الفصل الثالث

الانتقال من «ماذا تريد؟» إلى الفانتازيا والبناءات المتخيَّلة: لاكان مشاهدًا فيلم «عيون مُغمضة على اتساعها»

لماذا «الآخر الكبير»؟ المبرِّر غريب ولا شك، مثلما هو غريبٌ أن نُضطر إلى إدخال دلائل إضافية إلى تلك التي تقدِّمها لنا اللغة. تكمن الغرابة في الآتي. أنتِ زوجتي، ولكن ماذا تعرفين عن ذلك على أي حال؟ أنتَ رُبَّان حياتي، ولكن هل أنتَ متأكد فعلًا من ذلك؟ ما يخلق القيمة التأسيسية لهذه الكلمات هو أن المقصود في الرسالة، وكذلك ما يتجلى في الظاهر هو أن الآخر يكون حاضرًا من خلال «الآخر الكبير» المطلَق. والمقصود ﺑ «مطلَق» هنا أنه مُعترَف به، ولكنه مجهول. وبالمثل، ما يشكِّل التظاهرَ بشيء أو ادعاءَه هو أنك — في النهاية — لا تعرف ما إذا كان تظاهرًا وادعاءً أم لا. وهذا الجهل بشأن آخرية الآخر هو في جوهر الأمر ما يميز علاقة الكلام بمستوى التحدُّث إلى الآخر.1

أي شخص يطالع أعمال لاكان سيتفاجأ عند قراءة هذه الفقرة؛ فهي تساوي «الآخر» الكبير بغموضِ ذاتٍ أخرى تكمن وراء «جدار اللغة»، مما يضعنا بين طرفَي نقيض مع الصورة السائدة التي يقدِّمها لاكان ﻟ «الآخر» الكبير، ذلك المنطق المتصلِّب للآلية التلقائية التي لها الغلبة والسيطرة، وبذلك تصبح الذات الفاعلة المتحدثة — دون أن تدريَ — مجرد «مفعول به ملفوظ» من خلال هذا المنطق، فلا تكون هي المتحكِّمة في زمام الحديث. إذن، ما هو «الآخر» الكبير؟ هل هو الآلية المجهولة للنسق الرمزي، أم ذاتٌ أخرى في آخريته الجذرية، ذاتٌ يفصلني عنها إلى الأبد «جدارُ اللغة»؟ يمكننا الخروج من هذا المأزق بسهولة إذا قرأنا هذا التعارض على أنه نقطة تحوُّل في تطوُّر لاكان، من لاكان الأول الذي ركَّز على الجدلية البين ذاتية للاعتراف، إلى لاكان المتأخر الذي يقدِّم الآلية المجهولة الهُوية التي تنظم التفاعل بين الذوات (بلغة الفلسفة: تحوُّل من الظاهراتية إلى البنيوية). وعلى الرغم مما ينطوي عليه هذا الحل من حقيقة محدودة، فإنه يحجُب الغموض الأساسي الذي يكتنف «الآخر» الكبير: النقطة التي يتم عندها شخصنة «الآخر» الكبير، ذلك النسق الرمزي اللاشخصي.

خيرُ مثال على ذلك هو الإله: أليس ما ندعوه «الإله» هو تجسيد لشخصية «الآخر» الكبير، في صورة شخص يخاطبنا بوصفه أكبرَ من حدود الحياة وأبعادنا، وبوصفه الذات التي تتجاوز جميع الذوات؟ وبالمثل، فإننا نتحدَّث عن التاريخ بوصفه يطلب منا شيئًا، أو عن كل قضية نؤمن بها ونتبناها على أنها تحضُّنا على بذل التضحيات الواجبة. ما نحن بصدده هنا هو ذات غريبة غير مؤلفة ليست مجرد إنسان آخر، بل هو «الثالث»، الذات التي ترأس التفاعل بين الأفراد البشريين الحقيقيين — واللغز المؤرِّق هو، بالطبع، ماذا تريد هذه الذات الغامضة منا (يشير اللاهوت إلى هذا البُعد باسم الإله المحتجِب الغامض)؟ يرى لاكان أننا لسنا مضطرين إلى استحضار الإله لنكوِّن فكرة عن هذا البُعد العميق الغور؛ فهو حاضر وموجود في كل إنسان:

رغبةُ الإنسان هي رغبة «الآخر الكبير»، حيث تقدِّم «الإضافة» ما يسميه النحاة «التعريف الذاتي»؛ أي إن الإنسان يرغب بما يرغبه «الآخر الكبير»؛ ومن ثَم تتحدد رغبة المرء وتُعرف بإضافتها إلى رغبة الآخر الكبير … هذا هو السبب في أن سؤال الآخر الكبير — الذي يرتدُّ إلى الذات من المكان الذي يتوقَّع منه ردًّا شفهيًّا — الذي يأتي في صيغة «ماذا تريد؟» هو السؤال الذي يقود المرء على نحوٍ أفضل إلى مسار رغبته الخاصة.2

يكتنف الغموضُ عبارة لاكان. «الإنسان يرغب بما يرغبه «الآخر الكبير»» تعني أولًا أن رغبة الإنسان تُبنى على أساس الآخر الكبير «اللامركزي»، أو النسق الرمزي: ما أرغب فيه حدَّده الآخر الكبير مسبقًا، الحيز الرمزي الذي أعيش فيه. حتى عندما تكون رغباتي مخالِفة؛ أي حتى عندما تنتهك رغباتي القواعدَ الاجتماعية، فإن هذا الانتهاك يعتمد على ما ينتهكه. يعرف القديس بولس هذا جيدًا عندما يصِف، في المقطع الشهير في كتاب «رسائل إلى أهل رومية»، كيف يُنشئ القانون الرغبةَ في انتهاكه. وبما أن البناء الأخلاقي لمجتمعاتنا لا يزال يتمحور حول الوصايا العشر — القانون الذي أشار إليه بولس — فإن تجربة مجتمعنا الليبرالي المتسامح تُؤكد بصيرةَ بولس: إنه يثبت باستمرار أن حقوق الإنسان التي نعتز بها هي، في جوهرها، مجرَّد حقوق لخرق الوصايا العشر. «الحقُّ في الخصوصية» هو الحقُّ في ارتكاب الزنا، في الخفاء، عندما لا يراني أحد أو لا يكون لأحدٍ الحق في التدخُّل في حياتي. «الحقُّ في السعي نحو السعادة وحيازة الممتلكات الخاصة» هو الحقُّ في السرقة (استغلال الآخرين). «حرية الصحافة وحرية التعبير عن الرأي» هو الحقُّ في الكذب. «حقُّ المواطنين الأحرار في امتلاك الأسلحة» هو الحق في القتل وإزهاق الأرواح. وفي النهاية، «حرية العقيدة الدينية» هي الحقُّ في عبادة آلهة زائفة.

ومع ذلك، هناك دلالة أخرى للجملة «رغبة الإنسان هي رغبة الآخر الكبير»: الذات ترغب بقدرِ ما تدرك أن الآخر نفسه يرغب، بوصفه موضعًا لرغبة غامضة، كما لو كانت رغبة غامضة تنبعث منه. لا يتوجَّه إليَّ الآخر برغبة غامضة فحسب، بل يواجهني أيضًا بحقيقة أنني لا أعرف ماذا أريد حقًّا، يواجهني بلغز رغبتي الخاصة. يرى لاكان هنا، على غِرار فرويد، أن هذا البُعد السحيق للشخص الآخر — هذا الغور العميق لشخصية أخرى، وحصانته التامة ضد الاختراق — قد وجد أولَ تعبير كامل له في اليهودية، من خلال التوصية بأن يحب المرء للآخر ما يحبُّه لنفسه. يرى فرويد وكذلك لاكان أن هذا الأمر يمثل إشكالية عميقة؛ لأنه يخفي حقيقة أنه وراء صورة الآخر كصورة طبق الأصل لي، أو كشخص يشبهني وأستطيع التعاطف معه، تكمن دائمًا هوَّة غامضة لآخريةٍ جذرية، هوَّة شخص لا أعرف عنه شيئًا مطلقًا. فهل يمكنني الاعتماد عليه حقًّا؟ مَن هو ذاك الشخص؟ كيف أتأكد من أن كلماته ليست مجرَّد تظاهُر زائف؟ على عكس الموقف «الحديث» الذي يختزل الآخر إلى مجرد صورٍ طِبق الأصل من شخصي، أو إلى وسيلة لتحقيق ذاتي (كما هو الحال في علم النفس عند يونج، حيث يصير الآخرون من حولي تجسيداتٍ لجوانب شخصيتي المنكَرة أو إسقاطات لها)، تكشف اليهودية تقليدًا تظل فيه نواةٌ عصيبة وغريبة في التمثُّل في الآخر — يظل الآخر يمثِّل وجودًا خاملًا ومنيعًا وغامضًا يصيبني بالهستيريا. الجوهر الأساسي لهذا الوجود، بالطبع، هو رغبة الآخر، الرغبة التي تمثِّل لغزًا ليس لنا فحسب ولكن أيضًا للآخر. لهذا السبب، لا يُؤخذ سؤال لاكان «ماذا تريد؟» بهذه البساطة، وإنما يُترجَم إلى: «ما الذي يزعجك؟ ما الشيء الذي يجعل منك شخصًا غير محتمَل ليس فقط بالنسبة إلينا، ولكن أيضًا بالنسبة إلى نفسك، الشيء الذي لا تتحكم أنت نفسك فيه بالتأكيد؟»

الإغواء الذي علينا مقاومته هنا هو الترويض الأخلاقي للآخر، ومثال على ذلك ما فعله إيمانويل ليفيناس بمفهومه الذي قدَّمه عن الآخر بوصفه مكانًا سحيقًا ينبع منه نداء المسئولية الأخلاقية. ما يخفيه ليفيناس هو وحشية الآخر، الوحشية التي بسببها يستخدم لاكان مصطلح «الشيء» للإشارة إلى الآخر، وهو المصطلح الذي استخدمه فرويد للإشارة إلى الغاية النهائية لرغباتنا بشدَّتها غير المحتمَلة ومناعتها على الاختراق. من المفروض أن نسمع في هذا المصطلح جميعَ الدلالات المرتبطة بقصص الرعب الخيالية: الآخر هو الشيء (الشرير) الذي يترصد بنا ويندس تحت كل وجه بشري عادي. ولننظر مثلًا إلى رواية «البريق» لستيفن كينج، حيث يتحوَّل الأب — وهو كاتِب فاشل ومتواضع المهارة — تدريجيًّا إلى وحشٍ قاتل يذبح عائلته بأكملها وعلى وجهه ابتسامة شريرة. لا عجبَ إذن أن اليهودية هي أيضًا دِين «القانون» الإلهي الذي ينظِّم العلاقات بين الناس: هذا «القانون» مرتبط بصرامة بظهور الآخر بهيئة «شيء» غير إنساني. بمعنى أن الوظيفة النهائية للقانون ليست تمكيننا من عدم إغفال الآخر، أي الحفاظ على تجاورنا الإنساني، ولكن على العكس، أن نحافظ على مسافةٍ مناسبة بيننا وبين الآخر، ولحمايتنا من وحشية الجار المفزعة التي تتربص بنا. كما عبَّر راينر ماريا ريلكه عن ذلك في كتابه «دفاتر مالتي لوريدس بريج» (ترجمة ستيفن ميتشل، نيويورك: فينتاج، ١٩٩٠):

هناك مخلوقٌ غير ضارٍّ إطلاقًا؛ عندما يمر أمام عينيك، فإنك بالكاد تلاحظه ثم تعود وتنساه على الفور. ولكن بمجرد أن يدخل إلى أذنيك بطريقةٍ ما — على نحو غير مرئي — يبدأ هذا المخلوق في التكاثر، فيعشِّش وينمو، وقد عُرفت حالاتٌ توغَّل فيها هذا المخلوق في المخ وانتشر فيه على نحو مدمِّر، مثل بكتيريا المكورات الرئوية لدى الكلاب التي تدخل عبر الأنف … هذا المخلوق هو أخوك الإنسان.

ولذلك، عندما يكتشف المرء أنه في موقع المحبوب يأخذ هذا الاكتشاف لديه منعطفًا عنيفًا، ربما يصل إلى حد الصدمة: عندما أكون محبوبًا، يتولَّد لديَّ شعور مباشِر بالفجوة بين ما أنا عليه ككائن معيَّن، والمجهول الكامن في داخلي الذي هو السبب وراء هذا الحب. يجب أن نكمِّل تعريف لاكان للحب — «الحب هو أن تعطيَ شيئًا لا تملكه …» — بجملة «… إلى شخصٍ لا يريده». ألا تؤكد أبسط تجاربنا هذا الأمر عندما يعلن شخص فجأةً عن حبه الشديد إيَّانا؟ تكون استجابتنا الأولى — التي تسبق الرد الإيجابي المحتمَل — هي أن ثمة شيئًا فاحشًا ومتطفلًا يُفرَض علينا. في منتصف فيلم «٢١ جرامًا» لجييرمو أرياجا، يبوح بول — الذي يُحتضَر بسبب مرض القلب — عن حبه لكريستينا بطريقة لطيفة، وهي التي تعاني صدمةً بسبب وفاة زوجها وطفلَيها الصغيرَين في وقتٍ سابق. وفي المرة التالية التي يلتقيان فيها، تنفجر كريستينا في نوبة من التذمُّر بسبب الطبيعة العنيفة لهذا البوح بالحب:

أتدري، لقد جعلتني أفكِّر طوال اليوم. لم أتحدَّث إلى أحدٍ البتة منذ أشهر، ومع أنني لا أعرفك جيدًا أجدني أحتاج فعلًا إلى التحدث إليك … هناك شيء كلما فكَّرت فيه ازداد ذهني التباسًا: لماذا قلت لي إنك تحبني؟ أجبني؛ لأنني لم يَرُق لي أن تقول ذلك على الإطلاق. لا يمكنك أن تقترب من امرأةٍ لا تعرفها جيدًا وتخبرها أنك تحبُّها. لا يمكنك ذلك ببساطة. فأنت لا تعرف ما تمر به، ولا مكنون نفسِها. أنا لست متزوجة، كما تعرف. أنا لست شيئًا في هذا العالم. لا شيء وحسب.3
وهنا، تنظر كريستينا إلى بول وترفع يديها وتبدأ في تقبيل فمه بشدة؛ ومن ثَم فإن المشكلة لم تكن تكمُن في كونها لا تبادله الحب ولا ترغب في الاتصال معه جسديًّا. بل على العكس من ذلك، كانت المشكلة أنها تريده … كان فحوى تذمُّرها: بأي حق يثير رغبتها؟ يمكننا من خلال هوية الآخر هذه بوصفه «شيئًا» أن نفهم ما يقصده لاكان بما يسميه «الكلمة التأسيسية»، وهي العبارات التي تمنح الشخص لقبًا رمزيًّا وتجعله ما هو عليه، فتشكِّل هُويته الرمزية: «أنتِ زوجتي، أنتَ سيدي …». وعادةً ما تُعتبر هذه الفكرة صدًى لنظرية الأفعال الإنجازية، وهي أفعال الكلام التي يُعلَن عنها بمجرد النطق بها (عندما أقول «انتهى الاجتماع»، فإنني بذلك أنهي الاجتماع فعليًّا). ومع ذلك، من الواضح من المقطع الذي يفتتح هذا الفصل أن لاكان يرمي إلى شيءٍ أبعد. إن الأفعال الإنجازية — في أبسط حالاتها — أفعالُ ثقة والتزام رمزيان. عندما أقول لشخصٍ ما «أنتَ سيدي!»، فإنني ألزِم نفسي بمعاملته بأسلوب معيَّن، وفي الوقت نفسه، أُلزمه هو أيضًا بمعاملتي بأسلوب معيَّن. مَقصِد لاكان هو أننا نحتاج إلى اللجوء إلى هذا الجانب بالضبط من الإنجاز والالتزام الرمزيين، ليس بقدرِ ما يكون الآخر الكبير الذي أواجهه مجرد صورة طِبق الأصل مني، أي شخصًا مثلي، ولكن أيضًا بقدرِ ما يكون هو ذلك الآخر المطلَق الغامض الذي يظل في النهاية لغزًا غير قابل للحل. إن الوظيفة الرئيسية للنظام الرمزي بقوانينه والتزاماته هي جعْل تعايشنا مع الآخرين محتملًا بالقدْر الأدنى: يجب أن يتدخل «ثالث» بيني وبين الآخر حتى لا تُدمَّر علاقاتنا وتنجرف نحو أعمال عنف دامية.

في الستينيات، في عصر «البنيوية» (النظريات المبنية على فكرة أن النشاط البشري بأسْره تنظِّمه آلياتٌ رمزية لا واعية)، أطلقَ لويس ألتوسير توصيفه الشهير «إنسانوية مناهضة نظرية»، مما سمح، بل واستلزم، استكمالها بإنسانوية عملية. في ممارساتنا يجب أن نتصرف كإنسانويين، فنحترم الآخرين ونعاملهم بوصفهم أحرارًا يتمتعون بكرامة كاملة غير منقوصة، وبوصفهم أيضًا مَن يصنعون عالَمهم الخاص. ولكن علينا دائمًا من الناحية النظرية أن نضع في اعتبارنا أن الإنسانوية عبارة عن أيديولوجيا، فهي الطريقة التي نختبر بها ظروفنا ذاتيًّا وتلقائيًّا، وأنه في ضوء المعرفة الحقيقية بالبشر وتاريخهم يجب ألا نعامل الأفراد بوصفهم أشخاصًا مستقلين بذواتهم، ولكن بوصفهم عناصرَ في بنية لها قوانينها الخاصة. وعلى عكس ألتوسير، يدعو لاكان إلى الاعتراف بوجود إنسانوية عملية مناهضة، وهي نزعة أخلاقية تتجاوز البُعد الذي أسماه نيتشه «إنسانيًّا مفرِطًا في إنسانيته»، وتواجه الجوهر غير الإنساني للإنسانوية. ويعني هذا أنها نزعةٌ أخلاقية تتصدى بشجاعة للوحشية الكامنة في كوننا بشرًا، ذلك البُعد الشيطاني الذي اندلع في الظواهر التي يمكن تناولها مجتمعةً تحت مسمَّى «أوشفتز».

ربما الطريقة المثلى لوصف حالة هذا البُعد غير الإنساني للآخر القريب هي إحالته إلى فلسفة كانط. ففي كتابه «نقد العقل الخالص»، ميَّز كانط تحديدًا بين الحكم السالب والحكم اللامتناهي: يمكن نفي المقولة الموجبة «الروح فانية» بطريقتَين. يمكننا إما أن ننفيَ المحمول («الروح ليست فانية»)، أو نثبت محمولًا منفيًّا («الروح هي لا-فانية»). لا يختلف الفارق هنا — كما هو معروف لقرَّاء ستيفن كينج — عن الفرق بين «هو ليس ميتًا» و«هو لا-ميت». يفتح الحكم اللامتناهي أو غير المحدود مجالًا ثالثًا من شأنه أن يقوِّض التمييز بين الميت وغير الميت (الحي): «اللاموتى» ليسوا بأحياء ولا أموات، بل هم على وجه التحديد هؤلاء «الأموات الأحياء» ذوو الهيئة البشعة. وينطبق الأمر نفسه على «غير البشري»: مقولة «هو غير بشري» ليست هي نفسها مقولة «هو لا-بشري». تعني مقولة «هو غير بشري» ببساطة أنه لا ينتمي إلى البشر، كأن يكون حيوانيًّا أو إلهيًّا، في حين تعني مقولة «هو لا-بشري» شيئًا مغايرًا تمامًا، ولا سيما حقيقة أنه لا هو بشري ولا هو لا-بشري، ولكنه يتسم بمغالاة مرعبة تنفي ما نفهمه عما هو بشري، ولكنها جزءٌ لا يتجزأ من كوننا بشرًا. وربما يجب أن نخاطر بالفرضية التي تقول إن هذا هو ما يتغيَّر مع الثورة التي أحدثتها فلسفة كانط: في العالم ما قبل كانط، كان البشر مجرد بشَرٍ ببساطة، كائنات عاقلة، يحاربون المغالاة في الشهوات الحيوانية والجنون الإلهي، في حين أن المغالاة التي يجب محاربتها لدى كانط راسخة متأصلة وتتعلق بجوهر الذاتية نفسها. (ولهذا السبب، يُصوَّر جوهر الذاتية ومكنونها — في المثالية الألمانية — بأنه يشبه الليل، «ليل العالم»، على خلاف فكرة التنوير النابعة من «نور العقل» الذي يبدِّد الظلام حوله.) في العالم ما قبل كانط، عندما يصاب البطل بالجنون يكون قد حُرِم من إنسانيته، وتسيطر عليه الشهوات الحيوانية أو الجنون الإلهي. أما لدى كانط، فالجنون يشير إلى انفجارٍ غير مقيَّد لجوهر ذاتية المرء ولكنه يظل الكائن البشري نفسه.

كيف يمكننا تجنُّب الأثر المؤلم للتعرُّض المباشر لهاوية الآخر الكبير المرعبة هذه؟ كيف يمكننا التعامل مع هذه المواجهة المحفوفة بالمخاطر مع رغبة الآخر الكبير؟ يرى لاكان أن الفانتازيا (البناءات المتخيَّلة) تقدِّم لنا إجابة بشأن هذا اللغز الغامض لرغبة الآخر الكبير. وأول ما علينا ملاحظته بشأن الفانتازيا أنها تعلِّمنا حرفيًّا كيف نرغب: فالفانتازيا لا تعني أنني عندما أرغب في تناول كعكة فراولة، ولا أستطيع الحصول عليها في الواقع، أنني أتخيَّل تناولي إياها؛ جوهر المسألة على الأحرى هي كيف أعرف أنني أرغب في تناول كعكة فراولة في المقام الأول؟ هذا ما تخبرني به الفانتازيا أو الخيال. هذا الدور للفانتازيا يعتمد على مأزق جنسانيتنا الذي أشار إليه لاكان في مقولته التي تنطوي على مفارقة «لا توجد علاقة جنسية»؛ أي إنه لا يوجد ضمان شامل على إقامة علاقة جنسية متناغمة مع الشريك. فعلى كل ذاتٍ أن تخترع فانتازيا خاصة بها، صيغة «خاصة» للعلاقة الجنسية، ولا تكون هذه العلاقة مع المرأة ممكنة إلا بقدر التزام الشريك بهذه الصيغة.

قبل بضع سنواتٍ، احتجَّت نساءٌ سلوفينيات مؤيدات للنسوية، احتجاجًا صاخبًا ضد ملصق لواقٍ من الشمس نشره مصنع كبير لمستحضرات التجميل، يصور عددًا من النساء يرتدين ملابسَ سباحة مكشوفة، وقد اكتسبت ظهورهن شيئًا من السُّمرة، ويظهر على الملصق شعار «لكلٍّ منها العامل المحفز الخاص بها». بالطبع، كان هذا الإعلان يعتمد على تلميح مبتذل ثنائي الدلالة: يشير الشعار في ظاهره إلى واقي الشمس، الذي يُطرح للعملاء بعوامل حماية مختلفة لتناسِب مختلف أنواع البشرة، ولكنه في واقع الأمر يرتكز على قراءة ذكورية شوفينية واضحة: «كل امرأة يمكن غوايتها، ولكن على الرجل فقط أن يعرف مفتاحها، عامِلها المحفِّز، الذي يستثيرها!» يرى فرويد أن كل ذات، ذكرًا كانت أم أنثى، تمتلك مثل هذا «العامل المحفز» الذي ينظِّم رغبتها: في حالة الرجل الذئب — أشهر مريض لدى فرويد — يتمثَّل هذا العامل المحفِّز في «امرأة، يُنظَر إليها من الخلف، وهي تجثو على يدَيها وركبتَيها»، في حين أن العامل المحفز لهذا الرجل لدى جون راسكن هو امرأة ممشوقة القوام حليقة شعر العانة. ليس ثمة شيءٌ راقٍ في معرفتنا بهذا المحفِّز؛ فهي معرفة مريبة ومفزعة لأنها تُجرد الذات من ذاتها بطريقةٍ ما، فتختزلها إلى مجرد دمية عديمة الكرامة والحرية.

ولكن علينا أن نضيفَ إلى ذلك فورًا أن الرغبة القائمة في الفانتازيا ليست رغبة الذات، بل رغبة الآخر، رغبة مَن يحيطون بي وأتفاعل معهم: الخيال — الذي يُقصد به هنا المشهد أو البناء أو السيناريو المتصوَّر أو المتخيَّل — هو إجابة عن السؤال: «أنت تقول ذلك، ولكن ما الذي تبتغيه فعلًا من قولك هذا؟» ذلك أن السؤال الأصلي للرغبة لا يتمثَّل في السؤال الصريح المباشر «ماذا أريد؟»، ولكن في السؤال «ماذا يريد «الآخرون» مني؟ ما الذي يرونه فيَّ؟ ما الذي أمثِّله لهم؟» إن الطفل الصغير جزءٌ لا يتجزَّأ من شبكة معقَّدة من العلاقات؛ فهو يكون بمثابة محفِّز وساحة معركة لرغبات المحيطين به. إن أباه وأمه وإخوته وأخواته، وأعمامه وعمَّاته، يخوضون معاركهم باسمه؛ فالأم ترسل رسالةً إلى الأب من خلال رعايتها للابن. وفي حين أن الطفل يكون مدركًا تمامًا لهذا الدور الذي يؤديه، فإنه لا يستطيع أن يفهم بالضبط الموضوعَ الذي يمثِّله للآخرين، ولا الألعاب التي يلعبونها معه. تقدِّم الفانتازيا الإجابةَ عن هذا اللغز: تخبرني الفانتازيا في جوهر الأمر بما أمثِّله للآخرين. يمكن تمييز هذا الطابع البين-ذاتي للفانتازيا حتى في أبسط الحالات، مثل الحالة التي أفاد بها فرويد عن ابنته الصغيرة التي تتخيَّل أنها تأكل كعكة فراولة. ما لدينا هنا ليس بأي حال من الأحوال الحالة البسيطة التي تُشبَع فيها رغبةٌ ما على نحو مباشر مصحوب بهلاوس (أرادت الفتاة أن تأكل كعكة فراولة، وعندما لم تحصُل عليها تخيَّلتها). السِّمة الحاسمة هنا هي أن الفتاة الصغيرة قد لاحظت وهي تأكل الكعكة مدى السعادة التي غمرت والدَيها، حينما شاهداها وهي مستمتعة بتناول الكعكة. ومن ثَم، فإن الفانتازيا التي تخيَّلتها بشأن تناول كعكة الفراولة، كانت في الواقع محاولة من جانبها لتكوين هُوية الابنة التي كانت مستمتعةً تمامًا بتناول الكعكة التي أعطاها لها والداها، وهي الهُوية التي من شأنها أن تُرضي والدَيها وتجعل منها محور رغبتهما.

بما أن الجنسانية هي المجال الذي نقترب فيه لأقصى درجة من حميمية إنسان آخر، وتجعلنا مكشوفين له انكشافًا كاملًا، فإن اللذة الجنسية حسبما يراها لاكان لذةٌ واقعية: شيء صادم في شدَّته الخاطفة للأنفاس، ولكنه مستحيل في الوقت نفسه بمعنى أننا لا نستطيع أبدًا أن نسوِّغه. وهذا هو السبب في أن نجاح العلاقة الجنسية يستوجب قدرًا من الفانتازيا. ولنأخذ مثالًا على ذلك باللقاء بين سارة مايلز وعشيقها غير الشرعي، الضابط الإنجليزي، في فيلم «ابنة راين» لديفيد لين: مشهد الفعل الجنسي صُوِّر وسط الغابة، وسُمِعَت في الخلفية أصواتُ الشلال التي من المفترض أنها تعبِّر عن شغفهما المكبوت، ولا يمكننا أن نرى هذا المشهد اليوم إلا مزيجًا صادمًا من الكليشيهات المبتذَلة. ومع ذلك، فإن الأصوات العشوائية المصاحبة تؤدي وظيفة غامضة إلى حد كبير، من خلال التأكيد على نشوة الفعل الجنسي، حيث تعمل هذه الأصوات بطريقةٍ ما على تجريد الفعل من واقعيته، وتخلِّصنا من وطأة حضوره. يمكن توضيح هذه الفكرة بتجربة ذهنية بسيطة: لنفترض أن الموسيقى توقَّفت فجأةً في خضم هذا المشهد المثير لفِعل الجِماع الجنسي، ولم يتبقَّ إلا إيماءاتٌ خاطفة ومثيرة، يتخلل صمتَها المضني بين الحين والآخر صوتُ خشخشة أو تأوُّه، مما يجبرنا على مواجهة الحضور البليد الخامد للفِعل الجنسي. باختصار، تكمُن المفارقة في هذا المشهد من الفيلم في أن صوت الشلال نفسه بمثابة شاشة فانتازية تفلتر أمامنا «واقعية» الفعل الجنسي.

يؤدي نشيد الأممية في فيلم «الحُمْر» (ريدز) الوظيفةَ نفسها تمامًا التي يؤديها صوت الشلال في فيلم «ابنة راين»: شاشة فانتازية تمكِّننا من تحمُّل «واقعية» الفعل الجنسي. يدمج فيلم «الحُمْر» الثورة البلشفية في عالَم هوليوود، التي تُعَدُّ الحدث التاريخي الأكثرَ صدمة لهوليوود — حيث تُعرَض خلفيةٌ مجازية للفعل الجنسي بين الشخصيتَين المحوريتَين في الفيلم، وهما جون ريد (الذي يلعب دوره وارن بيتي نفسه) وعشيقته (ديان كيتون). في الفيلم، تحدُث الثورة البلشفية مباشرةً بعد أزمة في علاقتهما. يلقي بيتي خُطبة ثورية صارخة للحشد المضطرب، فيأسر كيتون ويأخذ بلبِّها، ويتبادل الاثنان نظرات مفعمة بالرغبة، وتعمل صرخات الحشد مجازًا لانبعاث الشغف بينهما. وتتناوب المشاهد الأسطورية الرئيسية للثورة (مظاهرات الشوارع، اقتحام قصر الشتاء) مع مشاهد العشيقين أثناء ممارسة الجنس، على خلفية الحشد الذي يغنِّي النشيد الأممي. تعمل مشاهد الجموع مجازاتٍ دارجةً للفعل الجنسي: عندما تقترب الجموع الغفيرة من شريط الترام القضيبي وتطوِّقه، أليس هذا كناية عن كيتون وهي تؤدي الدور النشط في الفعل الجنسي معتليةً بيتي؟ نحن هنا بصدد النقيض التام لتلك الواقعية الاشتراكية السوفييتية، التي كان العاشقان فيها يعيشان حبَّهما مساهمةً في النضال من أجل الاشتراكية، مع التعهُّد بالتضحية بجميع مُتَعهم الخاصة من أجل قضية الثورة والانخراط في الجماهير: أما في فيلم «الحُمْر»، فتَظهر الثورة نفسُها مجازًا للقاء الجنسي الناجح.

نلاحظ هنا أن المفهوم الشائع حول الجنسانية، الذي يُنسب عادةً إلى التحليل النفسي، بوصفها مرجعًا إسناديًّا مستترًا لكل نشاط — أيًّا كان ما نفعله فإننا «نفكر في الجنس» — قد أصبح معكوسًا هنا: لا بد من تنقية الجنس الواقعي نفسِه من خلال الشاشة اللاجنسية لثورة أكتوبر حتى يكون مستساغًا. فبدلًا من العبارة الشهيرة «أغمِض عينيك وفكِّر في إنجلترا!»، لدينا هنا «أغمِض عينيك وفكِّر في ثورة أكتوبر!» فالمنطق المتَّبَع هنا هو نفسه المنطق الخاص بقبيلة من الأمريكيين الأصليين، اكتشف أفرادُها أن كل الأحلام ذات دلالة جنسية مستترة — كلها باستثناء الأحلام الجنسية الصريحة؛ إذ علينا أن نبحث في هذه الأحلام عن دلالة أخرى. (يذكر فيتجنشتاين في مذكراته السِّرية، التي اكتُشِفَت مؤخرًا، أنه كان يفكر في المسائل الرياضية بينما كان يمارس العادة السِّرية على الجبهة خلال الحرب العالمية الأولى.) وهذا أيضًا ما يحدُث في الواقع، مع ما نسميه بالجنس الواقعي؛ فهو يحتاج أيضًا إلى شاشة فانتازية. فأي اتصال بآخر واقعيٍّ من دم ولحم، وكلُّ لذة جنسية نجدها في لمس إنسان آخرَ، ليسا شيئًا واضحًا، بل شيء صادم بطبيعته، ولا يمكن تحمُّله إلا بقدرِ ما يَدخل هذا الآخرُ في إطار فانتازيا الذات ومخيِّلتها.

إذن، ما المقصود بالفانتازيا في أبسط صورها؟ تكمُن المفارقة — بل والفضيحة — الوجودية للفانتازيا في حقيقة أنها تهدم التقابل القياسي بين «الذاتي» و«الموضوعي»: الفانتازيا من تعريفها ليست شيئًا موضوعيًّا (أي يحيل على ما هو موجود بمنأًى عن إدراكات الذات)؛ ولكنها ليست شيئًا ذاتيًّا أيضًا (أي ينتمي إلى الأحاسيس الداخلية الحَدْسية التي تعيشها الذات نتيجةَ تجاربها وخبراتها الواعية، أي نتاج مخيِّلتها). تنتمي الفانتازيا بالأحرى إلى «الفئة الغريبة لما هو ذاتي بموضوعية — وهي الطريقة التي تتبدى لك بها الأشياء واقعيًّا وموضوعيًّا حتى لو لم تتبدَّ لك على هذا النحو».4 عندما نزعم، على سبيل المثال، أن شخصًا ما متعاطف مع اليهود عن وعي، ولكنه يُكنُّ تحيزات مسبقة دفينة معادية للسامية ليس على وعي بها، ألسنا نزعم بذلك أنه لا يدرك عن وعي الكيفيةَ التي يبدو له بها اليهود حقًّا (على اعتبار أن هذه التحيزات المسبقة لا تعكس حقيقةَ اليهود كما هم في الواقع، ولكن كما يَبدون له)؟

في مارس ٢٠٠٣، قام دونالد رامسفيلد بجولة فلسفية وجيزة من التأمل الفلسفي الهاوي حول العلاقة بين المعروف والمجهول: «هناك معروفاتٌ معروفة. هذه هي الأشياء التي نعرف أننا نعرفها. وهناك مجهولاتٌ معروفة. وهذا يعني أن هناك أشياءَ نعرف أننا لا نعرفها. ولكن هناك أيضًا مجهولاتٌ مجهولة. أي إن هناك أشياءَ لا نعرف أننا لا نعرفها.» ولكن رامسفيلد نسيَ أن يضيف الحدَّ الرابع الحاسم: «المعروفات المجهولة»، وهي الأشياء التي لا نعرف أننا نعرفها — وهذا بالضبط هو اللاوعي الفرويدي، أو بمصطلحات لاكان «المعرفة التي لا تُعرف بذاتها»، والتي تتكون في جوهرها من الخيال. إذا كان رامسفيلد يعتقد أن الأخطار الرئيسية في المواجهة مع العراق هي «المجهولات المجهولة»، أي التهديدات من صدَّام أو خلفائه التي نجهل حتى ماهيتَها، فيمكننا الرد بأن الأخطار الرئيسية تُصنَّف، على العكس من ذلك، ضمن «المعروفات المجهولة»، أي الاعتقادات والافتراضات غير المصرَّح بها التي نتبناها دون وعي منا بالأمر، ومع ذلك فإنها تحدِّد أفعالنا ومشاعرنا.

هذه أيضًا إحدى الطرق المستخدَمة في تفسير معنى قول لاكان بأن الذات دائمًا «بعيدة عن المركز». لا يعني لاكان بذلك أن تجربتي الذاتية تخضع إلى آلياتي الموضوعية اللاواعية التي لا تتمركَز حول تجربتي الخاصة عن ذاتي؛ ومن ثَم تقع خارج نطاق سيطرتي (هذه النقطة يؤكدها أنصار المذهب المادي)، بل هي بالأحرى شيءٌ أكثر اضطرابًا: لا أملك زمامَ تجربتي الذاتية الأكثر حميمية، الطريقة التي «تتبدَّى لي بها الأمور حقًّا»، لا أملك الخيال الأولي الذي يشكل جوهر وجودي ويكفله؛ بما أنني لا يسعني أبدًا نَقْل التجربة إلى حيز الوعي والاضطلاع الذاتي.

وفقًا للرأي القياسي، فإن البُعد الذي يشكِّل الذاتية هو بُعد التجربة (الشخصية) الظاهراتية: فأنا ذات في اللحظة التي أستطيع فيها أن أقول لنفسي: «بغض النظر عن الآلية المجهولة التي تحكم أفعالي وتصوُّراتي وأفكاري، لا أحد يستطيع أن يسلبني ما أراه وأشعر به الآن.» لنضرب مثالًا على ذلك، عندما أكون مغرمًا وغارقًا في الحب، ويخبرني أحد علماء الكيمياء الحيوية أن كل عواطفي الجياشة هذه ليست سوى نتيجة للعمليات الكيميائية الحيوية التي تحدُث في جسمي، يمكنني عندئذٍ الردُّ بأن أتمسك بالظاهر فأقول: «كلُّ ما تقوله يحتمل الصواب، ولكن لا شيء يمكنه أن يسلبني زخمَ الشغف الذي أعيشه الآن …» ولكن يرى لاكان أن المحلل النفسي بالتحديد هو مَن يمكنه أن ينتزع ذلك من الذات: فالهدف النهائي للمحلِّل النفسي هو تخليص الذات من التخيُّل الأساسي الذي يتمحور حوله عالَم تجربتها (الخاصة). لا تظهر الذاتُ اللاواعية التي أشار إليها فرويد إلا عندما يصبح الجانب الرئيسي من تجربة الذات (الخاصة) (أي خيالها الأساسي) مستغلقًا على الذات، بمعنى أن يُكبَح منذ البداية. إن اللاوعي بمعناه الأعمق هو الظاهرة المنيعة أو المستغلقة، وليس الآليات الموضوعية التي تنظم تجربتي الظاهراتية. ومن ثَم، فإنه على عكس الاعتقاد الشائع بأننا نكون بصدد التعامل مع ذاتٍ، عندما تظهر علامات الحياة الداخلية (التجربة التخيُّلية التي لا يمكن اختزالها في سلوك خارجي) على أحد الكيانات، يجب أن نقول إن ما يميِّز الذاتية الإنسانية بحقٍّ هو بالأحرى الفجوة التي تفصل الاثنين، أي حقيقة أن الخيال — في أبسط حالاته — يصبح مستغلقًا على الذات. وهذا الاستغلاق هو ما يجعل الذات «فارغة»، حسبما صاغها لاكان.

ومن ثَم، نحصُل على علاقة تعكس تمامًا المفهوم القياسي عن الذات الذي تستشعر وجودها عن طريق حالاتها الداخلية: علاقة غريبة بين الذات الفارغة، غير الظاهراتية والظواهر التي تظل منيعةً مستغلقة على الذات. بعبارة أخرى، يتيح لنا التحليل النفسي صياغةَ فلسفة ظاهراتية متناقضة من دون ذات — ظواهر تبرُز وهي ليست بظواهر تنجم عن الذات أو تَئُول إليها. هذا لا يعني أن الذات ليست مشاركة هنا؛ إذ كلُّ ما هنالك أنها تكون في وضع الإقصاء، بما أنها ذات منقسمة، فاعل عاجز عن تصوُّر جوهر تجربته الداخلية.

هذا الوضع المتناقض للخيال يقودنا إلى النقطة النهائية المتمثلة في الاختلاف القائم بين التحليل النفسي والنسوية الذي لا يمكن التوفيق بينهما فيه، وبالأخص فيما يتعلَّق بأمر الاغتصاب (والتخيُّلات الماسوشية الكامنة وراءه). من الأمور المسلَّم بها في النسوية القياسية، على الأقل، أن الاغتصاب هو عنفٌ مفروض من الخارج: حتى لو تخيَّلت امرأة أنها تتعرَّض للاغتصاب أو سوء المعاملة، فإما أن هذا خيال ذكوري بشأن النساء، أو أن امرأة تفعل ذلك بقدرِ ما «طبَّقت» الاقتصاد الليبيدي الذكوري وتقبَّلت أن تكون ضحيةً؛ الفكرةُ الأساسية هي أنه في اللحظة التي نُقِرُّ فيها بهذه الحقيقة المتعلِّقة بالاستغراق في أحلام اليقظة عن الاغتصاب، فإننا نفتح الباب للبديهيات الذكورية الشوفينية حول كيف أن النساء — عندما يتعرضن للاغتصاب — يحصُلن على ما يرغبن فيه سرًّا، وكيف أن صدمتهن وخوفهن يعبران عن حقيقةِ أنهن لم يكنَّ صادقات بما فيه الكفاية للاعتراف برغبتهن. ومن ثَم، فإنه في اللحظة التي نقول فيها إن المرأة قد تتخيَّل أنها تُغتصَب، يأتينا اعتراض بأن «هذا مثل القول بأن اليهود تخيَّلوا أنهم يُقتلون بالغاز في المعسكرات، أو أن الأمريكيين الأفارقة تخيَّلوا أنهم يُعدَمون دون محاكمة!» من هذا المنظور، فإن الموقف الهستيري المنقسم للمرأة (التي تشتكي أنها تعرَّضت للاعتداء الجنسي والاستغلال، في حين أنها في الوقت نفسِه ترغب في ذلك وتحرِّض الرجل على استدراجها) هو موقفٌ ثانوي، في حين يرى فرويد أن هذا انقسام رئيسي يشكِّل قِوام الذاتية.

نستنتج عمليًّا من هذا أن «بعض» النساء قد تراودهن حقًّا أحلام يقظة بأنهن يتعرَّضن للاغتصاب، فإن هذه الحقيقة لا تشرِّع الاغتصاب الفعلي فحسب، بل تجعله أكثرَ عنفًا. لنضرب مثالًا بامرأتَين: الأولى متحررة ومعتدة بذاتها وفاعلة، والأخرى تراودها سرًّا أحلامُ يقظة بأنها تُعامَل بوحشية، بل وأنها تُغتصَب، من شريكها. النقطة الحاسمة هي أنه، إذا تعرَّضت كلتا المرأتَين للاغتصاب، فسيكون وَقْع الاغتصاب أكثرَ على المرأة الثانية «نظرًا إلى حقيقة أن الاغتصاب والمعاملة الوحشية هما تحقيق ﻟ «مادة أحلامها» في الواقع الاجتماعي «الخارجي»». هناك فجوة تفصل إلى الأبد بين الجوهر التخيُّلي لكينونة الذات، وأنماط هُويَّاتها الرمزية أو التخيُّلية الأكثر سطحيةً. يستحيل تمامًا أن أضطلع اضطلاعًا كاملًا (أي أن أصل إلى التكامل الرمزي) بالجوهر التخيُّلي لكينونتي: فعندما أقترب كثيرًا، يحدُث ما يسميه لاكان «زوال شهوة» الذات (الاندثار الذاتي)، حيث تفقد الذاتُ اتساقها الرمزي فتتفكك. وربما كان التحقيق القسري للجوهر التخيُّلي لكينونتي في الواقع الاجتماعي، هو أسوأ أنواع العنف وأكثرها إذلالًا، عنف يقوِّض أساس هُويتي (صورتي الذاتية). وعليه، يرى فرويد أن المشكلة في الاغتصاب هي أن له تأثيرًا صادمًا ليس فقط لأنه حالة من العنف الخارجي الوحشي، ولكن أيضًا لأنه يمس شيئًا مُنكَرًا في الضحية نفسها. ولذا، عندما يكتب فرويد: «إذا عرضنا في الواقع أكثرَ ما تتوق إليه [الذوات] في خيالاتها، فإنها ستهرب منه»،5 فإن ما يقصده هو أن هذا يحدث ليس فقط بسبب الرقابة، ولكن بالأحرى لأن جوهر خيالنا لا يُحتمَل حتى بالنسبة إلينا.
قبل بضع سنوات، عُرض إعلان جذاب لمشروب كحولي على التليفزيون البريطاني. بدأ الإعلان باللقاء المألوف من الحكاية الخرافية: فتاة تمشي بجانب جدول ماء، ترى ضفدعًا، فتأخذه بلطف على حِجرها وتقبِّله، وبالطبع يتحول الضفدع القبيح إلى شاب وسيم. لكن القصة لم تنتهِ بعد: ينظر الشاب إلى الفتاة نظرةً تملؤها الرغبة، فيجذبها نحوه ويقبِّلها فتتحول إلى زجاجة المشروب فيحملها الشاب بفخر في يده. بالنسبة إلى المرأة، الفكرة هي أن حبَّها وعاطفتها (التي تشير إليها القُبلة) تحوِّل الضفدع إلى رجل وسيم، أي حضور ذكوري كامل، أما بالنسبة إلى الرجل، فالفكرة هي اختزال المرأة إلى موضوع جزئي، أي إلى علَّة رغبته وباعثها. بسبب هذا التباين، لا توجد علاقةٌ جنسية: ما لدينا هو إما امرأة مع ضفدع وإما رجل مع زجاجة مشروب. وما لا يمكننا الحصول عليه أبدًا هو الثنائي الطبيعي للمرأة الجميلة والرجل: النظير التخيُّلي لهذا الثنائي المثالي كان ليكون «ضفدعًا يحتضن زجاجة مشروب» — وهي صورة غير متناسقة، تسلِّط الضوءَ على تنافر العلاقة الجنسية السخيف بدلًا من أن تكفل تناغمها. يفتح هذا الأمر البابَ أمام إمكانية تقويض السيطرة التي يمارسها الخيال علينا من خلال التماهي الزائد معه: من خلال اعتناق العديد من العناصر التخيُّلية غير المتسقة في آن واحد وفي حيز واحد. وهذا يعني أن كل ذات من الاثنتَين مُنخرطة في تخيُّلها الذاتي؛ فالفتاة تحلُم بالضفدع الذي هو في الواقع شاب، والرجل يحلم بالفتاة التي هي في الواقع زجاجةُ مشروب. ما يقابله الفن الحديث والكتابة الحديثة بهذا ليس الواقع الموضوعي، ولكن الخيال «الذاتي الموضوعي» الكامن الذي لا يمكن أبدًا للذاتَين تطبيقه وتجسيده، لوحة من أعمال رينيه ماجريت لضفدع منفرج الساقَين إلى جوار زجاجة مشروب، بعنوان «رجل وامرأة» أو «الزوجان المثاليان». (هنا يكون تداعي الأفكار مع العمل السريالي الشهير «حمار ميِّت على البيانو» مبرَّرًا تمامًا، حيث إن السرياليين أيضًا مارسوا مثل هذا التماهي الزائد مع التخيُّلات غير المتناسقة.) أليس هذا هو واجب الفنان اليوم — أن يواجهنا بالضفدع الذي يحتضن زجاجة المشروب عندما نتخيَّل معانقة المحبوب؟ بمعنًى آخر، أليس من واجب الفنان أن يقدِّم الأوهام والتخيُّلات المنزوعة الذاتية جذريًّا، التي لا يمكن أبدًا أن تطبِّقها الذات على أرض الواقع؟

يقودنا هذا إلى إشكالية أساسية أكثرَ تعقيدًا: إذا كان الخيال هو ما يشكِّل بنيةَ ما نخبره بوصفه «الواقع»، وإذا كان الخيال يعمل بمثابة حائل يحمينا من التعرض المباشر للواقعي الفج، إذن «يمكن أن يعمل الواقع نفسه بمثابة وسيلة هروب من مواجهة الواقعي». في التمييز بين الحُلم والواقع، يكون الخيال في صف الواقع، وفي الأحلام نواجه الواقع الصادم — ليست الفكرة أن الأحلام للأشخاص الذين لا يستطيعون تحمُّل الواقع، بل أن الواقع نفسَه هو للأشخاص الذين لا يستطيعون تحمُّل (الحقيقة التي تعلن عن نفسها في) أحلامهم. هذا هو الدرس الذي يستخلصه لاكان من الحُلم الشهير الذي أورده فرويد في كتابه «تفسير الأحلام»، حُلم الأب الذي يغفو وهو يحرس نعش ابنه. في هذا الحُلم، يظهر له ابنه الميت، يستغيث به استغاثةً مفزعة وصاعقة: «أبتاه، أما ترى أنني أحترق؟» وعندما يستيقظ الأب، يكتشف أن القماش على نعش ابنه قد اشتعلت به النار بفعل شمعة سقطت عليه. فلماذا استيقظ الأب؟ هل كان ذلك بسبب أن رائحة الدخان أصبحت قوية جدًّا، بحيث لم يَعُد من الممكن مواصلةُ نومه عن طريق احتواء الحدث في حُلم مرتجَل؟ يقترح لاكان قراءةً مثيرة للاهتمام بدرجة أكبر:

إذا كانت وظيفة الحُلم هي إطالة النوم، وإذا كان بإمكان الحُلم — في نهاية المطاف — أن يقترب بدرجة كبيرة جدًّا من الواقع الذي يسبِّبه، أفلا يمكننا إذن القول إنه قد يتوافق مع هذا الواقع دون الخروج من النوم؟ ففي النهاية، هناك شيءٌ معروف مثل السَّير أو النشاط أثناء النوم. السؤال الذي يطرح نفسه، والذي في الواقع تسمح لنا جميع الإشارات السابقة إلى فرويد هنا بطرحه، هو … ما الذي يُوقظنا من النوم؟ أليس هو الواقع الآخر في الحُلم؟ … الواقع الذي يصِفه فرويد على النحو التالي: الطفل واقف بجوار سريره، يمسك بذراع والده ويهمس له بشيء من اللوم، أبتاه، أما ترى أنني أحترق؟

أليس ما تتضمَّنه هذه الرسالة من الواقع أكثرَ مما تتضمنه الضوضاء التي يتعرَّف من خلالها الأبُ أيضًا الواقعَ الغريبَ لِما يحدُث في الغرفة المجاورة؟ ألا تعبِّر هذه الكلمات عن الواقع الذي تسبَّب في وفاة الطفل ولم يستوعبه الأب؟6

إذن ما أيقظ الأب المكلوم ليس التسلُّل من الواقع الخارجي، ولكن الطابع الصادم الذي لا يُحتمَل لما واجهه في الحلم — بقدرِ ما يعني «الحُلم» التخيُّل من أجل تجنُّب مواجهةِ ما هو واقعي، لقد استيقظ الأب حرفيًّا حتى يتمكَّن من الاستمرار في الحُلم. كان السيناريو على النحو التالي: عندما أيقظه الدخان من نومه، نسج الأب بسرعة حُلمًا يدمج العنصر الذي اعترضه وأيقظه (الدخان – النار) من أجل مواصلة نومه، ومع ذلك، ما واجهه في الحلم (مسئوليته عن وفاة الابن) كان صدمةً أقوى بكثير من الواقع؛ ومن ثَم استفاق إلى الواقع من أجل تجنُّب ما هو واقعي.

في الفن المعاصر، نواجه غالبًا محاولاتٍ ضارية ﻟ «العودة إلى الواقع»، لتذكير المتفرج (أو القارئ) بأنه يتلقى خيالًا، لإيقاظه من الحُلم الأثير. هذه الإيماءة لها شكلان رئيسيان يؤديان التأثير نفسه على الرغم من تعارضهما. في الأدب أو السينما، هناك تنبيهات استنباطية (لا سيَّما في النصوص ما بعد الحداثية) بأن ما نشاهده هو مجرد خيال، كأن يتحدَّث الممثلون على الشاشة مباشرةً إلينا نحن المتفرجين، مما يدمِّر وهمَ المساحة المستقلة للخيال السردي، أو حين يتدخَّل الكاتب مباشرةً في السرد من خلال التعليقات الساخرة. وفي المسرح، هناك أحداث قاسية عرَضية توقظنا وتعيدنا إلى واقع المسرح (مثل ذبح دجاجة على خشبة المسرح). بدلًا من أن نضفيَ على هذه الإيماءات نوعًا من الحيثية البريختية، فإننا نَعُدُّها صيغًا من الاغتراب، يجب أن نستنكرها لواقعيتها؛ فهي النقيض التام لما تبدو عليه — «هروب من الواقع»، محاولات يائسة لتجنُّب الواقع الحقيقي للوهم نفسه، الواقع الذي يظهر بمظهر مشهد وهمي.

ما نحن بصدده هنا هو الغموض الأساسي الذي يكتنف مفهوم الخيال: ففي حين أن الخيال هو الحجاب الذي يحمينا من مجابهة الواقع، لا يمكن أبدًا أن نضفيَ عليه نزعة الذاتية في أكثرِ أشكاله أساسية — ما أسماه فرويد «الخيال الأصلي»، الذي يوفِّر المعطيات الأولية لقدرة الذات على الرغبة — ويجب أن يظل مكبوتًا لكي يؤدي وظيفته. دعونا نستعرض الخاتمة الفجَّة في ظاهرها لفيلم ستانلي كوبريك «عيون مُغمَضة على اتساعها». بعد أن يعترف توم كروز إلى نيكول كيدمان بمغامرته الليلية، وبعد أن يجدَ كلٌّ منهما نفسه في مواجهة مباشرة مع تخيُّلاتهما المسرفة، تخبره كيدمان — بعد التأكد من أنهما الآن مستيقظان تمامًا، وأنهما عادا إلى مجريات يومهما، وأنهما سيبقيان بعيدين عن الخيال، إن لم يكن للأبد، فعلى الأقل لفترة طويلة — تخبره أنهما يجب أن يفعلا شيئًا في أقرب وقت ممكن. يسألها «ماذا؟» وتجاوبه: «الجنس». ثم ينتهي الفيلم، وتُعرَض أسماء المشاركين تباعًا. لم يحدُث في فيلم من قبلُ أن كُشِف بهذه الدرجة الصريحة جدًّا عن طبيعة «الانتقال إلى الفعل» بوصفه مَخرجًا مزيفًا، أي عن طريقة تجنُّب المواجهة المباشرة مع فظائع العالم الآخر التخيُّلي: فبدلًا من أن يوفِّر لهما الانتقالُ إلى الفعل الرضا الجسدي الواقعي الذي سيحلُّ محلَّ التخيُّل الفارغ، يُقدَّم بديلًا مؤقتًا، كإجراء وقائي يائس يهدُف إلى إبعاد عالم الأوهام الآخر التخيُّلي وتحجيمه. يبدو كما لو أن رسالتها هي «دعنا نمارس الجنس الآن، وبعد ذلك يمكننا أن نكبح جماح خيالاتنا المتدفِّقة، قبل أن تغلب علينا مرةً أخرى.» تعليق لاكان الساخر عن الاستيقاظ في الواقع بوصفه هروبًا من الواقع الذي نواجهه في الحُلم؛ ينطبق على الفعل الجنسي نفسِه أفضل مما عداه: نحن لا نحلُم بممارسة الجنس عندما لا نستطيع القيام بذلك؛ بل نمارس الجنس من أجل الهروب وكبح القوة المفرِطة للحُلم الذي من شأنه أن يطغى علينا. وفقًا للاكان، تكمُن المهمة الأخلاقية القصوى في الصحوة الحقيقية: ليس من النوم فحسب، ولكن من سطوة البناء التخيُّلي (الفانتازيا) الذي يحكم شِباكه علينا بقوة أكبر عندما نكون مستيقظين.

هوامش

كان إيميل بينفينيست هو حلْقةَ الوصل بين لاكان وجيه إل أوستن، صاحبِ نظرية أفعال الكلام.
لهذا السبب أيضًا نجد أن الرجال الذين يرتكبون جرائمَ اغتصاب لا تدور في مخيِّلتهم مشاهدُ لاغتصاب النساء — بل على العكس، يتخيَّلون أنهم يتعاملون بلطف مع النساء، وأنهم يبحثون عمَّن يشاركهم الحبَّ؛ ومن ثَمَّ يصبح الاغتصاب بهذا المفهوم ممرًّا للتنفيس، بعدما يعجز الشخص عن إيجاد هذا الشريك في العالم الواقعي.
إذا نظرنا إلى هذا من وجهةِ نظرٍ نسوية واضحة، فسيكون الرأي أن ما تشهده النساءُ في خبرات حياتهن اليومية مع الحبِّ يأتي على النقيض تمامًا من هذا السيناريو: فأنتِ تقابلين شابًّا وسيمًا، وبعد أن تقتربي منه أكثرَ من اللازم، عندما يكون الأوان قد فات لذلك، إذا بكِ تكتشفين أنه في واقع الأمر ضفدعٌ، بل وربما ضفدعٌ سكِّير يعاقر الخمر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤