها إلا أن تضفيَ طابعًا عدوانيًّا إضافيًّا.
ما نتعامل معه هنا هو الفجوة التي لا يمكن تجاوزها بين المحتوى المعلَن أو المصرَّح به، وفعل الإعلان أو التصريح الذي يناسب الكلام البشري. في الأوساط الأكاديمية، الطريقة المهذَّبة لقول إننا وجدنا مداخلة زميلنا أو حديثه غبيًّا ومملًّا يكون بقول: «كانت مداخلة مثيرة للاهتمام.» ولذا، إذا صارحنا زميلنا بدلًا من ذلك بقولنا: «كانت مداخلة مملة وغبية»، فسيكون له كامل الحق في الاندهاش وطَرْح سؤاله في المقابل: «ولكن إذا وجدتها مملةً وغبية، فلماذا لم تقُل ببساطة إنها مثيرة للاهتمام؟» هذا الزميل المسكين محقٌّ في اعتبار أن التوكيد المباشر ينطوي على ما هو أكثرُ من مجرد التعليق على جودة المداخلة التي ألقاها، كان هجومًا على شخصه.
ألا ينطبق ذلك على اعتراف الممثلين الرفيعي المستوى في الإدارة الأمريكية علنًا بممارسات التعذيب؟ الرد الشائع والمقنع في ظاهره على أولئك الذين يُبدون قلقَهم من هذه الممارسات الأمريكية الأخيرة في تعذيب السجناء المشتبَه فيهم أنهم إرهابيون هو: «لِمَ كلُّ هذا الضجيج؟ تعترف الولايات المتحدة الأمريكية ببساطة وعلانية بتلك الممارسات التي ليست حكرًا عليها وحدَها، وإنما تمارسها بلدان أخرى أيضًا، وهي ممارسات كانوا وما زالوا يفعلونها طوال الوقت. كل ما هنالك أننا نحن الولايات المتحدة قرَّرنا أن نكون أقلَّ رياءً ومداهنة!» ولكن هذا يقودنا إلى الرد بسؤال بسيط في المقابل: «إذا كان الممثلون الأمريكيون الرفيعو المستوى يريدون الاعتراف حقًّا، فلماذا يخبروننا الآن؟ لماذا لا يَلزمون الصمت، كما فعلوا من قبل؟» عندما نسمع أشخاصًا مثل ديك تشيني يدلون بتصريحات سافرة حول ضرورة التعذيب، يجب أن نسألهم: «إذا كنت تريد تعذيب المشتبَه فيهم أنهم إرهابيون في السر، فلماذا تصرِّح بذلك علانية؟» أي إن السؤال الذي يجب طرحه هو: ما الرسالة الإضافية التي يرمي إليها هذا التصريح العلني، وما الذي دفعك إلى الإدلاء به؟
ينطبق الأمر نفسه على نقيض التصريح: يمكن للفعل الذي ينطوي على كتمان شيءٍ بعينه أو إخفائه أن يخلق معنًى إضافيًّا، وهو بذلك لا يقل في أثره عن الفعل القائم على ذكرِ أشياءَ زائدةٍ عن اللزوم. عندما تحدَّث كولن باول في فبراير ٢٠٠٣ إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة من أجل الحصول على تأييدها في شنِّ هجوم على العراق، طلب الوفد الأمريكي تغطيةَ اللوحة الجدارية الكبيرة الموجودة خلف منصة المتحدِّث — وهي نسخة طِبق الأصل من لوحة «جرنيكا» لبيكاسو — بزخرفة بصرية مختلفة. وعلى الرغم من إصدار تفسير رسمي بأن جرنيكا ليست الخلفية البصرية المناسبة لخطاب باول المذاع تليفزيونيًّا، فإن ما كان الوفد الأمريكي يخشاه لم يكن خفيًّا على أحد؛ إذ كانوا يخشون أن تثير لوحة جرنيكا — وهي اللوحة التي تخلِّد ذكرى النتائج الكارثية للقصف الجوي الألماني للمدينة الإسبانية خلال الحرب الأهلية — «ارتباطاتٍ مغلوطة» بظهورها في خلفية خطاب باول، الذي يدعو إلى قصف العراق على أيدي القوات الجوية الأمريكية، التي تفوق بكثير القوات الألمانية في قصف المدينة الإسبانية. هذا ما يعنيه لاكان عندما يدَّعي أن الكتمان ونقيضه هما عملية واحدة: فلو أن الوفد الأمريكي لم يطلب إخفاءها، فلربما ما كان أحدٌ ليربط خطاب باول باللوحة المعروضة خلفه، بيدَ أن هذه الإيماءة بالتحديد هي ما لفتت الانتباه إلى وجود تلك الصلة وأكَّدت صحتها.
لنستعرض شخصية جيمس جيسوس أنجليتون الفريدةَ، آخر محاربي الحرب الباردة. ترأس أنجليتون هيئة مكافحة التجسس في وكالة الاستخبارات المركزية مدة عقدَين تقريبًا، حتى عام ١٩٧٤، وكانت مهمته هي الكشف عن الخونة داخل صفوفها. كان أنجليتون يتميز بشخصية قوية وطِباع فريدة للغاية، وكان مثقَّفًا وواسع الاطلاع (كان صديقًا مقربًا إلى تي إس إليوت، حتى إنه كان يشبهه من الناحية البدنية)، وكان يعاني جنونَ الارتياب (البارانويا). كانت فرضية عمله هي إيمانه المطلَق بما يسمَّى المؤامرة الكبرى: خديعة كبيرة تنسِّقها لجنة سرية في الاستخبارات السوفييتية تتخذ شكل «منظمة داخل المنظمة»، وهدفها اختراق شبكة الاستخبارات الغربية والسيطرة التامة عليها؛ ومن ثمَّ إلحاق الهزيمة بالغرب. لهذا السبب، فصلَ أنجليتون جميعَ المنشقين عن الاستخبارات السوفييتية تقريبًا، على الرغم من المعلومات القيمة التي قدَّموها إليه، وذلك بدعوى أنهم منشقون مزيفون، بل وصل به الأمر أحيانًا أنه كان يُعيدهم إلى الاتحاد السوفييتي (حيث حُوكموا هناك وأُعدِموا؛ لأنهم كانوا منشقين فعلًا). كانت النتيجة النهائية لعهد أنجليتون هي الشلل الكامل؛ فلم يحدث أن اكتُشفَ خائن حقيقي واحد وقُبض عليه في عهده. ولا عجبَ أن كلير بيتي — وهو أحد كبار المسئولين في هيئة أنجليتون — فاقم جنونَ الارتياب لدى رئيسه، وأوصله إلى ذُروته المنطقية المبطلة لذاتها في النهاية، وذلك بعد تحقيق طويل وشامل مُفاده أن أناتولي جوليتسين (المنشقَّ الروسي الذي كان أنجليتون يشاركه جنونَ الارتياب نفسه) مزيفٌ، وأن أنجليتون نفسه هو الخائن الكبير الذي نجح في شَل نشاط الاستخبارات الأمريكية في مقابل الاتحاد السوفييتي.
يميل المرء إلى أن يتساءل هنا: ماذا لو كان أنجليتون هو نفسه جاسوسًا يتخذ من قصة البحث عن جاسوس ذريعةً لتبرير أفعاله (كما في رواية «لا مفرَّ» لكيفن كوستنر)؟ ماذا لو كانت المؤامرة الحقيقية للاستخبارات الروسية هي الإيهام بوجود مؤامرة كبرى، وهو ما سيؤدي بدوره إلى تعطيل جهود وكالة الاستخبارات المركزية، والتخلص من أي مُنشقين مستقبليين عن الاستخبارات الروسية؟ في كلتا الحالتين، اصطبغت الخديعة الكبرى بطابع الحقيقة نفسها: كانت هناك مؤامرة كبرى (وهي فكرة «الإيهام بوجود المؤامرة الكبرى»)؛ وكان هناك جاسوس في معقل وكالة الاستخبارات المركزية (وهو أنجليتون نفسه). هنا تكمُن حقيقة الشخص المصاب بجنون الارتياب: إنه هو نفسه المؤامرة الهدَّامة التي يقاتل ضدها. اللافت في هذا الحل — وما يحيل أصابع الاتهام النهائية إلى ارتياب أنجليتون — أنه لا يهم إذا كان أنجليتون قد انخدع بحُسن نية من جانبه بفكرة المؤامرة الكبرى، أو إذا كان هو الجاسوس فعلًا: فالنتيجة واحدة في كلتا الحالتين. يكمُن الخداع في كوننا لم نَضَع فكرة الارتياب (الشامل) ضمن قائمة المشتبَه فيهم.
ولنستعرض القصة القديمة عن العامل المشتبَه في ارتكابه السرقة: في كل مساء، عندما يغادر العامل المصنع، كان الحراس يفتشون العربةَ التي يدفعها أمامه بعناية، لكنهم لم يتمكنوا من العثور على أي شيء، كانت العربة فارغة دائمًا. وفي النهاية فطِنوا إلى حقيقة الأمر، وهي أن العامل كان يسرق العربات نفسَها. وهكذا ينطوي فعلُ التواصل على حيلة انعكاسية: يجب ألا ننسى أن نضمِّن في محتوى التواصل فِعلَ التواصل نفسَه؛ حيث إن معنى كل فعلٍ تواصلي هو أيضًا تأكيدٌ بطريقةٍ انعكاسيةٍ أنه فعلٌ تواصلي. هذا هو الشيء الأول الذي يجب أن نضعه في الاعتبار فيما يخصُّ الطريقة التي يعمل بها اللاوعي: إنه ليس مخفيًّا في العربة، بل هو العربة نفسُها.