الفصل الثاني

الذات الخاملة: لاكان يدير عجلةَ الصلاة

ما الجوقةُ؟ سيُقال لكم إنها تمثِّلكم أنتم أنفسكم. أو ربما أنها ليست أنتم. لكن ليس هذا هو بيت القصيد. هناك وسائلُ متضمَّنة هنا، وهي وسائلُ وجدانية. وفي رأيي، الجوقة هي الناس الذين يتأثرون وجدانيًّا.

ومن ثمَّ، أمعِن النظر جيدًا قبل أن تقول لنفسك إن انفعالاتك الوجدانية مُشارِكة في هذا التطهير. إنها مُشارِكة، جنبًا إلى جنب مع أشياءَ أخرى، وفي النهاية لا بد من تهدئتها بحيلة أو نحو ذلك. لكن هذا لا يعني أن لها حضورًا مباشرًا. فمن ناحية، لا شك أنها كذلك، وأنت حاضر في شكل مادة يمكن استخدامها، ولكن من ناحية أخرى، تلك المادة أيضًا غير مبالية تمامًا. عندما تذهب إلى المسرح في المساء، تكون منشغلًا بأمور حدثَت خلال يومك، بالقلم الذي فقدتَه، بالشيك الذي سيتعيَّن عليك توقيعه في اليوم التالي. ولذا، فلا تعوِّل على نفسك كثيرًا. إذ يتكفَّل الإعداد السليم للمشهد على خشبة المسرح بجانبك الوجداني وانفعالاتك. الجوقة تتكفَّل بها. وتتولَّى التعقيب الانفعالي بالنيابة عنك.1

على الرغم من أن المشهد الذي أورده لاكان هنا هو مشهد شائع جدًّا — أناس في المسرح يستمتعون بأداء مسرحية تراجيدية يونانية — فإن قراءة لاكان للمشهد وتفسيره له يوضحان أن هناك شيئًا غريبًا يحدُث: كأن هناك شخصية أخرى — وهي الجوقة في هذه الحالة — يمكنها أن تحلَّ محلنا، وتشعر بالنيابة عنا بمشاعرنا الأكثر عمقًا وتلقائية، بما في ذلك البكاء والضحك. في بعض المجتمعات، يؤدي هذا الدورَ نفسَه ما يسمَّى ﺑ «النائحات/البكَّاءات» (النساء المستأجَرات للنحيب والعويل في الجنازات): يمكنهن أداءُ مشهد الحِداد بالنيابة عن أقارب المتوفَّى، الذين يمكنهم تكريسُ وقتهم لأمور مجدية أكثر (مثل تقسيم الميراث). يحدث شيء مماثل مع عجلات الصلاة في التِّبت: إذ يكتب المرءُ الصلاة على ورقة ويربطها بالعجلة، ويديرها آليًّا (أو يدَعها للرياح والماء يديرانها)، وتصلي العجلة بالنيابة عنه — وكما كان الستالينيون سيُعبِّرون عن هذا، فإن المرء هنا يصلي صلاةً «موضوعية غير ذاتية»، حتى لو كان فكره مشغولًا بأكثر التخيُّلات الجنسية فُحشًا وخلاعة. ولتبديد الفكرة المغلوطة بأن مثل هذه الأمور يمكن أن تحدُث فقط في المجتمعات «البدائية»، فكِّر في أصوات الضحك المسجَّلة في برنامج تليفزيوني، عندما يُضمَّن ردُّ فعلِ الضحك على مشهد كوميدي في الموسيقى التصويرية نفسها. فحتى لو لم أضحك وكنتُ ببساطة أحدِّق إلى الشاشة، وأنا متعَبٌ بعد يوم عمل شاقٍّ، فسأشعر بالراحة بعد العرض، كأن مقطع الموسيقى التصويرية قد ضحكَ بالنيابة عني.

لفهم هذه العملية الغريبة جيدًا، يجب أن نكمل المفهومَ الشائع للتفاعلية بنظيره غير المألوف، وهو الخمولية.2 من الشائع الآن التأكيدُ أن الاستهلاك اللاتفاعلي الخامل للنص أو العمل الفني قد انتهى مع ظهور وسائل الإعلام الإلكترونية الجديدة: فلم يَعُد المُشاهد يحدِّق فقط إلى الشاشة، بل يتفاعل معها على نحوٍ متزايد، ويدخل في علاقة حوارية معها (بدءًا من اختيار البرامج، ومرورًا بالمشاركة في المناقشات داخل مجتمع افتراضي، وانتهاءً إلى تقرير خاتمة الحبكة مباشرةً فيما يسمَّى ﺑ «السرد التفاعلي»). عادةً ما يركِّز الذين يُشيدون بالإمكانات الديمقراطية لوسائل الإعلام الجديدة على هذه الميزات بالتحديد: كيف أن الفضاء الإلكتروني أتاح الفرصةَ لأغلبية كبيرة من الناس للخروج من دور المتابِع السلبي الذي يتابع مشهدًا من إعداد الآخرين، وللمشاركة بفاعلية ليس فقط في المشهد، ولكن أيضًا التدخُّل أكثرَ فأكثر في تحديد قواعد المشهد.

الجانب الآخر من هذه التفاعلية هو الخمولية. الوجه الآخر للتفاعل مع الموضوع (بدلًا من مجرد متابعة المشهد سلبيًّا) هو الحالة التي ينتزع فيها الموضوعُ من المُشاهد سلبيتَه، ويحرِمه منها، بحيث يصبح الموضوع نفسه هو الذي يستمتع بالمشهد بدلًا منه، فيعفيه من واجب الاستمتاع بالمشهد بنفسه. يعلم معظمُ محبي أجهزة تسجيل شرائط الفيديو — الذين يسجِّلون الأفلام قسريًّا (وأنا من بينهم) — أن التأثير المباشر لامتلاك مسجِّل فيديو هو مشاهدة عدد أقل فعليًّا من الأفلام على جهاز التليفزيون البسيط، مقارنةً بما كان عليه الوضع في الماضي. لم يَعُد لدى المرء متَّسع من الوقت لمشاهدة التليفزيون؛ ومن ثَم، بدلًا من إهدار أمسيَّة رائعة، يمكن للمرء تسجيل الفيلم ببساطة وتخزينه بغرض مشاهدته لاحقًا (ولم يكن الأمر بالطبع يتَّسع لذلك البتة). فعلى الرغم من أن المرء لا يشاهد الأفلام في الواقع، فإن الوعي بأن الأفلام التي يحبُّها مخزَّنة في مكتبة الفيديو الخاصة به يمنحه شعورًا عميقًا بالرضا، ويتيح له أحيانًا الاسترخاء ببساطة والاستمتاع بفن «فِعل لا شيء» — كأن جهاز الفيديو وبطريقةٍ ما «يشاهدها بالنيابة عنه، وبدلًا منه». جهاز الفيديو هنا يمثِّل الآخر الكبير، وسيلة التسجيل الرمزي. ويبدو أنه حتى الإباحية تتَّجه اليوم أكثرَ وأكثر إلى الآلية الخمولية: فالأفلام الإباحية لم تَعُد بالأساس وسيلةً لإثارة المشاهد لعملية الاستمناء الفردي؛ فمجرد النظر إلى الشاشة حيث «تحدُث الأحداث» كافٍ، أي يكفي المُشاهد أن يراقب كيف يستمتع الآخرون بالنيابة عنه.

وإليكم مثالًا آخرَ على الخمولية: نعلم جميعًا المشهد المحرِج الذي يروي فيه الشخص نكتةً مبتذلة غير مضحكة، وعندما لا يضحك أحدٌ ينفجر هو نفسه في الضحك، مكررًا قوله: «كانت مضحكة!» أو معلِّقًا بتعليق مماثل؛ أي إنه يمثِّل بنفسه ردةَ الفعل المتوقَّعة من الجمهور. الوضع هنا مشابِه للضحكات المسجلة، ولكنه مختلف عنها؛ فالفاعل الذي يضحك بدلًا عنا (أي نضحك نحن من خلاله، نحن الجمهورَ الشاعر بالضيق والحرج) ليس هو الآخر الكبير المجهول للجمهور الاصطناعي غير المرئي، بل هو نفسه الشخص الذي يروي النكتة. فضحكته القهرية مشابِهة لتعبيرات مثل «بئسًا!» التي نشعر أننا مضطرون إلى نطقِها عندما نتعثر أو نفعل شيئًا أحمقَ. الغريب في هذه الحالة الأخيرة أنه من الممكن أيضًا لشخصٍ آخر شهِد فقط الخطأ الذي ارتكبناه أن يقول «بئسًا!» بدلًا عنا، وينجح الأمر. وظيفة هذا التعبير هي تنفيذُ التسجيل الرمزي للعثرة الحمقاء: يجب إبلاغ الآخر الكبير الافتراضي عنها. استعرض الموقف المحرج التقليدي الذي يعرف فيه جميع الأشخاص في مجموعة مغلقة بعضَ التفاصيل السافِلة (ويعرفون أيضًا أن الآخرين جميعهم يعرفونها)، ولكن عندما يفشي أحدهم هذه المعلومةَ عن غير قصد، يشعرون جميعًا بالحرج … لماذا؟ إذا لم يكتشف أحدٌ شيئًا جديدًا، فلماذا يشعرون جميعًا بالحرج؟ لأنهم لم يعودوا قادرين على التصرف (التظاهر) كما لو أنهم لا يعرفونه — بمعنًى آخر؛ لأن الآخر الكبير يعرفه الآن. في هذا تكمُن عظة «ملابس الإمبراطور الجديدة» لهانس كريستيان أندرسون: يجب ألا نقلِّل أبدًا من شأن المظاهر. في بعض الأحيان، عندما نهمل المظاهر عن غير قصد، يتداعى جوهر الشيء نفسُه الكامن وراء الشكل الظاهري.

تقف هذه الخمولية على النقيض من مفهوم هيجل عن «دهاء العقل»، حيث «أكون فاعلًا من خلال الآخر الكبير»: يمكنني أن أظل سلبيًّا، أن أجلس بارتياح في الخلفية، بينما يقوم الآخر الكبير بالفعل نيابةً عني. فبدلًا من طرْق المعدِن بالمطرقة، يمكن للآلة أن تفعل ذلك نيابةً عني؛ بدلًا من تدوير عجلة الطاحونة بنفسي، يمكن للماء أن يفعل ذلك: أن أحقِّق هدفي عن طريق توسيط موضوع طبيعي آخر بيني وبين الموضوع الذي أنا بصدده. ويمكن أن يحدُث الأمر نفسُه على المستوى الشخصي: فبدلًا من مهاجمة عدوي مباشرةً، أختلقُ نزاعًا بينه وبين شخص آخر، فيمكنني بذلك مشاهدةُ الاثنَين وكلٌّ منهما يدمِّر الآخر دون عناءٍ من جانبي. (يرى هيجل أن هذه هي الطريقة التي تسود بها «الفكرة المطلقة» على مدار التاريخ. إنها تظل خارج الصراع، فتترك أهواء البشر تقوم بالعمل نيابةً عنها من خلال صراعاتهم المتبادَلة. لقد تحقَّقت الضرورة التاريخية للانتقال من الجمهورية إلى الإمبراطورية في روما القديمة، عن طريق استخدام شغفِ يوليوس قيصر وطموحاته أداةً لها.) ولكن في حالة الخمولية، على العكس من ذلك، أكون سلبيًّا من خلال الآخر الكبير: أتنازل للآخر الكبير عن الجانب السلبي من تجربتي (الاستمتاع) بينما يمكنني أن أظلَّ منهمكًا بفاعلية ونشاط (يمكنني مواصلة العمل مساءً، بينما يستمتع مسجِّل شرائط الفيديو نيابةً عني؛ يمكنني اتخاذ الترتيبات المالية فيما يتعلَّق بثروة المتوفَّى، بينما يتولَّى الناحِبات الحِداد عليه نيابةً عني). هذا يقودنا إلى مفهوم النشاط الزائف: فالناس لا يتصرفون فقط من أجل تغيير شيءٍ، بل يمكنهم أيضًا أن يتصرفوا من أجل منْع حدوث شيءٍ، بحيث لا يتغير شيء. وهنا تكمُن الاستراتيجية التقليدية لمريض العُصاب الوسواسي: فهو يُبدي نشاطًا محمومًا من أجل الحيلولة دون حدوث الشيء الواقعي. لنضرب مثلًا بموقفٍ في سياق مجموعة يُنذِر فيها شيء من التوتر بانفجار الموقف، سيتحدَّث مريض العُصاب الوسواسي طوال الوقت؛ من أجل مَنْع لحظة الصمت المحرجة التي ستجبر المشاركين على مواجهة التوتر الكامن على رءوس الأشهاد. في العلاج النفسي التحليلي، يتحدَّث مرضى العُصاب الوسواسي باستمرار، فيغمرون المحلِّل بالحكايات والأحلام والرؤى: ويدعم نشاطَهم المتواصل هذا خوفٌ كامن من أن المحلِّل سيطرح عليهم السؤالَ المهم حقًّا إذا هم كفُّوا عن الحديث لحظةً — بعبارة أخرى، يتحدثون من أجل إبقاء المحلِّل صامتًا.

حتى في الكثير من أمور السياسة التقدمية اليوم، لا يكمُن الخطر في السلبية والخمول ولكن في النشاط الزائف؛ أي الرغبة في الفاعلية والمشاركة. فالناس يتدخَّلون دومًا، يحاولون «القيام بشيءٍ ما»، والأكاديميون يشاركون في مناقشاتٍ عقيمة لا معنَى لها؛ الأمر الصعب حقًّا يتمثل في التراجع والانسحاب من المشهد. غالبًا ما يفضِّل أصحابُ السلطة والنفوذ المشاركةَ النقدية على الصمت؛ وذلك بهدف إشراكنا في حوار، لضمان كسر حاجز سلبيتنا المهدِّدة بالخطر وخمولنا المشئوم. والواقع أن الخطوة النقدية الأولى إزاء هذا النمط الخمولي، الذي نكون فيه فاعلين دومًا للتأكد من أن شيئًا لن يتغير حقًّا، إنما تتمثَّل في الرضوخ إلى السلبية والإحجام عن المشاركة. هذه الخطوة الأولى تمهِّد الأرض لنشاط حقيقي، لعملٍ من شأنه أن يغيِّر بفاعلية إحداثيات المشهد.

ينطوي المفهوم البروتستانتي للجبرية على شيءٍ مشابه للنشاط الزائف. المفارقة في الجبرية هي أن اللاهوت الذي يدَّعي أن مصيرنا قد تحدَّد سلفًا وأن خلاصنا لا يعتمد على أفعالنا، كان أداةً لشرعنة الرأسمالية، ذلك النظام الاجتماعي الذي أحدث رواجًا في النشاط الإنتاجي غير المسبوق في تاريخ البشرية. حقيقةُ أن الأمور محدَّدة مسبقًا — أن موقفنا تجاه القدَر هو موقف الضحية السلبية الخاملة — تدفعنا إلى الانخراط في نشاطٍ محموم لا ينقطع. فنحن نتصرف طوال الوقت من أجل الحفاظ على بقاء الآخر الكبير وثبوته (وهو «الإله» في هذه الحالة).

تقع إزاحتنا هذه لمشاعرنا ومواقفنا الأكثرِ حميميةً إلى إحدى صور الآخر الكبير في صميم مفهوم لاكان عن الآخر الكبير؛ إذ يمكن أن يؤثِّر ذلك ليس فقط على المشاعر ولكن أيضًا على المعتقَدات والمعرفة؛ فالآخر الكبير يمكنه أيضًا الاعتقادُ والمعرفة نيابةً عني. وللإشارة إلى إزاحة المعرفة من ذاتٍ إلى أخرى، صاغ لاكان مفهومَ «الذات التي من المفترض أنها تعرف». في المسلسل التليفزيوني «كولومبو»، تُعرَض الجريمة — جريمة القتل — بالتفصيل منذ البداية؛ بحيث يصبح اللغز الذي يتعيَّن حلُّه ليس معرفة القاتل، ولكن الوقوف على الكيفية التي سيقيم بها المحقِّق الرابط بين السطحِ الخادع (أي «المحتوى الظاهر» لمسرح الجريمة، حسب المصطلح الذي استخدمه فرويد في نظريته عن الأحلام) والحقيقةِ حول الجريمة («فكرتِها الكامنة»): كيف سيثبت الجُرم على المذنب ويحمِله على الاعتراف. نجاح «كولومبو» يدلُّ على حقيقةِ أن ما يسترعي الاهتمامَ في عمل المحقِّق هو عملية حل اللغز نفسُها، وليس نتيجتها.

والأهم من هذه السِّمة هو حقيقة أننا، نحن المشاهدين، نعرف القاتل مسبقًا (لأننا نرى الجريمة مباشرةً أثناء ارتكابها)، ولكن، المحقِّق كولومبو نفسَه يعرف ذلك على الفور وعلى نحوٍ يتعذر تفسيره: ففي اللحظة التي يزور فيها مسرحَ الجريمة ويلتقي بالمذنب، يكون متأكدًا تمامًا ويعرف ببساطة أنه مَن فعلَ ذلك. وكلُّ ما يبذله من جهود بعد ذلك لا يتعلق بحل اللغز «مَن فعل ذلك؟»، ولكن يتعلق بكيفية إثبات التهمة على المذنب وحمْلِه على الاعتراف بجُرمه. هذا العكس الغريب للترتيب الطبيعي له دلالاتٌ لاهوتية: في أصول الإيمان الديني، أنا أومن أولًا بالله ثم —على أساس إيماني هذا — أصبحُ مستعدًّا للتعرض للأدلة المتعلقة بحقيقة إيماني وقابلًا للتأثُّر بها؛ وهذا أيضًا ما حدث مع كولومبو، حيث يعرف أولًا بيقينٍ غامض — ولكنه لا يخطئ مطلقًا — مَن القاتل، ثم على أساس هذه المعرفة المتعذِّرِ تفسيرُها، يبدأ في جمع الأدلة.

يؤدي المحلِّل النفسي دورَه في العلاج بوصفه «الذات التي من المفترَض أنها تعرف»، ولكن بقليل من الاختلاف: بمجرد أن ينخرط المريض في العلاج، يكون لديه اليقين المطلق نفسه بأن المحلِّل «يعرف» سرَّه (مما يعني أن المريض «مذنب» مسبقًا بإخفاء سر، وأن هناك دلالة سرية يجب استخلاصها من أفعاله). وليس المحلِّل بباحث تجريبي، يستجوب المريض بفرضياتٍ مختلفة، بحثًا عن الأدلة؛ ولكنه، عوضًا عن ذلك، يجسِّد اليقين المطلق (الذي يقارنه لاكان بيقين ديكارت «أنا أفكِّر، إذن أنا موجود») فيما يتعلق بالرغبة اللاواعية لدى المريض. وفقًا للاكان، توجيهي لِما أعرِفه بالفعل في اللاوعي الخاص بي إلى شخص المحلِّل هو جوهر ظاهرة الانتقال (التحويل) في العلاج: لا يمكنني الوقوفُ على الدلالة اللاواعية لأعراضي إلا إذا افترضت مسبقًا أن المحلل على دراية بمعناها بالفعل. الفرقُ بين فرويد ولاكان أن فرويد ركَّز على الديناميات النفسية للتحويل بوصفه علاقةً بين ذاتٍ وأخرى (المريض ينقل إلى المحلل مشاعره تجاه والده؛ بحيث إنه عندما يبدو أنه يتحدث عن المحلل، فإنه «في الواقع» يتحدث عن والده)، في حين أن لاكان استخلص الهيكلَ الصوري للدلالة المفترضة مسبقًا من كمِّ المعلومات التجريبية الهائلة عن ظاهرة التحويل.

هناك قاعدة أكثرُ تعميمًا يُعَدُّ التحويل مثالًا عليها، وهي أن ابتكار أي محتوًى جديد، في كثير من الأحيان، لا يمكن أن يحدث إلا في الشكل الوهمي للعودة إلى حقيقة أصلية سالفة. وعودةً إلى موضوع البروتستانتية، فقد قام لوثر بأكبر ثورة في تاريخ المسيحية معتقِدًا أن كلَّ ما فعله بذلك أنه أماط اللثامَ عن الحقيقة التي أخفَتْها قرونٌ من الاضمحلال الكاثوليكي. ينطبق الأمر نفسُه على النهضة الوطنية لأمة من الأمم: فعندما تُعرِّف الجماعات العِرقية نفسَها بأنها دول قومية، فإنها عادةً ما تصوغ هذا التعريف على أنه عودة إلى الجذور العِرقية القديمة المندثرة. ويغيب عن أذهان هذه الجماعات أن «عودتَهم» تلك تشكِّل الموضوع نفسَه الذي يعودون إليه: إن عودتهم إلى التراث هي في حد ذاتها ابتكار له. وكما يعرف المؤرخون، فقد ابتُكرت التنورة الاسكتلندية (بالصورة التي نعرفها بها اليوم) خلال القرن التاسع عشر.

ما يغفُل عنه كثيرٌ من قراء لاكان هو أنَّ شكل الذات التي من المُفترَضِ أنها تعرف، يُعدُّ ظاهرةً ثانوية، استثناءً، شيئًا ينبثق في مواجهة الخلفية الأكثر جوهريةً وهي خلفية «الذات التي من المُفترَضِ أنها تعتقد»، والتي تشكِّل السِّمة الأساسية للنسق الرمزي.3 وفقًا لطرفةٍ معروفة في الأنثروبولوجيا، عندما سُئلت الشعوب البدائية التي نُسبت إليهم بعض المعتقَدات الخرافية (مثل أنهم ينحدرون من سمكة أو من طائر)، عن هذه المعتقَدات مباشرةً، أجابوا: «بالطبع لا، نحن لسنا بهذه السذاجة! لكن قيل لنا إن بعض أجدادنا كانوا يعتقدون ذلك فعلًا». باختصار، حوَّلوا معتقَدهم إلى آخرين. ألسنا نفعل الشيء نفسَه مع أطفالنا؟ إننا نحتفل بسانتا كلوز؛ لأن أطفالنا يؤمنون به (أو يُفترض أنهم كذلك) ونحن لا نريد أن نخيِّب ظنهم؛ ويتظاهرون هم بالإيمان به حتى لا يخيبوا ظنَّنا واعتقادَنا في سذاجتهم (وللحصول على الهدايا بالطبع). أليس ما يدفعنا في رغبتنا في وصمِ أحدهم بأنه أصوليٌّ ديني أو عِرقي هو هذه الحاجة إلى إيجادِ آخرَ «يعتقد ذلك حقًّا»؟ ويبدو دائمًا أن بعض المعتقدات تنتهج طريقةً غريبة للعمل عن بُعد: فمن أجل أن يؤدِّيَ المعتقَد دوره، يجب أن يوجد ضامن نهائي له، مؤمن حقيقي به، ولكن هذا الضامن دائمًا ما يكون مؤخَّرًا ومعزولًا، فهو لا يكون حاضرًا أبدًا بشخصه. كيف إذن يكون الاعتقاد ممكنًا؟ كيف نخرج من هذه الدائرة المفرَغة للمعتقَد المرحَّل إلى الآخر؟ تكمُن الفكرة بالطبع في أن المعتقَد لا يحتاج إلى وجود ذات تؤمن به إيمانًا مباشرًا لكي يكون قائمًا ويؤدِّيَ دوره: يكفي فقط أن نفترض وجوده، أن «نؤمن» به، إما في صورة الشخصية المؤسِّسة الأسطورية التي ليست جزءًا من واقعنا، أو في صورة الفاعل غير الشخصي وغير المحدَّد — «يقولون إن …»/«يُقال إن …».

يبدو أن هذا على أي حال هو الوضع السائد للمعتقَدات في وقتنا الحالي، في عصرنا الذي يستحوذ لنفسه على لقب «العصر ما بعد الأيديولوجي». قدَّم أيضًا نيلز بور، الذي ردَّ بجدارة على مقولة أينشتاين «الإله لا يلعب النَّرد» (حين قال: «لا تملي على الإله ما يفعله!»)، مثالًا رائعًا على آلية عمل الإنكار الفيتيشي للمعتقَد من الناحية الأيديولوجية. فحين رأى أحدُ زوَّار بور حَدْوة حصان على بابه واندهش لذلك، علَّق بأنه لا يؤمن بخرافة أنها تجلب الحظ. فعاجله بور بردِّه: «أنا أيضًا لا أومن بذلك، لكني أعلِّقها لأنهم قالوا لي إنها تؤدي عملها حتى لو لم يكن المرء يؤمن بها!» ربما هذا هو سببُ بروز «الثقافة» بوصفها المقولة الرئيسية في حياة المرء. ففيما يتعلَّق بالدِّين، نحن لم نَعُد «نؤمن بحق»، نحن فقط نتَّبع (مختلف) الطقوس والسلوكيات الدينية على أنها جزء من احترام «أسلوب الحياة» في المجتمع الذي ننتمي إليه (قد يتَّبع اليهود غير المؤمنين قواعدَ الشريعة اليهودية «احترامًا للتقاليد»). يبدو أن التعبير «أنا لا أومن حقًّا به، إنه جزء من ثقافتي وحسب» هو النمط السائد للإيمان المعزول الذي يميِّز عصرنا. إن «الثقافة» هي الاسم الذي نطلقه على كل تلك الأشياء التي نمارسها دون أن نؤمن حقًّا بها، دون أن نأخذها على محمل الجِد. هذا هو السبب في أننا نرفض المؤمنين الأصوليين بوصفهم «بربريين»، معادين للثقافة ويشكِّلون تهديدًا لها؛ لأنهم تجرءوا على أخذ معتقداتهم على محمل الجِد.

يبدو أننا هنا بصدد الظاهرة التي وصفها بليز باسكال منذ فترة طويلة في نصيحته لغير المؤمنين الذين يَودُّون أن يؤمنوا، ولكنهم لا يستطيعون أن يحمِلوا أنفسهم على تحقيق طفرة في إيمانهم؛ إذ قال: «اسجُد، وصلِّ، وتصرَّف كما لو كنت مؤمنًا، وسيأتي الإيمان من تلقاء نفسه». أو كما يعبِّر عنها مجتمع «مدمني الكحول المجهولين» على نحوٍ أكثرَ اختصارًا: «تظاهر بالأمر حتى تحقِّقه». لكننا اليوم وفي ظل ولائنا لأسلوب الحياة الثقافي، نقلب منطقَ باسكال رأسًا على عقِب: «هل تؤمن إيمانًا مبالغًا فيه وعفويًّا تمامًا؟ هل تجِد إيمانك مكبَّلًا في براثن طابعه الخام المباشر؟ إذن اسجُد، وتصرَّف كما لو كنت تؤمن، عندئذٍ سوف تتخلَّص من إيمانك — لن تُضطر بعد الآن إلى الإيمان بنفسك؛ لأن إيمانك سيتموضع في فعل صلاتك!» بعبارة أخرى، ماذا لو كان الشخص يسجد ويصلي كثيرًا ليس ليكون اعتناقُه لمعتَقَده أشدَّ، بل للتنصُّل منه ومن سطوته، وليكفُل لنفسه مساحة للتنفس؟ إن الإيمان — المباشر الذي يخلو من الوساطات — لعبء ثقيل يمكن، لحسن الحظ، وضْعه على كاهلِ الآخر من خلال ممارسة الطقوس.4

هذا يقودنا إلى الخاصية التالية للنسق الرمزي، وهي طابعه غير النفسي. عندما أومن من خلال الآخَر، أو عندما أجسِّد معتقداتي في الشعائر التي أؤديها بصورة آلية، عندما أضحك من خلال أصوات الضحك المسجَّلة، أو أمارس الحِداد من خلال الناحِبات والندَّابات، فإنني حينئذٍ أنجز مهمة تتعلق بمشاعري ومعتقَداتي الداخلية، دون أن أستنفر حقًّا هذه الحالات الشعورية الداخلية. هنا يكمُن الوضع الغامض لما نسميه «الكِياسة»: فأنا عندما ألقى أحدَ معارفي أمدُّ يدي وأقول «سعيدٌ برؤيتك! كيف حالك اليوم؟»، ويكون من الواضح لكلَينا أنني لست جادًّا تمامًا (وإذا اشتبه الرجل في أنني مهتم حقًّا، فقد ترتسم على وجهه علاماتُ اندهاش غير سارة، كما لو كنت أستهدف شيئًا غير ملائم وليس من شأني — أو، بإعادة صياغة الأطروفة الفرويدية القديمة، «لماذا تقول إنك سعيدٌ لرؤيتي ما دمتَ كذلك حقًّا؟»). ومع هذا، لا يزال من الخطأ اعتبارُ صنيعي هذا ضربًا من النفاق؛ لأنني أعنيه بالفعل بأسلوب آخر: فالحديث المهذَّب يجدد نوعًا من العهد بيننا ويمدِّده؛ وبالمثل أنا أضحك «بصدق» من خلال الضحك المسجَّل (والدليل على ذلك أنني أشعر حقًّا بالارتياح بعدها).

يعني ذلك أن المشاعر التي أبديها من وراء القِناع (الشخصية الظاهرية الزائفة) الذي أتبناه، يمكن أن تكون بطريقة غريبة أوقعَ وأصدق مما أفترض أنني أشعر به في نفسي. فعندما أنشئ صورةً كاذبة عن نفسي تمثلني في مجتمع افتراضي أشارك فيه (في الألعاب الجنسية، على سبيل المثال، يضطلع الرجل الخجول غالبًا بشخصية امرأة جذابة منحلَّة)، فإن المشاعر التي أشعر بها، وأتظاهر بأنها جزءٌ من شخصيتي الخفية، ليسَت مجرد مشاعر زائفة: فعلى الرغم من أن (ما أعتبرها) ذاتي الحقيقية لا تشعر بها، فإنها مشاعرُ حقيقية بوجهٍ ما. لنفترض أنني في أعماقي شخص متحرِّش وساديٌّ يحلُم بضرب الآخرين من الرجال واغتصاب النساء: في تفاعلي مع الآخرين في الحياة الواقعية، لا يُسمح لي بالتعبير عن هذه الذات الحقيقية؛ ولذا أتبنَّى شخصيةً أكثر تواضعًا وتهذيبًا. في هذه الحالة، أليس من الواضح أن ذاتي الحقيقية أقربُ بكثير إلى الشخصية الخيالية التي أتبنَّاها، بينما ذاتي في تفاعلاتي في الحياة الواقعية هي قناع؟ وللمفارقة، فإن حقيقة أنني أدرك أنني — في الفضاء الإلكتروني — أتحرَّك ضمن الخيال هي ما يسمح لي بالتعبير عن ذاتي الحقيقية هناك — هذا هو ما يعنيه لاكان، من بين أمورٍ أخرى، عندما يزعم أن «للحقيقة بنية الخيال». ومن شأن هذه الحالة التخيُّلية للحقيقة أن تسمح لنا أيضًا بتوضيحِ ما هو زائف بشأن «برامج تليفزيون الواقع» في إيجاز: إن الحياة التي نحصُل عليها من تلك البرامج حقيقية مثلها مثل فنجان القهوة المنزوعة الكافيين. باختصار، حتى لو كانت هذه البرامج «حقيقية»، فإن الناس ما زالوا يمثِّلون فيها؛ إنهم ببساطة «يؤدون أدوارهم». وإخلاء المسئولية المعتاد في الروايات («الشخصيات الواردة في هذا النص خياليةٌ؛ وأي تشابه بينها وبين شخصيات الحياة الواقعية هو محضُ مصادفة») ينطبق هذا أيضًا على المشاركين في مسلسلات تليفزيون الواقع: فما نراه هو شخصياتٌ خيالية، حتى لو كانوا يؤدُّون أدوارهم بحيث تبدو حقيقية. وأفضلُ تعليق على تليفزيون الواقع هو النسخة الساخرة من إخلاء المسئولية هذا والتي استخدمها مؤخرًا كاتبٌ سلوفيني: «جميع الشخصيات الواردة في القصة التالية خيالية، وليست واقعية … لكن شخصيات معظم الذين أعرفهم في الحياة الواقعية هي أيضًا خيالية؛ ولذا فإن إخلاء المسئولية هذا لا يعني الكثير …».

في أحد أفلام الإخوة ماركس، يردُّ جروتشو بغضب عندما ينفضح كذبه: «أيهما ستصدق، عينيك أم كلامي؟» على الرغم من عبثية هذا المنطق الظاهرية، فإنه يعكس على نحوٍ مثالي آلية النسق الرمزي، الذي يكون فيه القناع الاجتماعي أهمَّ بكثير من الواقع المباشر للفرد الذي يرتديه. تتضمن هذه الآلية بنيةَ ما سمَّاه فرويد «التنصُّل الفيتيشي»: «أعرف تمامًا أن الأمور ليست كما أراها، أن الشخص الذي يقف أمامي ضعيف وفاسد، ولكنني أتعامل معه باحترام؛ لأنه يرتدي شارة القاضي، حتى إن القانون نفسه يتحدَّث من خلاله إذا تحدَّث.» ولذا، فإنني بطريقةٍ ما أصدِّق كلامه، وليس عيني. هنا يعجز الساخِر الذي لا يؤمن إلا بالحقائق الراسخة ويقف خالي الوفاض: فعندما يتحدث القاضي، فما يتضمنه كلامه من حق وصدق (الذي يمثل مؤسسة القانون) يفوق ما نجده في الواقع المباشر لشخص ذلك القاضي؛ فإذا قيَّد المرء نفسه بما يرى فقط، فإنه ببساطة يحيد عن الهدف. هذه المفارقة هي التي يرمي إليها لاكان بقوله «أولئك الذين يعرفون يكونون على ضلال»: أولئك الذين لا يدَعون أنفسهم ينغمسون في الخيال الرمزي، ويستمرون في تصديق أعينهم، هم الأضلُّ والأكثر عرضةً للوقوع في الخطأ. إن الساخر الذي يصدِّق عينَيه فقط يفوِّت على نفسه كفاءة الخيال الرمزي، الطريقة التي ينشئ بها هذا الخيال واقعنا ويشكِّله. الكاهن الفاسد الذي يبشر عن الفضيلة قد يكون منافقًا، ولكن إذا ربط الناس بين كلامه وسلطة الكنيسة، فقد يدفعهم ذلك إلى القيام بأعمال صالحة.

هذه الفجوة بين هُويتي النفسية المباشرة وهُويتي الرمزية (القِناع الرمزي الذي أرتديه أو اللقب الذي أحمله فيحدد ما أؤيده وماهيتي في الآخر الكبير) هو ما يسميه لاكان (لأسباب معقَّدة يمكننا تجاهلها هنا) ﺑ «الخِصاء الرمزي»، مع القضيب دالًّا عليه.5 لماذا يُعَدُّ القضيب لدى لاكان دالًّا وليس مجرد عضو للإخصاب؟ في طقوس التنصيب التقليدية، نجد أن الأشياء التي ترمز إلى السلطة من شأنها أيضًا أن تضع الشخص الذي ينالها في موقف ممارسة السلطة — إذا كان الملك يمسك بالصولجان في يديه، ويرتدي التاج، فسوف يُنظر إلى كلامه بوصفه مرسومًا ملكيًّا. هذه مجرد شارات خارجية، ليست جزءًا من طبيعتي: أنا أتَّشح بها؛ أرتديها لممارسة السلطة. على هذا النحو، فإنها «تخصيني» من خلال عمل فجوة بين ما أنا عليه في حيني والوظيفة التي أمارسها (أي إني لا أكون كاملًا أبدًا على مستوى وظيفتي). هذا ما يعنيه المصطلح الشائن «الخِصاء الرمزي»: الخِصاء الذي يحدث بمجرد أن أكون عالقًا في النسق الرمزي، أرتدي قناعًا رمزيًّا أو أحمل لقبًا رمزيًّا. الخِصاء هو الفجوة بين ما أنا عليه في حيني واللقب الرمزي الذي يمنحني مكانةً وسلطة معينة. وبهذا المعنى تحديدًا، يكون الخِصاء مرادفًا للسلطة ولا يكون أبدًا على العكس منها، فهو ما يمنحني السلطة. ولذا يجب ألا ننظر إلى القضيب بوصفه عضوًا يعبِّر من دون واسطة عن قوَّتي البيولوجية، ولكن بوصفه نوعًا من الشارات، قناعًا أرتديه بنفس طريقة ارتداء الملك أو القاضي شارتَيهما — القضيب هو عضوٌ بلا جسد، أرتديه ويلتصق بجسدي، ولكنه ليس أبدًا جزءًا عضويًّا منه، يظل يَبرُز دائمًا طرفًا صناعيًّا زائدًا وغيرَ متناسق.
بسبب هذه الفجوة، لا يمكن للذات أبدًا التماهي الكامل والفوري مع قِناعها أو لقبها الرمزي؛ فالهستيريا هي ما يتعلَّق بارتياب المرء بشأن لقبه الرمزي: «لماذا أكون ما تقول إنه أنا؟» أو، لنقتبِس من جولييت لشكسبير: «لماذا اسمي هو هذا الاسم؟» هناك شيء من الحقيقة في الجناس اللفظي بين كلمتَي «الهستيريا» و«الهستوريا» (كلتا الكلمتَين من اللاتينية): هُوية المرء الرمزية دائمًا ما تُحدَّد تاريخيًّا، وتعتمد على سياقٍ أيديولوجي بعينه. ونحن هنا بصددِ ما أسماه لوي ألتوسير «الاستجواب الأيديولوجي»: الهُوية الرمزية الممنوحة لنا هي نتاجُ الطريقة التي تستجوبنا بها الأيديولوجية السائدة، بوصفنا مواطنين، أو ديمقراطيين، أو مسيحيين. تبرُز الهستيريا عندما يبدأ الفرد في التساؤل بشأن هُويته الرمزية أو عدم الارتياح حيالها: «تقولين إنني حبيبك … ما الذي يوجد بي يجعلني كذلك؟ ماذا ترين في شخصي ويجعلك ترغبين فيَّ بهذه الطريقة؟» تتناول مسرحية «ريتشارد الثاني» لشكسبير الاستعدادَ الهستيري (على عكس مسرحيته «هاملت»، التي تتناول الهوس). موضوع هذه المسرحية هو تساؤل الملِك عن شخصيته الملكية وارتيابه التدريجي تجاهها — ما الذي يجعلني ملكًا؟ ماذا يبقى مني إذا انتُزع عني لقبي الرمزي بصفتي «الملك»؟
ليس لي اسمٌ ولا لقب،
لا، ولا حتى الاسم الذي أُطلِقَ عليَّ عند التعميد،
فقد اغتُصِب مني اغتصابًا: وا تعساه لليوم الحزين،
كيف نجوتُ من الشتاء عامًا بعد عام،
ثم أصبحت لا أعرف اسمًا أدعو به نفسي!
ليتني كنت تمثالًا من الثلج للملِك
حتى إذا سطعت شمسُ بولينبروك،
انصهرتُ فاستحلتُ قطراتٍ من الماء الجاري!
(ترجمة د. محمد عناني)

في الترجمة السلوفينية، يقدَّم البيت الثاني على النحو التالي: «لماذا أكون ما أنا عليه؟» على الرغم من أن هذا ينطوي بالتأكيد على الكثير من التصرُّف الشعري، إلا أنه ينقل جوهر المعضلة: إذ تذوب هُوية ريتشارد مثل الثلج في الشمس بعد أن جُرِّدَ من ألقابه الرمزية.

المشكلة بالنسبة إلى المصاب بالهستيريا هي كيفية التمييز بين ما هو عليه (رغبته الحقيقية) وما يراه الآخرون ويرغبونه فيه. هذا يقودنا إلى مقولةٍ أخرى من مقولات لاكان، أن «رغبة المرء هي رغبة الآخر». يرى لاكان أن المأزق الأساسي لرغبة الإنسان هو أنها رغبة الآخر في كلا البُعدين، الفاعل والمفعول به: الرغبة في الآخر، بمعنى الرغبة في أن نكون مرغوبين من الآخر، وأيضًا، وبصفة خاصة، الرغبةُ فيما يرغب فيه الآخر. طبقًا لمفهوم القدِّيس أوغسطين، الحسد والاستياء هما مكوِّنان أساسيان لرغبة الإنسان؛ ولذا دعونا نتناول المقطع المأخوذ من اعترافاته، الذي كثيرًا ما يستشهد به لاكان، والذي يصف فيه طفلًا يحسُد أخاه على أنه يرضع من ثدي أمه: «عرفتُ ورأيتُ بنفسي طفلًا يشعر بالحسد مع عدم قدرته على الكلام. أصبح شاحبًا، وراح يرمُق أخاه في الرضاعة بنظراتٍ مريرة». استنادًا إلى هذه الرؤية، قدَّم جان بيير دوبوي6 نقدًا مقنعًا لنظرية جون رولز عن العدالة: في نموذج رولز للمجتمع العادل، الفوارق الاجتماعية مقبولة فقط بقدرِ ما تساعد أولئك الذين في قاع السُّلم الاجتماعي، وبقدرِ ما لا تعتمد على التسلسل الهرمي الموروث، بل على الفوارق الطبيعية، التي يُنظر إليها على أنها عَرَضية، ولا تشير إلى استحقاق أو جدارة.7 لكن ما لا يراه رولز هو كيف أن مجتمعًا كهذا سيخلق الظروفَ التي من شأنها أن تؤجِّج حالة استياء عشوائية وغير منضبطة: ففي ذلك المجتمع، سأعرف أن وضعي المتدني مبرَّر تمامًا، وسأكون محرومًا من إلقاء لائمة فشلي على الظلم الاجتماعي.
يريد رولز تقديمَ نموذج مخيف لمجتمع تستمد فيه الهرمية شرعيتَها من الخصائص الطبيعية مباشرة، غافلًا عن الدرس البسيط الذي نتعلَّمه من حكاية الفلاح السلوفيني الذي قالت له ساحرة طيبة: «سألبي لك ما تريد، ولكن أنبِّهك إلى أنني سأفعله لجارك ضِعفَين!» يفكِّر الفلاح بسرعة، ثم يبتسم ابتسامةً ماكرة ويقول لها: «اخلعي إحدى عينيَّ!» لا عجب أن حتى المحافظين في يومنا هذا مستعدون لتأييد فكرة رولز عن العدالة: في ديسمبر ٢٠٠٥، أعلن ديفيد كاميرون، الرئيسُ الجديد المنتخَب لحزب المحافظين البريطانيين، نيتَه في تحويل حزب المحافظين إلى حزبٍ مُدافع عن الفئات المُعدِمة، عندما قال: «أعتقد أن معيار جميع سياساتنا يجب أن يكون في الإجابة عن هذا السؤال: ماذا تفعل للأقل حظًّا، أولئك الذين هم في أسفل السُّلم الاجتماعي؟» حتى فريدريك هايك8 كان على النهج الصحيح هنا عندما أشار إلى أنه من السهل كثيرًا قبولُ الفوارق في حال الزعم بأنها ناتجة عن قوة عمياء وغير شخصية. ومن ثَم، فإن الميزة في «لا عقلانية» النجاح أو الفشل في رأسمالية السوق الحرة (استحضر الشكل القديم للسوق بوصفه نسخة حديثة من «القدَر» المستحيل تقديرُه) أنها تسمح لي على وجه التحديد برؤية فشلي (أو نجاحي) باعتباره «غير مستحَق»، وعرَضيًّا. إن إجحاف الرأسمالية نفسَه ميزةٌ رئيسية تجعلها مقبولة لدى الأغلبية (أستطيع قبول فشلي بصورةٍ أسهل كثيرًا إذا كنت أعرف أنه لا يُعزى إلى ضَعف مؤهلاتي، ولكن من قبيل المصادفة البحتة).

يشترك لاكان مع نيتشه وفرويد في فكرةِ أن العدالة هي مساواة تأسَّست على الحسد: حسدنا للآخر الذي لديه ما ليس لدينا ويتمتَّع به. والمطالبة بالعدالة هي في جوهرها مطالبةٌ بتقليص استمتاع الآخر، بحيث يكون الوصول إلى الاستمتاع متساويًا لدى الجميع. والنتيجة الحتمية لهذا المطلب تتمثل بالطبع في التزهد: بما أنه يستحيل فرضُ المساواة في الاستمتاع بين الجميع، فإن ما يمكن فرضه هو المساواة في الحرمان. ومع ذلك، يجب ألا ننسى أن مفهوم الزهد اليوم — في مجتمعنا الذي نزعم أنه متسامح — يتخذ شكل نقيضه تمامًا، وهو الأمر المُعمَّم لجموع الناس «استمتعوا!» إننا جميعًا خاضعون لهذا الأمر، والنتيجة هي أن تمتُّعنا صار مكبوحًا ومقيَّدًا أكثرَ من أي وقت مضى — ولنأخذ مثالًا على ذلك الشاب المترَف الذي يجمع بين تحقيق الذات النرجسية، والانضباط التزهدي التام المتمثل في المواظبة على ممارسة الركض وتناول الطعام الصحي. ربما كان هذا هو ما يقصده نيتشه بفكرته عن «الإنسان الأخير» — إننا نستطيع اليوم فقط تمييزَ ملامح «الإنسان الأخير»، في صورة الزهد التمتعي السائدة. في سوق اليوم، نجد مجموعات كاملة من المنتجات المنزوعِ منها خصائصها الضارة: مثل القهوة من دون كافيين، وكريمة من دون دهون، والجِعة من دون كحول … وهكذا. ماذا عن الجنس الافتراضي المتمثِّل في الجنس من دون جماع، وماذا عن مذهب كولين باول للحرب من دون ضحايا (من جانبنا، بالطبع) المتمثل في الحرب من دون قتال، والتعريف الجديد المعاصر للسياسة بوصفها فن الإدارة الخبيرة والمتمثل في السياسة من دون سياسة، وصولًا إلى التعددية الثقافية الليبرالية المتسامحة في عصرنا الحالي، المتمثلة في تجربة مع الآخر بعد تجريده من آخريته (الآخر المثالي الذي يؤدي رقصاتٍ ساحرة ولديه نهج شمولي وسليم بيئيًّا تجاه الواقع، بينما تظل صفات مثل ضربه لزوجته متوارية عن الأنظار)؟ إن الواقع الافتراضي ببساطة يعمِّم هذا الإجراء المتمثِّل في تقديم منتَج مجرَّد من لُبِّه وجوهره؛ فهو يقدِّم الواقع نفسه مجرَّدًا من جوهره، من نواة «الواقعي» الصلبة — مثلما هو الحال مع القهوة المنزوعة الكافيين التي لها رائحة ومذاق القهوة الحقيقيَّان من دون أن تكون هي نفسها قهوةً حقيقية؛ فنحن نعيش الواقع الافتراضي واقعًا حقيقيًّا دون أن يكون كذلك. كل شيءٍ مباح، ويمكنك الاستمتاع به شريطة أن تجرِّده من المادة التي تجعله خطيرًا.

تُترجِم جملةُ جيني هولزر الشهيرة «احمني مما أريد» بدقةٍ شديدةٍ الغموضَ الأساسي الذي يكتنف الموقف الهستيري. يمكن قراءتها كإحالة ساخرة إلى الحكمة القياسية للرجل الشوفيني المتسلِّط بأن المرأة إذا تُركت لنفسها، فإنها تقع فريسةَ اهتياج مدمِّر للذات؛ ومن ثَم فإنها تحتاج إلى هيمنةٍ ذكوريةٍ حنونة تحميها من نفسها: «احمني من الرغبة المفرِطة المدمِّرة لذاتي التي تعتمل في داخلي، والتي لا أستطيع أن أسيطر عليها بنفسي». أو يمكن قراءتها بطريقة أكثرَ راديكاليةً، بوصفها إحالةً إلى حقيقة أن رغبة المرأة في المجتمع الأبوي الذي نعيش فيه اليوم، ليست رغبةً نابعةً من صميم ذاتها؛ فالمرأة هنا ترغب فيما يتوقع الرجال منها أن ترغب فيه، وترغب في أن تكون مرغوبةً لدى الرجال. في هذه الحالة، «احمني مما أريد» تعني: «عندما يبدو أنني أعبِّر بدقة عن أعمق رغباتي الداخلية، فإن «ما أريده» يكون مفروضًا عليَّ من قِبَل النظام الأبوي الذي يملي عليَّ ما يجب أن أرغب فيه؛ ولذا فالشرط الأول لتحرُّري هو أن أكسر هذه الدائرة المفرغة المتمثِّلة في رغبتي غير النابعة من ذاتي، وأن أتعلم كيف أصوغ رغبتي بطريقة مستقلة». ألم يتجلَّ هذا الغموض نفسه بوضوحٍ في الطريقة التي نظر بها الغرب الليبرالي إلى حرب البلقان في أوائل القرن العشرين؟ قد يبدو الأمر للوهلة الأولى وكأن التدخُّل الغربي قد أجاب النداء الضمني لأمم البلقان: «احمونا مما نريد!» — من رغباتنا وأهوائنا التي دمَّرت ذواتنا، وأفضت بنا إلى التطهير العِرقي والاغتصاب الجماعي. لكن ماذا لو قرأنا النداء البلقاني المتصوَّر «احمِنا مما نريد!» بالطريقة الثانية والمعاكسة؟ إن الدرس المرير والقاسي الذي يمرِّره لاكان يتمثَّل في التسليم التام بهذا التناقض الكائن في رغبتنا، وبأن الرغبة نفسها هي التي تضع العراقيلَ في سبيل تحرُّرها.

هذا يعيدنا إلى الذات التي من المُفترَض أنها تعرف، ذلك الآخر المطلَق الذي يُجري عليه الهستيريُّ إحالاته، مَرمى استفزازاته المستمرة. ما يتوقَّعه الهستيري من الذات التي من المُفترَض أنها تعرف، هو تقديمُ الحل الذي سينفرج به المأزق الهستيري، الإجابة النهائية عن السؤال «مَن أنا؟ وماذا أريد حقًّا؟» هذا هو الفخ الذي يجب على المحلل النفسي تفادي الوقوع فيه: فعلى الرغم من أن المحلل النفسي، أثناء العلاج، يقوم مقام الذات التي من المفترض أنها تعرف، فإن استراتيجيته بأكملها هي تقويض هذا الدور ليدرك المريض أنه لا يوجد ضمانٌ لدى الآخر الكبير لرغبته بصفته مريضًا.

هوامش

يشبِّه لاكان الهستيريا هنا بمرض العُصاب. فمن وجهةِ نظره أن العُصاب الوسواسي، الذي يُعَدُّ الشكل الرئيسي الآخر من مرض العُصاب، هو «ضربٌ من الهستيريا».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤