اضطراباتٌ في الواقعي: لاكان مُشاهِدًا فيلم «الدَّخيل»
تخيَّلوا للحظة أن شيئًا ما يخرج من أغشية البويضة لحظةَ انكسارها لخروج الجنين الذي يصير مولودًا جديدًا، وأن هذا الشيء يمكننا تخيُّل خروجه من البويضة بنفس السهولة التي نتخيَّل بها خروجَه من الإنسان، وتحديدًا جوهر الإنسان، أو اللاميلا.
واللاميلا هو شيء مسطَّح للغاية، يتحرك مثل الأميبا. لكنه أكثر تعقيدًا إلى حدٍّ ما. وهو يستطيع المرور في كل مكان. وبما أنه شيء يرتبط بما يفقده الكائن المحدَّد الجنس في عملية التحديد الجنسي، وهو أمرٌ سنفسره لاحقًا، فهو خالد، مثل الأميبا فيما يتعلق بالكائنات المحدَّدة الجنس؛ لأنه ينجو من أي انقسام واقتطاع. ويمكنه كذلك أن يدور ويتجوَّل.
حسنًا! الأمرُ غير مطمئن بالمرة. لكن افترضوا أن هذا الشيء يأتي ويغطي وجوهكم بينما أنتم نائمون في سكينة …
لا أدري كيف لنا أن نخوض معركةً مع كائن بهذه الخصائص. لن تكون معركة سهلة. ويمكنني أن أعطيكم المزيد من التفاصيل حول هذا اللاميلا، هذا العضو الذي يتصف بأنه عضو رغم أنه ليس عضوًا ذا وجود مادي، وحول مَرتبته في عالَم الحيوان — إنه الشهوة الجنسية.
من الصعب لأيٍّ من عشَّاق السينما المتحمسين، تجنُّب الشعور بأن هذا كله قد شاهده من قبل. لا يذكِّرنا وصفُ لاكان بالمخلوقات الكابوسية في أفلام الرعب فحسب؛ بل يمكن قراءته على نحوٍ أكثرَ تحديدًا، باعتباره وصفًا دقيقًا لفيلم صُوِّر بعد أكثرَ من عَقد من كتابته لتلك الكلمات، وهو فيلم «الدَّخيل» لريدلي سكوت. المخلوق الفضائي البشع في هذا الفيلم يشبه لاميلا لاكان إلى حدٍّ كبير وكأن لاكان قد شاهد الفيلم حتى قبل صناعته. كل شيء يتحدث عنه لاكان موجودٌ في الفيلم: يبدو الوحش وكأنه غير قابل للتدمير؛ فإذا قطعته إربًا، فإنه يعود في هذه القِطع كلها، وهو شيء مسطَّح للغاية يطير فجأة ويغطي وجهك، ويتميز بمرونة فائقة، ويمكنه أن يتَّخذ العديد من الأشكال، تتدخل فيه سِمات الشر الحيوانية المحضة مع الإلحاح الآلي الأعمى. المخلوق الفضائي هنا هو الشهوة الجنسية بوصفها حياةً محضة، حياةً خالدة لا يمكن إفناؤها. وعلى حَد تعبير ستيفن مولهال:
بعيدًا عن تمثيل الكائن على أنه كائن وحشي بشِع، لا يزال اللاميلا ضمن نطاق التخيُّلي، وإن كان ذلك على هيئةِ صورة تسعى إلى توسيع نطاق الخيال إلى أقصى حدود ما لا يقبل التمثيل. يقع اللاميلا في نقطةِ تقاطع التخيُّلي والواقعي: فهو يمثِّل الواقعي في بُعده التخيُّلي الأكثر رعبًا، بوصفه الهاوية السحيقة التي تبتلع كلَّ شيء، وتذيب كل الهُويَّات — إنه شخصية ذائعة الصيت في الأدب ذات هيئات متعدِّدة، بدءًا من دوامة إي إيه بُو الخيالية، و«الذعر» الذي شعر به كورتز في نهاية رواية «قلب الظلام» لكونراد، وصولًا إلى بيب في رواية «موبي ديك» لميلفيل الذي يلتقي الإله الملعون، الشيطان، بعد أن سقط في قاع المحيط:
غاصَ وهو على قيد الحياة إلى أعماقٍ سحيقة، حيث مرَّت أمام عينيَه الشاخصتَين أشكالٌ غريبة من العالَم البدائي غير المشوَّه … رأى بيب مجموعةً متنوعة من الهوام المرجانية، كانت حوله في كل مكان، تَخرجُ مندفعةً من المياه مثل أجرام كروية هائلة. ورأى قدَم إله على دواسة النَّول، وتحدَّث إليه؛ ومن ثَم زعم رفاقُه أنه مسَّه الجنون.
هذا الواقعي للاميلا يعارض النَّسق العلمي للواقعي. قد يمثِّل ما يلي مفاجأةً لأولئك الذين اعتادوا النظرَ إلى لاكان على أنه مجرد «ما بعد حداثي» مؤمن بالنسبية: إن لاكان مناهض حازم لما بعد الحداثة، يُعارض أيَّ فكرة تقول بأن العلم مجرد قصة نحكيها لأنفسنا عن أنفسنا، إنه سردية ترتكز سيادتها الظاهرة على السرديات الأخرى — الأسطورية والفنية — فقط في «نظام الحقيقة» الغربي الطارئ تاريخيًّا (وفقًا للمصطلح الشائع الذي استخدمه ميشيل فوكو). بالنسبة إلى لاكان، المشكلة هي أن هذا الواقعي العلمي:
تنطوي هذه الفقرة على فكرةٍ أكثر تعقيدًا بكثير مما قد تبدو عليه؛ ومن ثَم يجب أن نتحرى الدقة تمامًا هنا. ما الشيء الذي يفصلنا نحن البشرَ عن «الواقعي الحق» الذي يستهدفه العلم، ما الذي يجعل وصولنا إليها عصيًّا؟ إنه ليس بالنسيج الشبكي للتخيُّلي (متمثلًا في الأوهام والتصوُّرات الخاطئة)، الذي يشوِّه ما نراه، ولا هو «جدار اللغة»؛ أي الشبكة الرمزية التي من خلالها نتعامل مع الواقع، ولكنه واقعي آخر. هذا الواقعي من منظور لاكان هو الواقعي المحفور في جوهر الجنسانية البشرية: إنه عبارة لاكان «لا توجد علاقة جنسية». تتميَّز الجنسانية البشرية بقصورٍ لا يمكن اختزاله، والاختلاف الجنسي هو التناقض بين الوضعَين الجنسيين اللذين لا يوجد بينهما قاسمٌ مشترك، ولا يمكن تحقيق اللذة إلا على خلفية فقدٍ جوهري. وتقدِّم صورة اللاميلا المتخيَّلة الكيانَ الوهمي الذي يجسِّد ما يفقده الكائن الحي، عندما يدخل إلى نظام الاختلاف الجنسي (المنظَّم رمزيًّا). بما أن أحد الأسماء التي أطلقها فرويد على هذا الفقد هو «الخِصاء»، يمكننا أيضًا القول بأن اللاميلا هو المقابل الإيجابي للخِصاء: إنه الجزء المتبقي غير المخصي، الموضوع الجزئي غير القابل للتدمير والمقتطَع من الجسم الحي العالق في الاختلاف الجنسي.
«الفكرة الكامنة» التي يعبِّر عنها هذا الحُلم هي شعور فرويد بالذنب والمسئولية تجاه فشل علاجه لإيرما، وهي مريضة شابة كانت تُعالج لديه. في الجزء الأول من الحُلم، تحدُث مواجهة بين فرويد وإيرما، تنتهي بأن ينظر فرويد عميقًا في حلقها، وما يراه هناك يجسِّد الواقعي في صورة الجسد الأولي، نبض مادة الحياة باعتبارها «الشيء» نفسه، في بُعدها المقزز ذي النمو السرطاني. أما الجزء الثاني من الحُلم، وهو المحادثة الهزلية بين الأطباء الثلاثة أصدقاء فرويد، الذين يقدِّمون تبريراتٍ مختلفة لفشل العلاج، فينتهي بتركيبة كيميائية مكتوبة بخط واضح (وهي تركيبة التريميثيلامين أو ثلاثي ميثيل الأمين). وبذلك ينتهي كل جزء بشكل من أشكال الواقعي: أولًا، واقعي اللاميلا، ذلك «الشيء» المرعب العديم الشكل؛ ثم الواقعي العلمي، وهو واقعي التركيبة التي تعبر عن آلية العمل التلقائية والعقيمة للطبيعة. يعتمد الفارق بين شكلَي الواقعي في كلا جزأَي الحُلم على نقطة البداية المختلفة: إذا بدأنا ﺑ «التخيُّلي» (المواجهة المباشرة بين فرويد وإيرما)، نحصُل على الواقعي في بُعده التخيُّلي، أي الصورة الأولية المرعبة التي تلغي التخيُّل نفسه؛ وإذا بدأنا ﺑ «الرمزي» (تبادل الحجج بين الأطباء الثلاثة)، فإننا نحصل على لغةٍ تفتقر إلى ثراء المعنى الإنساني، وقد تحوَّلت إلى واقعي يعبِّر عن تركيبة عقيمة بلا معنًى.
يجب أن نميز هنا بين «الموضوع الصغير أ» بوصفه موضوعَ الرغبة وعِلَّتها: في حين أن موضوع الرغبة يعني ببساطة الشيء المرغوب فيه، فإن علة الرغبة هي الشيء الذي بسببه نرغب في الموضوع، تفصيلة أو اختلاج ما عادةً ما لا ندركه، بل وقد نخطئ أحيانًا في تصوُّر كونه عقبة، ورغم ذلك تظل لدينا الرغبة. يلقي هذا التمييز ضوءًا جديدًا على أطروحة فرويد التي تقول إن السوداوي لا يدرك ما فَقَدَ في الموضوع المفقود. فالسوداوي ليس في المقام الأول الشخصَ الذي يتعلق بالموضوع المفقود، إلى الحد الذي يجعله غير قادر على الحِداد عليه، بل هو بالأحرى الشخص الذي يمتلك موضوع الرغبة ولكنه لم يَعُد لديه رغبة فيه؛ لأن العلة أو السبب الذي جعله يرغب في هذا الشيء قد تراجع في أهميته وفقدَ تأثيره. وبعيدًا عن المبالغة في تأكيد وضع الرغبة حين يخيب فيها رجاؤنا، فإننا نشعر بالسوداوية عندما نحصل أخيرًا على الشيء المرغوب، ولكن تخيب فيه آمالنا.
بهذا المعنى الدقيق، تُعَد السوداوية (خيبة الرجاء في كل الموضوعات الإيجابية والتجريبية التي لا يمكن أن يلبيَ أيٌّ منها رغبتنا) بداية الفلسفة. الشخص الذي اعتاد طوال حياته العيشَ في مدينة معينة، ثم أُجبر في نهاية المطاف على الانتقال إلى مكان آخر، يحزن بالطبع لترقُّب أن يُلقى به في بيئة جديدة — ولكن ما الذي يُحزِنه حقًّا؟ ما يحزِنه ليس ترقُّب مغادرة المكان الذي اتخذه موطنًا له سنواتٍ، بل أمرٌ أرهف من ذلك وهو الخوف من فقدان ارتباطه بهذا المكان. ما يجعلني حزينًا هو الوعي المتسلل بأنني آجلًا أو عاجلًا — وربما في وقتٍ أقرب مما يمكنني الاعتراف به — سأندمج في مجتمع جديد، وأنسى هذا المكان الذي يعني الكثير لي الآن وأصير غريبًا عليه. باختصار، ما يجعلني حزينًا هو الوعي بأنني سأفقد رغبتي في (ما هو الآن) موطني.
ما يحدُث في حالة الموضوع-علة الرغبة هو ضربٌ من التشويه البصري. عندما ننظر إلى جزءٍ من اللوحة من الأمام مباشرةً، يظهر هذا الجزء وكأنه لطخةُ ألوان بلا دلالة معينة، ولكن عندما نغيِّر موقعنا وننظر إلى اللوحة من زاوية، يتَّخذ هذا الجزء معالمَ موضوع معروف. ومع ذلك، فإن مقصد لاكان أكثر راديكاليةً من ذلك: فالموضوع-علة الرغبة، عند النظر إليه من الأمام مباشرة، لا يمثل شيئًا على الإطلاق، مجرد فراغ؛ فهو لا يكتسب معالمَ شيء ما إلا عندما يُنظر إليه بميل أو من زاوية. أفضلُ مثال على ذلك في الأدب نجده في مسرحية «ريتشارد الثاني» لشكسبير، حين يحاول بوشي طمأنة الملِكة التي يساورها القلق بشأن الملك المنكود إثر قيامه بحملة عسكرية:
هذا هو الموضوع أ: كيان ليس له قِوام مادي، وما هو في حد ذاته سوى «خلط للرؤى»، ولا يتخذ شكلًا محددًا إلا عند النظر إليه من منظورٍ توجِّهه رغباتُ الذات ومخاوفها، وعندئذٍ يكون مجرد «ظلال لكيان كاذب». الموضوع أ هو الموضوع الغريب الذي ما هو إلا إدراج للذات نفسِها في مجال الموضوعات، في صورة لطخة لا تتخذ شكلًا محددًا إلا عندما تغيِّر رغبةُ الذات جزءًا من هذا المجال عن طريق التشويه أو التحوير البصري. دعونا لا ننسَ أن أشهرَ تغيير في أبعاد المنظور في تاريخ الرسم، وهو ما نجده في لوحة السفراء لهولباين، يتعلَّق بالموت: فعندما ننظر من الزاوية الجانبية الصحيحة إلى اللطخة الممتدة في الجزء السفلي من اللوحة، والتي وُضعت بين أشياء تعبِّر عن الخُيَلاء البشرية، فإن البقعة تظهر على هيئة جمجمة. يمكن قراءة طمأنة بوشي للملكة جنبًا إلى جنب مع مونولوج ريتشارد الذي يليه — والذي يحدِّد فيه موضع الموت في الفراغ الموجود في منتصف التاج الملكي الأجوف — باعتبارهما يمثلان المهرِّج الخفي الذي يتركنا نلعب دور الملك ونستمتع بسلطتنا، فقط ليثقب شكلنا المنتفخ بدبوسٍ، فيجعلنا نستحيل إلى عدم:
يُقال عادةً إنه من الصعب على ريتشارد قبولُ التمييز بين «جسدَي الملك»، وتعلُّم العيش إنسانًا عاديًّا دون الهيبة الملَكية. ومع ذلك، فإن مغزى المسرحية هو أن هذه العملية — على قدْر ما هي بسيطة وأولية كما يبدو — يستحيل تنفيذها في نهاية المطاف. ببساطة، يبدأ ريتشارد في إدراك أن شخصيته الملَكية هي نتاج التشويه البصري، «ظل العَدَم»؛ ومع ذلك، فالتخلُّص من هذا الهاجس الواهي لا يترك لنا الواقع البسيط لما نحن عليه فعلًا — فمن الواضح أنه لا يمكن ببساطة موازنةُ التشويه البصري الناتج عن الهيبة والواقع المادي، كما لو كان الواقع بأكمله هو نتاجًا للتشويه البصري، «ظل للعَدَم»، وما نحصُل عليه إذا نظرنا إليه مباشرةً هو صورة فوضوية ومضطربة للعدم. ومن ثَم، ما نحصُل عليه بعد أن نتخلى عن الهُويات الرمزية، بعد «خلع العباءة الملَكية»، هو العَدَم. إن صورة «الموت» في منتصف التاج ليست الموت فحسب، بل هي صورة الذات نفسها مختزلةً إلى عَدَم، إنها مكانة ريتشارد عندما يواجه طلبَ هنري بالتنازل عن التاج، حيث يردُّ ببساطة: «لا أعرف أيَّ «أنا» بمقدوره القيام بذلك!»
هناك مشهد لا يُنسى في فيلم «أضواء المدينة»، وهو أحد روائع تشارلي تشابلن. بعد أن يبتلع صَفَّارة بالخطأ، يصاب وهو الصعلوك المتشرِّد بنوبة من الفُوَاق، مما يؤدِّي إلى مواقفَ كوميدية. فنظرًا إلى حركة الهواء في مَعِدته، يولِّد كل شهيق صوتَ صفير غريبًا يأتي من داخل الجسم. يحاول هذا المتشرِّد جاهدًا التغطية على هذه الأصوات درءًا لشعوره الشديد بالحرج، وهو لا يعرف ماذا يفعل. ألا يجسِّد هذا المشهد شعور الخجل في أنقى صوره؟ فأنا أشعر بالخجل عندما أعاني زيادةً في الوزن، ومن الجدير بالذكر أن مصدر الخجل في هذا المشهد هو الصوت: صوت خفيٌّ ينبعث من داخل جسدي؛ أي الصوت بوصفه عضوًا مستقلًّا من دون جسم، يقع في أعماق جسدي وفي الوقت نفسه لا يمكن السيطرة عليه، وكأنه نوعٌ من الطفيليات الدخيلة الغريبة.
ما يتعيَّن علينا فهمه من كل هذا هو أن الواقعي في منظور لاكان، وفي أكثر أشكاله راديكالية، يجب أن يكون مجردًا تمامًا. إنه ليس شيئًا خارجيًّا يقاوم الوقوعَ في الشبكة الرمزية، ولكنه الثغرة الموجودة داخل الشبكة الرمزية نفسِها. الواقعي بوصفه «الشيء» الوحشي القابع خلف ستار المظاهر هو الشَّرَك الذي يفسح المجال بسهولة لاستغلاله في حركة «العصر الجديد»، كما في فكرة جوزيف كامبل عن الإله الوحش:
ما الشَّرَك هنا؟ فيما يتعلق بمفهوم الواقعي بوصفه شيئًا ماديًّا، يصل لاكان إلى حالة عكسيَّة يمكن توضيحها بالانتقال من النظرية الخاصة إلى النظرية العامة للنسبية عند أينشتاين. ففي حين أن النسبية الخاصة تقدِّم بالفعل مفهوم الفضاء المنحني، فإنها تنظر إلى هذا الانحناء بوصفه تأثيرًا ناجمًا عن المادة: وجود المادة هو الذي يؤدي إلى انحناء الفضاء؛ بمعنى أن الفضاء الفارغ فقط هو ما لن يكون فضاءً منحنيًا. وبالانتقال إلى النسبية العامة، يتم عكس علاقة السببية: بدلًا من أن يكون وجود المادة هو «سبب» انحناء الفضاء، فإن المادة هي «التأثير» الذي يُحدِثه؛ ومن ثَم وجودها دلالة على انحناء الفضاء. ما العلاقة التي يمكن أن تكون بين هذا كله والتحليل النفسي؟ العلاقة بينهما قائمة وأقوى مما قد تبدو عليه: على غرار ما ذهب إليه أينشتاين في النسبية، فإن الواقعي — أو الشيء — من منظور لاكان ليس هو الوجود الخامل الذي يتسبَّب في انحناء الفضاء الرمزي (فيجعل فيه الفجوات والتعارضات)، لكنه بالأحرى أحد الآثار المترتبة على هذه الفجوات والتعارضات.
هذا يعيدنا إلى فرويد الذي غيَّر موقفه في أثناء وضع نظريته حول الصدمة، بطريقةٍ تتشابه على نحو غريب مع تحوُّل أينشتاين الذي ذكرناه آنفًا. قدَّم فرويد مفهومَ الصدمة في البداية بوصفه شيئًا من الخارج يقتحم حياتنا النفسية فيخلُّ بتوازنها، مما يفكِّك المعطيات الرمزية التي تنظِّم تجربتنا ويعطِّلها، ومن أمثلة ذلك الاغتصاب الوحشي، أو مشاهدة تعذيب (أو التعرض له). من هذا المنظور، تكمُن المشكلة في كيفية تمثيل الصدمة رمزيًّا، كيفية دمجها في عالَم المعاني وإلغاء تأثيرها المشوِّش. ولكن، اختار فرويد لاحقًا نهجًا معاكسًا. ففي تحليله لحالة «الرجل الذئب»، وهو مريضه الروسي الشهير، عزلَ فرويد الحدث الصادم الذي تعرَّض له مريضُه، وهو طفل عمره عامان ونصف العام، حين شاهد جِماع والده لأمه من الدُّبر، وما خلَّفه ذلك الحدث من أثر في حياته. ولكن ما حدث في الأساس أنه لم يوجد شيء صادم في هذا المشهد حين وقوعه: فبعيدًا عن تحطيم الطفل، سجَّل الطفل الحدث في ذاكرته على أنه لا يحمل أي معنًى واضح على الإطلاق. وبعدئذٍ بسنوات، عندما أصبح الطفل مهووسًا بالسؤال «من أين يأتي الأطفال؟» بدأ في وضع نظرياتٍ جنسية طفولية، واستدعى هذه الذكرى مستخدمًا إياها مشهدًا صادمًا يجسِّد سرَّ الحياة الجنسية. اكتسب المشهد طابع الصدمة، ورُفع إلى مرتبة الواقعي الصادم — بأثر رجعي بحت — لمساعدة الطفل في التكيُّف مع مأزق عالَمه الرمزي (عجزه عن إيجاد إجابات عن لغز الجنس). وعلى غرار التحوُّل الذي أحدثه أينشتاين، فإن الحقيقة الأساسية هنا تتمثَّل في المأزق الرمزي، واستُدعِيَ الحدثُ الصادم لملء الفجوات في عالم الدلالة.
ألا ينطبق هذا الأمر أيضًا على واقع العداء الاجتماعي؟ تجسِّد النزعة المعادية للسامية العداءَ المتأصل في المجتمع (من خلال تجسيده في مجموعة معينة من الناس): إنها تعامل اليهودية باعتبارها «الشيء» الذي يأتي من الخارج، ويقتحم الجسم الاجتماعي ويخلُّ بتوازنه. إن ما يحدث عند التحول من موقف الصراع الطبقي الصارم إلى النزعة المعادية للسامية الفاشية؛ ليس مجرد استبدال بسيط لعَدو (اليهود) بآخر (الطبقة البرجوازية، الطبقة الحاكمة)؛ بل يتبع الصراع منطقًا مختلفًا تمامًا. في الصراع الطبقي، تكون الطبقات نفسُها عالقةً في العداء الذي يتأصل في الهيكل الاجتماعي، بينما في حالة المعادي للسامية، يكون اليهودي هو الدخيل الأجنبي الذي يسبِّب العداء الاجتماعي؛ ومن ثَم يصبح كلُّ ما علينا القيام به لاستعادة الانسجام الاجتماعي هو القضاء على اليهود. بعبارةٍ أخرى، على غرار ما فعله الرجل الذئب حين استدعى مشهد الجِماع بين والدَيْه لتأسيس نظرياته الجنسية الطفولية، يرفع الفاشي المعادي للسامية اليهوديَّ إلى مرتبة «الشيء» الوحشي الذي يسبِّب الانحطاط الاجتماعي.
كثيرًا ما يلجأ لاكان إلى الواقعي العلمي، ويستشهد بأمثلةٍ من «العلوم الطبيعية» لتوضيح الألغاز المتعلِّقة بواقعي التحليل النفسي. هل هذه الإحالات مجرد مجازات، مجرد استعارات تلقينية ليس لها قيمة معرفية متأصلة في ذاتها، أم أنها تنطوي على رابط نظري بين المجالَين؟ على الرغم من أن لاكان يميل إلى التقليل من أهمية استعاراته، معتبرًا إياها أدواتٍ تعليمية، فإن الحالة غالبًا ما تكون أكثر غموضًا.
هل هذه المفارقات حقًّا مجال حصريٌّ يقتصر على التاريخ البشري؟ يبدو أن فيزياء الكَمِّ، في أكثر صورها جرأة، تسمح بمثل هذه المفارقة التي شاهدناها في أفلام الرسوم المتحركة، والتي تتمثَّل في التوقف اللحظي، أو «إغفال»، المعرفة داخل الواقعي. تخيَّل أنك احتجت في أحد الأيام إلى السفر بالطائرة لتسلُّم ثروة في اليوم التالي، ولكن ليس لديك المال اللازم لشراء تذكرة الطيران؛ ولكنك اكتشفت بعد ذلك أن نظام المحاسبة لشركة الطيران يسمح بتحويل ثمن التذكرة خلال أربع وعشرين ساعة من وصولك إلى وِجهتك، ولن يعرف أحد أنه لم يتم الدفع قبل المغادرة. بالمثل:
هذه هي الكيفية التي يظهر بها الجسيم من اللاشيء، حتى في منطقة فارغة من الفضاء، فهو «يقترض» طاقتَه من المستقبل ويدفع ثَمنها (بفنائه) قبل أن يلاحظ النظام هذا الاقتراض. ويمكن أن تعمل الشبكة كلُّها بهذه الطريقة، بإيقاع من الاقتراض والفناء، طرفٌ يقترض من آخر، فيزيح الدَّين على آخر، ويُرجئ بذلك سَداد الدين. ما يقتضيه هذا هو وجود مسافة فاصلة صغيرة للغاية بين الأشياء في واقعهم الطبيعي المباشر، وتسجيلِ هذا الواقع في وسيطٍ ما (من الآخر الكبير): إذ يمكن الغش بقدْر ما يتأخر الحدث الثاني عن الأول. وما يجعل فيزياء الكَمِّ على قدْر كبير من الغرابة أن المرء يمكنه الغش «في الواقع» فيما يتعلَّق بكينونته.
تواجه الفيزياء حاليًّا حالةً من الازدواجية الغريبة: تقدِّم نظرية النسبية أفضلَ تفسير لآلية عمل الطبيعة على المستوى العِياني (الكوني)، وتقدِّم فيزياء الكَمِّ أفضلَ حساب لآلية عمل الطبيعة على المستوى المجهري (دون الذري). المشكلة ببساطة أن النظريتَين غير متوافقتَين؛ ومن ثَم فإن الهدف الرئيسي للفيزياء حاليًّا هو صياغة نظرية «موحَّدة» تشمل كل شيء وتوفِّق بين كلتا النظريتَين. ولذا، لا عجب أن نجد صدًى لهذه الازدواجية في نظرية فرويد: فمن جهة، نجد فيها تأويلَ اللاواعي، وتفسيرات الأحلام، وزلات اللسان أو غير ذلك من «أخطاءٍ» مماثلة، والأعراض (توجد أمثلة على ذلك في ثلاثة من كتب فرويد الأولى وهي «تفسير الأحلام»، و«علم الأمراض النفسية للحياة اليومية»، و«النِّكات وعلاقتها باللاوعي»)؛ ومن جهة أخرى، نجد الرأي الأكثر إيجابيةً الذي ينظر إلى جهازنا النفسي على أنه آلة للتعامل مع الطاقات الجنسية، مما يؤدي إلى التحولات (التقلُّبات) في الدوافع (كانت أول دراسة رئيسية تناولت هذا الموضوع هي مجلَّد فرويد عن نظريات الجنس). على المستوى المفاهيمي، أفضلُ مثال على هذا الانقسام هو المصطلحان اللذان يستخدمهما فرويد أحيانًا بالتبادل: اللاوعي (الذي يتعيَّن تفسير تكويناته) والهو (موقع الطاقات اللاواعية). كيف نوفِّق بين هذين الوجهَين للصرح الفرويدي؟ واحدة من الألفاظ الجديدة العديدة التي استخدمها لاكان هي مفهوم «السينثوم» (العارض الذي يستدعي سلسلةً كاملة من الارتباطات، من «القديس توما» إلى «النغمة الصحية» إلى «الإنسان التأليفي»). على عكس الأعراض (التي هي رسائل اللاوعي المشفَّرة)، السينثوم بمثابة ذرة من المتعة، الحد الأدنى من التوليف بين اللغة والمتعة، وحدات من العلامات المشبَّعة بالمتعة (مثل الاختلاجة التي نكرِّرها على نحو قسري). أليس السينثوم هو الكم الأدنى من المتعة، المتعة في أصغر أشكالها؟ ألا يُكافئ السينثوم بهذا المعنى مفهوم الأوتار الفائقة لدى فرويد، المقدَّر لها التوفيق بين وجهَي الفيزياء الحديثة، نظرية النسبية وميكانيكا الكَمِّ؟ ومع أن لاكان كثيرًا ما يُنتقَد لإهماله الصلة بين التحليل النفسي والعلوم الطبيعية التي شدَّد فرويد دائمًا عليها، فإن هذه الصلة موجودة ومُفعَّلة في أعماله.