الفصل الخامس

الأنا المثالية والأنا العليا: لاكان مشاهِدًا فيلم «كازابلانكا»

ما من شيءٍ يجبر المرءَ على الاستمتاع سوى الأنا العليا. الأنا العليا هي مُصدِر أمر الاستمتاع — «استمتع!».1
على الرغم من أن كلمة jouissance الفرنسية يمكن أن تُترجم إلى enjoyment في الإنجليزية، وإلى «الاستمتاع» أو «اللذة» في العربية، فإن مترجمي لاكان غالبًا ما يتركونها بالفرنسية إمعانًا في توضيح طابعها المفرِط والصادم: لسنا هنا بصدد التعامل مع لذاتٍ بسيطة، ولكن مع اقتحامٍ عنيف يجلب من الألم أكثرَ مما يجلب اللذة. هذه هي الطريقة التي نتصوَّر بها عادةً الأنا العليا لدى فرويد، ذلك الكيان الأخلاقي القاسي والسادي الذي يمطرنا بوابل من المطالب المستحيلة، ثم يراقب بسعادة عجْزَنا عن تلبيتها. لا عجبَ إذن أن يساويَ لاكان بين الاستمتاع والأنا العليا، ويجعلهما على قدَم المساواة: الاستمتاع ليس مسألة اتباع المرء ميوله العفوية؛ بل هو شيء نقوم به من منطلقِ كونه واجبًا أخلاقيًّا غريبًا وبه قدْر من الانحراف.
تلخِّص هذه الفكرة البسيطة — والمفاجِئة رغم ذلك — الطريقة التي يقرأ بها لاكان فرويد. يستخدم فرويد ثلاثة مصطلحات متمايزة للإشارة إلى الكيان الذي يدفع الذات إلى التصرف على نحوٍ أخلاقي: يتحدث فرويد عن الأنا المثالية Idealich، ومثال الأنا Ich-Ideal، والأنا العليا Über-Ich. ويميل إلى دمج هذه المصطلحات الثلاثة معًا: فيستخدم غالبًا التعبيرَ «مثال الأنا المثالية أو الأنا المثالية»، كما نجد في عنوان الفصل الثالث «الأنا والأنا العليا (مثال الأنا)» في كتيبه الموجَز «الأنا والهو». يميز لاكان تمييزًا دقيقًا بين هذه المصطلحات الثلاثة: «الأنا المثالية» هي الصورة المثالية التي تضعها الذات لنفسها (الطريقة التي يود المرء أن يكون عليها، الطريقة التي يود أن يراه الآخرون بها)، مثال الأنا هو الكيان الذي تحاول الذات أن تثيرَ إعجابه بالصورة التي تضعها للأنا الخاصة بها؛ أي إنها الآخر الكبير الذي يراقبني ويحثني على تقديم أفضلِ ما لدي، المثال (أو القدوة) الذي أحاول أن أحذوَ حذوَه وأجسِّده؛ والأنا العليا هي هذا الكيان نفسُه في شكله الانتقامي والسادي والمائل إلى العقاب. يتضح أن المبدأ الأساسي الذي ترتكز عليه هذه المصطلحات الثلاثة هو ثلاثية لاكان «التخيُّلي والرمزي والواقعي»: الأنا المثالية هي التخيُّلي، أو ما يسميه لاكان «الآخر الصغير»، وهي الانعكاس المثالي للأنا الخاصة بي، أما مثال الأنا فهو الرمزي، مغزى هُويَّتي الرمزية، الموضع الذي أراقب منه نفسي (وأحكم عليها) في الآخر الكبير؛ وأخيرًا الأنا العليا وهي الواقعي، الكيان القاسي والنَّهم الذي يمطرني بوابل من المطالب المستحيلة، ثم يسخر من محاولاتي الفاشلة لتلبيتها، الكيان الذي يراني دائمًا مذنبًا كلما حاولت قمْع تطلعاتي «الآثمة» وتلبية مطالبه. ويعتبر شعار ستالين القديم الساخر بشأن المتهمين الذين كانوا ينادون ببراءتهم في المحاكمات الصورية («كلما كانوا أبرياءَ أكثر، استحقُّوا الرمي بالرصاص») هو الأنا العليا في أنقى صورها.
بناءً على هذه الفروق الدقيقة، فإن الأنا العليا من منظور لاكان «لا تتعلق بالضمير الأخلاقي بقدْر ما يتعلق الأمر بمطالبه الإجبارية»:2 فالأنا العليا، على العكس من ذلك، هي الكيان النقيض للأخلاق، هي الوصمة التي تلحق بخيانتنا الأخلاقية. إذن أيُّ الآخرين هو الكيان الأخلاقي الصحيح؟ هل يجب أن نضع — كما اقترح بعض المحلِّلين النفسيين الأمريكيين استنادًا إلى بعض التعابير المبهمة لفرويد — مثال الأنا «الفاضلة» (العقلانية والمعتدلة، والمُراعية) مقابل الأنا العليا «الفاسدة» (غير العقلانية والمسرفة، والقاسية، والمثيرة للقلق)، محاولين حمْل المريض على التخلُّص من الأنا العليا «الفاسدة» واتباع مثال الأنا «الفاضلة»؟ يعارض لاكان هذا الحلَّ السهل. ذلك أن الكيان الصحيح الوحيد من وجهة نظره هو الكيان الرابع الذي تفتقده قائمة فرويد المكوَّنة من ثلاثة أنواع من الأنا، وهو ما يشير إليه لاكان أحيانًا ﺑ «قانون الرغبة»؛ أي الكيان الذي يُملي عليك أن تتصرف وَفقًا لرغبتك. الفجوة بين «قانون الرغبة» ومثال الأنا (شبكة المعايير والمُثل الاجتماعية الرمزية التي تستوعبها الذات في مسار تعلُّمها) مهمةٌ للغاية هنا. وَفقًا للاكان، يُجبرنا كيان الأنا المثالية التي تبدو في ظاهرها خيرًا، والتي تقودنا إلى النمو والنضج الأخلاقي، على التخلي عن «قانون الرغبة» من خلال تبنِّي المطالب «العقلانية» للنظام الاجتماعي الرمزي القائم. الأنا العليا، بشعورها المفرِط بالذنب، هي ببساطة الوجه الآخر الضروري لمثال الأنا: فهي تمارِس ضغوطها التي لا تُحتمَل علينا لأجل حملنا على خيانة «قانون الرغبة». إن الشعور بالذنب الذي نمرُّ به تحت ضغط الأنا العليا ليس وهميًّا بل حقيقيًّا، «الشيء الوحيد الذي يمكن أن يشعر المرء بالذنب تجاهه هو أن يتنازل نسبيًّا عن رغبته»،3 ويُثبِت الضغط الذي تمارسه علينا الأنا العليا أن الذنب الذي ارتكبناه «حقًّا» هو خيانة رغبتنا.
لنستعرض مثالًا على الفجوة التي تفصل بين مثال الأنا والأنا العليا، وهو المشهد القصير المعروف الذي عُرِض في الربع الأخير من واحد من أعظم الأفلام الكلاسيكية في هوليوود، وهو فيلم «كازابلانكا» لمايكل كورتيز،4 حيث تأتي إيلسا لوند (إنجريد بيرجمان) إلى غرفة ريك بلين (همفري بوجارت) لمحاولة الحصول على جوازات المرور التي ستمكِّنها وزوجها زعيم المقاومة، فيكتور لازلو، من الهروب من كازابلانكا إلى البرتغال ثم إلى أمريكا. وبعدما يرفض ريك تسليمَها الجوازات، تسحب مسدسًا وتهدِّده. يقول لها: «افعليها وأطلقي النار، ستُسدِين إليَّ معروفًا». لكنها تنهار وتخبره باكيةً عن سبب هجرانها له في باريس. وفي اللحظة التي تقول له: «لو تعلم كم أحببتُك، كم ما زلتُ أُحبك»، تقترب منهما الكاميرا لتنقل لنا عناقهما الحار. ينتهي المشهد وتعرض لنا الكاميرا لقطةً تستغرق ثلاث ثوانٍ ونصف الثانية لبرج المطار ليلًا، والكشاف يتحرك في حركة دائرية، ثم تعود الكاميرا لتنقل لنا لقطةً من خارج النافذة في غرفة ريك، حيث يقف ريك وهو ينظر إلى الخارج ويدخِّن سيجارة. يدير وجهه إلى الغرفة، ويسألها: «وماذا بعدُ؟» فتستأنف قصتها …

السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو بالطبع: ماذا حدث في الفترة الفاصلة، خلال اللقطة التي استغرقت ثلاث ثوانٍ ونصف الثانية لبرج المطار — هل مارسا الجنس أم لا؟ مالتبي محقٌّ في تأكيده أن ما نراه فيما يتعلَّق بهذه النقطة ليس مبهمًا ببساطة؛ بل يولِّد دلالتَين واضحتَين للغاية، رغم أنهما متناقضتَان — نعم ولا؛ فالفيلم يعطي إشاراتٍ واضحة بأنهما مارسا الجنس معًا، وفي الوقت نفسه إشارات واضحة بأنهما لا يمكن أن يكونا قد فعلا ذلك. من ناحية، تشير سلسلة من الصور المشفَّرة إلى أنهما فعلا ذلك، وأن اللقطة التي استغرقت ثلاث ثوانٍ ونصف الثانية تمثِّل مدةً أطول بكثير (فانتهاء اللقطة التي تصوِّر رجلًا وامرأة يتعانقان بشغف ويتبادلان القُبلات، يشير عادةً إلى أنهما مارسا الجنس معًا عندما استدارت عنهما الكاميرا، والسيجارة بعد الجِماع هي إشارة معهودة أخرى، وكذلك الدلالة الفجة للبرج بوصفه يرمز إلى العضو الذكري، أو«الفالوس»). ولكن من ناحية أخرى، تشير مجموعة موازية من الصور إلى عدم حدوث شيء بينهما، وأن اللقطة التي استغرقت ثلاث ثوانٍ ونصف الثانية لبرج المطار تتوافق تمامًا مع الوقت الحقيقي للسرد (فالسرير في الخلفية لم يتأثر أو يتغيَّر؛ ويبدو أن الحوار بينهما مستمر دون انقطاع). حتى في الحوار النهائي بين ريك ولازلو في المطار، عندما يشيران مباشرةً إلى الأحداث التي دارت ليلًا، يمكن فهْم كلماتهما على كلا الوجهَين:

ريك : قلتَ إنك كنت على علمٍ بما يخصني أنا وإيلسا؟
فيكتور : نعم.
ريك : ألم تكن على علمٍ بأنها كانت عندي ليلة أمس عندما كنتَ … جاءت بحثًا عن جوازات المرور. أليس كذلك، إيلسا؟
إيلسا : بلى.
ريك : لقد حاولت بشتَّى الطرائق الحصولَ عليها، ولكن لم يفلح شيء. بذلتْ قصارى جهدها لتقنعني أنها ما زالت تحبني. لقد مرَّت فترة طويلة على ذلك، وتظاهرت من أجلك أنها لم تتجاوز حبَّنا، وتركتُها تمضي في تصنُّعها.
فيكتور : أفهم هذا.
في الواقع، أنا لا أفهم بالتأكيد؛ هل فعلا ذلك أم لا؟ يتمثَّل الحل عند مالتبي في التأكيد على أن هذا المشهد يقدِّم حالةً نموذجية لكيفية «بناء فيلم كازابلانكا؛ فالفيلم يبني نفسَه بطريقة تقدِّم مصادرَ لذة متمايزة وبديلة موجَّهة إلى شخصَين يجلسان أحدهما بجانب الآخر في دار سينما واحدة»، وهذه الحالة «يمكن أن تروق لكلٍّ من الجماهير البريئة والمحنَّكة على حد سواء».5 ففي حين يمكن للمشاهِد تقييمُ الفيلم على أنه يمتثل إلى أشدِّ القوانين الأخلاقية صرامةً على مستوى خط السرد السطحي، فإنه يقدِّم في الوقت نفسه للمشاهِد المحنَّك ما يكفي من الأدلة لبناء خط سرد بديل وأكثر جرأة جنسيًّا. هذه الاستراتيجية أكثرُ تعقيدًا مما قد يبدو: لأنك تعرف أنك «محمي»، إن جاز التعبير، أو «في حِل من دوافع الذنب»6 من خلال خط القصة الرسمي، يُسمح لك بالانغماس في الخيالات الوضيعة. أنت تعرف أن هذه الأوهام ليست «جادة»، وأنها لا يُعتَد بها في نظر الآخر الكبير. ومن ثَم، فإن التصحيح الوحيد الذي يمكن أن ندخله على منظور مالتبي هو أننا لا نحتاج إلى مشاهدَين يجلسان جنبًا إلى جنب؛ فمشاهد واحد يكفي.

يمكن صياغة هذا الرأي بمصطلحات لاكان على النحو التالي: لم تمارس إيلسا وريك الجنس خلال فترة الثواني الثلاث والنصف الشائكة، وذلك في نظر الآخر الكبير (الذي تمثِّله، في هذه الحالة، آداب اللياقة العامة التي يجب ألا تُنتهك)، لكنهما مارساه في نظر خيالنا الوضيع الملوَّث. هذه هي بنية الانتهاك والتجاوز المتأصلة في أنقى صورها، وتحتاج هوليوود إلى كلا المستويين لكي تؤديَ عملها. هذا يعيدنا بالطبع إلى التعارض بين مثال الأنا والأنا العليا البشعة. على مستوى مثال الأنا (التي يمثِّلها هنا القانون الرمزي العام، أو مجموعة القواعد التي يفترض أن ننتبه إليها في خطابنا العام)، لا يحدث شيء يمثِّل مشكلة، فالنص واضح لا يحتمل تأويلات، بينما على مستوًى آخر، ينهال العمل على المُشاهد بأمر الأنا العليا «استمتع!» — أي أطلق العِنان لخيالك الوضيع. لنكرِّر ذلك مجددًا، ما نواجهه هنا هو مثال واضح على الولع بالانقسام، بنية التنصُّل والإنكار «أعلم جيدًا، ولكن مع ذلك …»: الوعي الكامل بأنهما لم يفعلا ذلك من شأنه أن يطلِق العِنان للوصول إلى الاستنتاج المعاكس. يمكنك الانغماسُ فيه؛ لأنك معفًى من الذنب بحكم حقيقة كونهما، من منظور الآخر الكبير، لم يفعلا ذلك بالتأكيد. المظاهر مهمة بالفعل: من الممكن أن يكون لديك الكثير من الأوهام والتخيلات الوضيعة، ولكن من المهم دمجُ نسخة أقل إدانةً وتجريمًا في المجال العام للقانون الرمزي، حسبما يحدِّدها الآخر الكبير. هذه القراءة المزدوجة ليست مجرد حل وسط من جانب القانون الرمزي، ذلك أن القانون كلُّ ما يعنيه هو الحفاظ على المظاهر؛ ومن ثَم فإنه يترك الحريةَ لخيالك في تصوُّر ما يريد شريطةَ ألَّا تنتهك المجال العام. والقانون نفسه يحتاج إلى ملحقه البذيء المخلِّ بالآداب، بل ويدعمه.

لم يكن قانون هايز الرقابي الشهير لإنتاج الأفلام في فترة الثلاثينيات والأربعينيات مجرَّد قانون للرقابة السلبية، بل كان أيضًا تقنينًا وتنظيمًا إيجابيًّا (منتجًا، حسبما وصفه ميشيل فوكو)، وَلَّد تلك التجاوزات التي جرى حظر التصوير المباشر لها. كان على الحظر، لكي يؤديَ وظيفته على النحو الصحيح، أن يعتمد على وعي صريح وواضح بما يحدث حقًّا على مستوى الخط السردي المحظور. لم يكن «قانون هايز الرقابي» يحظر بعض المحتوى فحسب، بل كان يقنِّن طريقة التعبير عن المحتوى المشفَّر، كما جاء في التعليمات الشهيرة من مونرو ستار إلى كُتَّاب السيناريو في رواية سكوت فيتزجيرالد «الزعيم الأخير»:

في كل مرة، وفي كل لحظة، تظهر فيها أمامنا على الشاشة، تريد أن تُطارح كين ويلارد الغرام … أيًّا كان ما تفعله، فإنها تفعله بديلًا آخرَ عن مضاجعة كين ويلارد. عندما تسير في الشارع فإنها تسير لتضاجع كين ويلارد، عندما كانت تتناول طعامها فإنها تتناوله ليعطيها قوة كافية لمضاجعة كين ويلارد. ولكن في أي لحظة، إياكم وإعطاء الانطباع بأنها تفكِّر حتى في مضاجعة كين ويلارد ما لم يكونا مُبرَّأين ومباركين حسب أصول الزواج الصحيحة.7

يمكننا أن نرى هنا كيف أن الحظر الأساسي — فضلًا عن آلية عمله السلبية — هو المسئول عن الطابع الجنسي المفرِط الذي أُضفِي على أكثر الأحداث اليومية شيوعًا. كلُّ ما تفعله البطلة المسكينة المحرومة، بدءًا من السَّير في الشارع ووصولًا إلى تناول الطعام، يتحوَّل إلى تعبير عن رغبتها في مطارحة رجلها الغرام. يمكننا أن نرى كيف أن هذا الحظر الأساسي ذو طبيعة جانحة ومنحرفة تمامًا، بقدْر ما يعلق حتمًا في الوجه المعاكس له، عن طريق وسائلَ يكون من خلالها التحصين ضد المحتوى الجنسي المحظور هو ما يولِّد إفراطًا مستشريًا في إضفاء الطابع الجنسي، فيكون دور الرقابة أكثرَ غموضًا بكثير مما قد يبدو عليه. سيكون الرد الجليُّ على هذه النقطة أننا بذلك نرفع «قانون هايز الرقابي» دون قصد، إلى مستوى آلة تخريبية أكثرَ تهديدًا لنظام الهيمنة من التساهل المباشر: ألسنا ندَّعي أن الرقابة المباشرة كلما كانت أشد، كانت النواتج الجانبية التي تولِّدها تلك الرقابة أكثرَ تخريبًا؟ والرد على هذا الانتقاد يكون من خلال التأكيد على أن هذه النواتج الثانوية الفاسدة غير المقصودة — بعيدًا عن كونها تمثل تهديدًا حقيقيًّا لنظام الهيمنة الرمزي — هي بمثابة تجسيد للانتهاك والعصيان المدمج فيه، هي دعامته الفاحشة والفاسقة غير المعترف بها.

في الأدب الغربي، كان يوليسيس (أو عوليس) هو الشخصيةَ الأولى التي أصبحت على وعي كامل بهذا، وكان من عبقرية شكسبير أن يستغل هذا الجانب من يوليسيس في مسرحية «ترويلوس وكريسيدا»، ولا عجب أن هذه المسرحية تثير حتى اليوم الكثيرَ من الالتباس والحَيرة بين مفسِّريها. في مجلس الحرب في الفصل الأول حيث يحاول جنرالات اليونان (أو «الإغريق»، كما يطلِق عليهم شكسبير فيما يمكن الآن أن يسمَّى لغة دوبيا) تبريرَ فشلهم في احتلال طروادة وتدميرها بعد ثماني سنوات من القتال، يتدخَّل يوليسيس من منظور «القيم العريقة» التقليدية، مُرجِعًا السببَ الحقيقي في فشل اليونانيين إلى إهمالهم للنظام الهرمي المركزي، حيث يَلزم كلُّ فرد المكانَ المخصَّص له:

لقد أهملنا أن ينفرد متخصِّص بالحكم:
وانظروا! كم على هذا السَّهل من خيام يونانية قائمة خاوية،
وكم من خصوماتٍ جوفاء.
… إنه عندما تهتز مراتب الرجال،
وهي السُّلم الذي يُرتقى عليه لتحقيق كل خطة سامية،
فلن يسلم العمل! إذ كيف تحتل مكانها الصحيح
الجماعات، والمراتب الجامعية، والجمعيات في المدن،
والتجارة السلمية من السواحل المستقلة،
وحتى الابن الأكبر والتوريث، وامتياز السِّن، والتيجان، والصوالجة، وأكاليل الغار،
لو لم تتَّبع نظام المراتب؟
حسبك أن تطرح نظامَ المراتب جانبًا، أو فاقْضِ على هذا الوتر،
ثم أنصِت، أيُّ نشاز ينتج عن ذلك!
ما من شيء إلا ويصطدم بغيره فيذوب،
فإذا مياه البحار ذوات الحدود تعلو بصدورها عن شواطئها،
وتحيل كلَّ هذه الأرض اليابسة إلى خبيصة مختلطة:
وإذا القوة تسود على الضَّعف وإن كانت مخطئة
وإذا الابن الغشوم يقتل أباه:
وتصبح القوة هي الحق، بل يفقد الصواب والخطأ اسميهما
وهما اللذان يحول العدل بين صراعهما السرمدي.
وهكذا يفقد العدل اسمه أيضًا.
وإذا بكل شيء ينتهي بنفسه إلى السلطة …
(ترجمة د. عبد الحميد يونس)

ما الذي يسبِّب هذا التفكك الذي ينتهي بالكابوس الديمقراطي حيث يشارك الجميع في السلطة؟ في مشهدٍ لاحق في المسرحية، عندما يريد يوليسيس إقناعَ أخيل بالعودة إلى المعركة، يستدعي استعارةَ الزمن بوصفه قوة مدمِّرة تقوِّض تدريجيًّا النظام الهرمي الطبيعي: بمرور الزمن، ستُنسى أفعالك البطولية القديمة، وتُحجَب أمجادك بأمجاد أبطال جُدد — ومن ثَم إذا كنت ترغب في أن يظلَّ مجدك الحربي متألقًا، فلا بد من معاودة الانضمام إلى الصراع:

يحمل الزمن يا سيدي على ظهره،
جَعبة يجمع فيها الصَّدقات للنسيان،
إنه لوحش هائل جَحود.
وكِسَر الخبز التي يلقيها في جَعبته؛
هي الأعمال الطيبة التي سلفت.
الأعمال التي ما تكاد تتم حتى تُزدرد،
وما تكاد تُنجَز حتى يطويَها النسيان.
والمثابرة يا سيدي العزيز تُبقي على الشرف لألاءَه.
وحين يتم العمل يُصبح من سَقَط المتاع، كالدِّرع الصدئة،
تحمل ذكرى ساخرة لمن لبِسها يومًا …
فلا تجعل الفضلَ يرجو جزاءً ما دام قد سُلب.
فالجمال والذكاء وكرم المَحْتِد وقوة الجسم،
والكفاءة والحُب والصداقة، والإحسان تخضع جميعًا
للزمن الحقود الأفَّاك.
(الفصل الثالث، المشهد الثالث، الأبيات ١٤٧–١٧٦. ترجمة د. عبد الحميد يونس)

استراتيجية يوليسيس هنا غامضة إلى حدٍّ كبير. في الاستشراف الأول، يعيد ببساطة حجَّته حول ضرورة «المراتب» (نظام التسلسل الهرمي الاجتماعي)، ويصوِّر الزمن بوصفه قوة أكَّالة مُتلِفة تقوِّض القيمَ القديمة الحقيقية، وهو رأي شديد التحفظ. ومع ذلك، وبقراءةٍ أكثرَ تمحيصًا، يصبح واضحًا أن يوليسيس يضفي على حجَّته طابعًا متشائمًا غريبًا: كيف نحارب الزمن للحفاظ على القيم العريقة والإبقاء عليها؟ ليس عن طريق مراعاتها، ولكن عن طريق إكمالها بالسياسة الواقعية وأساليبها القذرة من التلاعب الفظِّ، والخداع، وتأليب الأبطال بعضهم على بعض. هذا الجانب القذِر للخلافات الخفية هو وحدَه الذي يتسنى من خلاله الحفاظُ على الانسجام (يستغل يوليسيس غَيرة أخيل بالتلميح إلى المنافسة، وهي التوجُّهات نفسها التي تعمل على تقويض النظام الهرمي؛ إذ تشير إلى أن المرء لا يرضى عن مرتبته الأدنى داخل البنيان الاجتماعي). هناك ضرورة للاستغلال الخفي للغيرة — ما يعني انتهاكَ القواعد والقيمِ نفسِها التي يحتفي بها يوليسيس في خطابه الأول — لمواجهة آثار الزمن والحفاظ على النظام الهرمي المكوَّن من «المراتب». قد تكون هذه هي نسخة يوليسيس من جملة هاملت الشهيرة: «إننا في زمن مضطرب معوج: ويا له من قضاء جائر/أن أكون وُلدت لكي أقوِّم اعوجاجه!» (ترجمة د. محمد عناني) الطريقة الوحيدة ﻟ «تقويم اعوجاجه» هي مواجهةُ انتهاك النظام القديم بالانتهاكات المدمجة فيه، مواجهته بجريمة يُدبَّر لها سرًّا لصالح هذا النظام. والثَّمن الذي ندفعه لقاءَ هذا هو أن يكون النظام الناجي محاكاةً ساخرة من نفسه، نسخةً مُسيئة من «النظام».

أصبح معروفًا الآن عن أيِّ وقت مضى أن القانون العام يحتاج إلى دعم من الوحشية الخفية التي تمارسها الأنا الأعلى. استعرض فيلم روب راينر «بضعة رجال صالحين»، وهو فيلمٌ درامي يدور حول محاكمة عسكرية لاثنَين من جنود مشاة البحرية الأمريكية، متهمَين بقتل زميل لهما. يدَّعي المدعي العسكري أن القتل كان عمدًا، في حين أن الدفاع (توم كروز وديمي مور - كيف يمكن لهما أن يُخفِقا؟) ينجح في إثبات أن المدَّعى عليهما اتَّبعا ما يسمَّى ﺑ «الرمز الأحمر»، وهو قاعدة غير مكتوبة خاصة بالكيانات العسكرية تخوِّل للجندي أن ينقضَّ على زميله ليلًا، في حالِ انتهك هذا الجندي الزميل الآدابَ والمعايير الأخلاقية الخاصة بمشاة البحرية. تتغاضى هذه القاعدة عن فعلِ الانتهاك، فهو غير قانوني، ولكنها في الوقت نفسه تعيد التأكيدَ على ترابط المجموعة وتماسُكها. يجب أن يستظلَّ هذا الفعل بغطاء الليل، فلا يُصرَّح به ولا يتحدَّث أحد عنه علنًا؛ ففي العلن يجب أن يتظاهرَ الجميع بأنهم لا يعرفون شيئًا عنه، أو ينكروا وجودَه (تصل أحداث الفيلم إلى ذُروتها عندما ينفجر جاك نيكلسون — وهو الضابط الذي أصدر الأمر بالقتل — غاضبًا، ليعلن غضبه بذلك عن لحظة سقوطه ونهايته).

على الرغم من أن هذه القاعدة تتعارض مع القواعد الصريحة للمجتمع، فإنها تمثِّل روح المجتمع في أنقى صوره، حيث تُمارِس أشدَّ أنواع الضغط على الأفراد لتفعيل هُوية المجموعة. على عكس القانون الصريح المكتوب، فإن هذه القاعدة الشائنة دارجة ومُتداولة في الأساس — حتى ولو كانت سرًّا — في مكانٍ ما بعيدًا عن الأنظار. هنا يكمُن الدرس من فيلم كوبولا «القيامة الآن»: إن شخصية كورتز ليست من مخلَّفات الماضي الهمجي، بل هي النتيجة الحتمية للسلطة الحديثة نفسها، أي سلطة الغرب. كان كورتز جنديًّا مثاليًّا ومن ثمَّ، فقد تحوَّل من خلال التماهي الزائد مع النظام العسكري للسلطة، إلى فائضٍ يتعيَّن على النظام التخلُّص منه. العِبرة الأساسية في فيلم «القيامة الآن» هي أن السلطة تولِّد الفائض الخاص بها، الذي يجب أن تتخلَّص منه بيدها في عمليةٍ تُعَدُّ بمثابة صورة منعكسة لما تحاربه (مهمة ويلارد لقتل كورتز غيرُ موجودة وفقًا للسجل الرسمي: فكما يشير الجنرال الذي يوجِّه ويلارد: «لم يحدُث ذلك قط»).

هنا ندخل في مجال العمليات السِّرية، أي ما تفعله السلطة ولا تعترف به أبدًا. في نوفمبر ٢٠٠٥، صرَّح نائب الرئيس الأمريكي، ديك تشيني، أن مكافحة الإرهاب تقتضي منا «أن نعمل أيضًا … على الجانب المظلم نوعًا ما … وكثيرٌ مما يتعيَّن القيام به هنا سيتعيَّن علينا القيام به بهدوء، دون أي نقاش». ألسنا هنا بصدد كورتز جديد خلافَ ما عرفناه؟ في مناقشة حول مصير سجناء جوانتانامو على قناة إن بي سي في منتصف عام ٢٠٠٤، كانت إحدى الحجج الغريبة لقبول وضعِهم الأخلاقي والقانوني: «إن هؤلاء السجناء هم مَن أخطأتهم القنابل في الأساس»: بما أنهم كانوا هدفًا للقصف الأمريكي ونجَوا منه، وبما أن هذا القصف كان جزءًا من عملية عسكرية قانونية، فلا يمكن إذن الاحتجاجُ بشأن مصيرهم عندما يُزج بهم في السجون في أعقاب العملية. يُستشَف من الحجة أنه مهما كان وضعهم الحالي، فهو أفضلُ وأقل قسوة من أن يكونوا في عِداد الموتى. هذا التفكير يشي بأكثرَ من ذلك: فهو يضع السجين في منزلة الأموات الأحياء حرفيًّا، أي مَن ماتوا بالفعل (فحقُّهم في الحياة مسلوب لكونهم أهدافًا مشروعة لقصفٍ فتَّاك ومدمِّر)؛ ومن ثَمَّ فإنهم الآن أمثلةٌ على ما يسمِّيه جورجيو أجامبين ﺑ «الإنسان المستباح»، الإنسان الذي يمكن قتله دون عقاب؛ لأن حياته لم تَعُد ذاتَ أهمية في نظر القانون. إذا كان سجناء جوانتانامو موجودين في المساحة «بين الموتَين»، ويشغلون موقعَ «الإنسان المستباح»، أي إنهم موتى من الناحية القانونية (ليس لهم وضعٌ قانوني محدَّد) بينما هم لا يزالون أحياءً من الناحية البيولوجية، فإن السلطات الأمريكية التي تعاملهم بهذه الطريقة أيضًا في وضعٍ قانوني وسيط من نوعٍ ما، وهو نظير الإنسان المستباح. وبوصفها سلطةً شرعية، فإن أفعالها لم يَعُد يغطيها القانون ولا يقوِّضها. بل أصبحت — بدلًا من ذلك — تعمل في مساحة فارغة لا تزال ضمن نطاق القانون.

ومن ثَم، عندما صرَّح الرئيس بوش على نحوٍ قاطع في نوفمبر ٢٠٠٥: «نحن لا نمارس التعذيب» وفي الوقت نفسه رفضَ مشروع القانون المقترَح من قِبل جون ماكين، الذي من شأنه تقنين هذه الحقيقةِ بمنع التعذيب صراحةً لكونه يضر بمصالح الولايات المتحدة، علينا أن نفسِّر هذا التناقض بوصفه مؤشرًا للتوتُّر بين الخطاب العام — مثال الأنا الخاص بالمجتمع — وشريكه المتواطئ الفاسق المتمثِّل في الأنا العليا. وهذا دليلٌ آخر — إذا كنا لا نزال تُعوِزُنا الأدلة — على الواقعية المستمرة لمفهوم فرويد عن الأنا العليا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤