«مات الإله، لكنه لا يعلم ذلك»: لاكان متفاعِلًا مع «بوبوك»
يعتقِد الملحد الحديث أنه يعلم أن الإله قد مات، ولكن ما لا يعرفه هو أنه يواصل الإيمان بالله على نحوٍ لا واعٍ. لم يَعُد ما يميز الحداثة هو الشخصية القياسية للمؤمن الذي يضمِر في نفسه شكوكًا حول إيمانه، وينخرط في الأوهام المخالفة والمتجاوزة للحدود، بل على العكس من ذلك، لدينا اليوم ذاتٌ تتغاضى عن انغماسها في الملذَّات ومنقطعة للسعي وراء السعادة، واللاوعي لديها هو مكمن المحظورات: ما يُقمَع ليس الرغبات أو اللذَّات المحرَّمة، بل المحظورات نفسها. «إذا لم يكن الله موجودًا، فلا شيء مباح» جملةٌ تعني أنك كلما ترسَّخت لديك الرؤية بأنك ملحِد، ازدادت هيمنة المحظورات التي تعرقل متعتَك على اللاوعي لديك. (علينا ألا ننسى تكملةَ هذه الفرضية بنقيضها: إذا كان الله موجودًا، فكل شيء مباح — أليس هذا هو أبلغ تعريف لمأزق المتعصب الديني؟ فمن وجهة نظره، الله موجود بالكامل، وهو يرى نفسه أداةً له؛ ومن ثمَّ يمكنه أن يفعل كلَّ ما يريد: فأفعاله مغفورة مسبقًا؛ لأنها تعبِّر عن المشيئة الإلهية …)
بدلًا من جلب الحرية، يؤدي سقوط السلطة القمعية إلى ظهور محظورات جديدة وأكثر صرامة. كيف يمكننا فهْم هذه المفارقة؟ فكِّر في الوضع المعروف لمعظمنا منذ الصِّغر: الطفل المسكين الذي يتعيَّن عليه أن يزور جَدته يوم العطلة بعد الظهر بدلًا من السماح له باللعب مع أصدقائه. رسالة الأب المتسلِّط الرجعي للصبي المعارض للذهاب ستكون كالتالي: «لا يهمني كيف تشعر. فقط قُم بواجبك، اذهب إلى جَدتك وأحسِن التصرف هناك!» في هذه الحالة، وضعُ الطفل هنا ليس سيئًا على الإطلاق: فعلى الرغم من أنه مجبَر على القيام بشيء لا يرغب صراحةً في القيام به، فإنه سيحتفظ بحريته الداخلية وقدرتِه على التمرُّد (في وقت لاحق) ضد السلطة الأبوية. أما عن رسالة الأب «الحداثي» غير السلطوي، فستكون أكثرَ خداعًا: «أنت تعرف مدى الحب الذي تُكِنه لك جَدتك! ومع ذلك، لا أريد أن أجبرك على زيارتها؛ ولذا لا تذهب لزيارتها إلا إذا كانت لديك الرغبة حقًّا في ذلك!» سيتعرف الطفل غير الغبي (وهو ما يعني معظم الأطفال) على الفخِّ الذي ينطوي عليه هذا الموقف المتساهل: فظاهر الأمر أنه اختيار حرٌّ، لكنه يخفي في باطنه إلحاحًا أكثر قمعًا من الإلحاح التقليدي الذي صاغه الأب المتسلط المستبِد؛ فهو في الحالة الثانية أمرٌ ضمني ليس فقط بزيارة الجَدة، ولكن للقيام بذلك طوعًا، بدافع من إرادة الطفل الحرة. هذا الاختيار الحر الزائف هو الأمر الذي تصدِره الأنا العليا الوضيعة: فهو لا يحرم الطفل من حريته الداخلية فحسب بتوجيهه إلى ما يتعيَّن عليه القيام به، ولكن بتوجيهه أيضًا إلى ما يتعيَّن عليه أن يرغب فيه.
كانت هناك نكتة كلاسيكية متداولة على مدار عقود بين أتباع لاكان لتوضيح الدور الرئيسي لمعرفة «الآخر الكبير»: رجلٌ يعتقد أنه بذرةٌ يُنقل إلى مؤسسة عقلية، حيث يبذل الأطباء قصارى جهدهم لإقناعه أنه ليس بذرة، بل رجل. وعندما يتماثل للشفاء (بأن يقتنع أنه ليس حبةَ بذرة بل رجلٌ) ويُسمَح له بمغادرة المستشفى، يعود من فوره وهو يرتجف. يقول الرجل إن هناك دجاجة خارج الباب وإنه يخشى أن تأكله. يقول الطبيب: «يا صديقي العزيز، أنت تعرف جيدًا أنك لست بذرةً، بل رجل.» يرد المريض: «بالطبع أعرف ذلك، ولكن هل تعرف الدجاجة ذلك؟» هنا تكمُن الركيزة الحقيقية للعلاج من خلال التحليل النفسي: إذ لا يكفي إقناعُ المريض بالحقيقة اللاواعية لأعراضه، بل يجب حمل اللاوعي نفسه على قبول هذه الحقيقة.
ينطبق الأمر نفسه على نظرية ماركس لتقديس السلع أو تأليهها:
لا يدَّعي ماركس — على النهج المعتاد لخطاب التنوير — أن التحليل النقدي يجب أن يوضح كيف انبثقت السلعة — التي تظهر مثل كيان لاهوتي غامض — من مسار الحياة الواقعية «المعتاد»، بل يدعي، على خلاف ذلك، أن مهمة التحليل النقدي هي أن يكشف عن «التفاصيل الميتافيزيقية والخفايا اللاهوتية» فيما يبدو للوهلة الأولى مجرد شيءٍ عادي. إن تقديس السلع (إيماننا بأن السلع هي أشياءُ سحرية، تتمتَّع في ذاتها بقوة ميتافيزيقية) لا يقع في عقولنا، أيْ في طريقة تصوُّرنا (أو إساءة تصوُّرنا) للواقع، بل في واقعنا الاجتماعي نفسه. بعبارة أخرى، عندما يقابل ماركسيٌّ شخصًا برجوازيًّا غارقًا في تقديس السلع، فإن الانتقاد الذي سيوجِّهه الماركسي إليه لن يكون في شكل: «قد يبدو لك أن السلعة كائنٌ سحريٌّ يتمتع بقوًى خاصة، ولكنها في الواقع مجرَّد تجسيدٍ ماديٍّ للعلاقات بين الناس»، بل سيكون بالأحرى: «قد تعتقد أن السلعة تبدو لك تجسيدًا بسيطًا للعلاقات الاجتماعية (أن النقود، على سبيل المثال، هي مجرد نوع من القسائم تخوِّل لك الحصولَ على جزء من المنتَج الاجتماعي)، ولكن ليست هذه هي الكيفية التي تبدو لك الأمور بها حقًّا. في واقعك الاجتماعي، ومن خلال مشاركتك في التبادل الاجتماعي، تكون شاهدًا على الحقيقة الغريبة التي مُفادها أن السلعة تبدو لك حقًّا مثل شيء سحري يتمتع بقوًى خاصة.» ويمكننا أن نتخيَّل شخصًا برجوازيًّا يحضُر دورة في الماركسية تتحدَّث عن تقديس السلع. وبعدما ينتهي الشخص من الدورة، يعود إلى معلِّمه يشكو أنه لا يزال ضحيةً لتقديس السلع. يقول المعلِّم له: «لكنك تعرف الآن حقيقةَ الأمور، وهي أن السلع مجرد تعبير عن العلاقات الاجتماعية، ولا يوجد ما هو سحري فيها!» ليجيب الطالب: «بالطبع أعرف ذلك كله، ولكن السلع التي أتعامل معها لا تبدو أنها تعرف ذلك!» هذا هو ما استهدفه لاكان فيما ذهب إليه من أن الصيغة الحقيقية للفلسفة المادية ليست «الله غير موجود»، ولكن «الله لا واعٍ». وفي هذا الصدد، يكفي أن نستعرض ما كتبته ميلينا يسينسكا عن كافكا في رسالة إلى ماكس برود:
وإذا به يحضُر جنازة شخص تربطه به صلة قرابة بعيدة. ويتلكأ عن المغادرة مع الجميع، فيظل في المقبرة، حيث يسمع على نحوٍ غير متوقع الأحاديث السخيفة والعبثية التي تدور بين الموتى:
لا أعلم كيف حدث ذلك، ولكني بدأتُ أسمع أحاديثَ من شتى الأنواع تدور بينهم. في البداية لم أكن أُولي ذلك اهتمامًا، وتعاملتُ مع الأمر بازدراء. لكن الأحاديث استمرَّت. سمعتُ أصواتًا خافتة كما لو أن أفواه المتحدثين مغطَّاة بوسادة، ولكنها في الوقت نفسه واضحة وقريبة للغاية. استعدتُ رشدي، وجلستُ ورحتُ أنصتُ باهتمام.
يستنتج من هذه الأحاديث أن وعي الإنسان يستمر لبعض الوقت بعد موت الجسد، حتى يتحلل الجسد تحللًا كاملًا، وهو ما يربطه المُتوفَّون بصوت القرقرة المزعجة «بوبوك». يعلِّق أحدهم:
الشيء الرائع هو أن لدينا شهرَين أو ثلاثة أشهُرٍ أخرى من الحياة، وبعدها … بوبوك! أقترح أن نقضيَ هذَين الشهرَين في أهنأ حالٍ ممكن؛ ولذا سننظم كل شيء على أساس جديد. أيها السادة! أقترح أن نتخلَّى عن كل إحساس بالحياء والخجل.
يقرِّر الموتى — الذين أدركوا تحرُّرهم الكامل من القيود الأرضية — أن يسلُّوا أنفسهم بسرد قصص حياتهم حين كانوا أحياءً:
الرائحة الفظيعة التي يشمُّها إيفان إيفانوفيتش ليست رائحة الجثث المتعفِّنة، بل رائحة التردي الأخلاقي الكريهة. ثم يعطس إيفان إيفانوفيتش فجأة، فيسكت الموتى؛ تنتهي التعويذة، ويزول السحر، ونعود مجددًا إلى الواقع المعهود:
وهنا عطستُ فجأة. حدث ذلك فجأة ودون قصد، لكن التأثير كان مدهشًا: أصبح كل شيء هادئًا كما يتوقع المرء حين يكون في مقبرة الكنيسة، اختفى كل شيء كأنه كان حُلمًا. حلَّ صمت القبور الحقيقي. لا أعتقد أنهم قد شعروا بالخجل من وجودي: فقد قرروا التخلي عن كل إحساس بالخجل! انتظرتُ خمس دقائق — لا كلمة، ولا صوت.
رأى ميخائيل باختين في «بوبوك» خلاصةَ فن دوستويفسكي وجوهره، رأى عالمًا مصغرًا لإنتاجه الإبداعي بأكمله يُعبِّر عن الدافع الرئيسي الذي يدور حوله فنُّه، وهو فكرة أن «كل شيء مباح» إن لم يكن هناك وجود للإله ولا خلود للروح. في العالم السفلي الصاخب للحياة «بين الموتَين»، تُعلَّق جميع القواعد والمسئوليات، ويمكن للموتى الأحياء التخلُّص من كل إحساس بالخجل، والتصرُّف بجنون، والسخرية من الأمانة والعدالة. الفزع الأخلاقي الذي تثيره هذه الرؤية هو أنها تعرض حدودَ فكرة «الحقيقة والمصالحة»: ماذا لو كان لدينا مرتكِب للجرائم يعترف علنًا بجرائمه، ولكن هذا الاعتراف لا يثير فيه أيَّ تطهير أخلاقي، بل يولِّد لديه لذة فاحشة إضافية؟
تأتي حالة «الأموات الأحياء» للمتوفَّين على النقيض من الحالة التي يعيشها الأب في أحد الأحلام التي سردها فرويد، حيث يظل الأب حيًّا (في لاوعي الشخص الحالم) لأنه لا يعلم أنه قد مات. المتوفون في قصة دوستويفسكي على علمٍ تام بأنهم موتى، وهو الوعي الذي يتيح لهم التخلص من كل إحساس بالخجل. إذن ما السر الذي يخفيه المتوفون عن كل بشر؟ في «بوبوك»، لا نسمع أيًّا من الحقائق المخزية؛ إذ تنسحب أشباح الموتى من المشهد في اللحظة التي يوشكون فيها على عرض «بضاعتهم» أمام المستمع وإفشاء أسرارهم المخزية. قد تكون لحظة الكشف هي نفسها التي انتهت إليها الحكاية الرمزية «أمام القانون» من رواية «المحاكمة» لكافكا، عندما يعرف رجل ريفي — وهو على فراش الموت — أن الباب الذي أمضى سنواتٍ طويلة في انتظار أن يسمح له الحارس بالدخول كان موجودًا لأجله على وجه التحديد؟ ماذا لو قلنا إن مشهد الجثث في «بوبوك»، وهي تستعد لكشف أسرارها المخزية، كان مدبَّرًا أيضًا بغيةَ جذب المسكين إيفان إيفانوفيتش واستهوائه؟ بعبارة أخرى، ماذا لو كان مشهد «الصدق السافر» للجثث الحية مجرد خيال من نسج المستمع — المستمع «المتديِّن» في هذه الحالة؟ — يجب ألَّا ننسى أن المشهد الذي يرسمه دوستويفسكي ليس مشهدًا لعالَم بلا إله. فالجثث التي تتكلم تعيش حياتها بعد الموت (البيولوجي)، وهذا في حد ذاته دليلٌ على وجود الإله — «الإله موجود، يبقيهم أحياءً بعد الموت، ولهذا السبب يمكنهم قول كل ما يريدون.»
ما يقدِّمه دوستويفسكي هو خيال ديني لا يتعلق على الإطلاق بموقف ملحد حقيقي — على الرغم من أنه يقدمه لتوضيح العالَم المرعب الذي لا وجود فيه للإله حيث «كل شيء مباح». فما هو الدافع الذي يدفع الجثث إلى المشاركة في هذه المصارحة الماجنة من خلال «البوح بكلِّ ما يريدون»؟ إجابةُ لاكان واضحة: إنها الأنا العليا — ليس بوصفها كيانًا أخلاقيًّا، ولكن بوصفها أمرًا فاحشًا بالتمتُّع والسعي وراء اللذة. ويعطينا هذا لمحةً عن ماهية السر النهائي الذي يرغب المتوفَّون في إخفائه عن الراوي، وهو أن دافعهم في الكشف عن كل الحقيقة بلا خجلٍ أو خزيٍ ليس دافعًا حرًّا، وأن لسان حالهم ليس «الآن يمكننا أخيرًا أن نقول (ونفعل) كلَّ ما نريد، وهو ما حالت بيننا وبينه القواعد والقيم الخاصة بحياتنا العادية». عوضًا عن ذلك، ما يدعم دافعهم هو الأمر القاسي للأنا العليا الذي يستحث الأشباح على الانخراط في أنشطتها الفاحشة. ولكن، إذا كان ما يخفيه الأموات الأحياء عن الراوي هو الطبيعة القسرية لتمتُّعهم الفاحش، وإذا كنا هنا بصدد خيالٍ ديني، فهناك استنتاج وحيد نخلُص إليه: أن «الأموات الأحياء تحت تأثير الإكراه من إله ماجن». هنا تكمُن كذبة دوستويفسكي الكبرى: ما يقدِّمه خيالًا مرعِبًا لكونٍ بلا إله هو في الواقع خيالٌ غُنُوصيٌّ لإله شرير وماجن. نستخلِص من هذه الحالة درسًا أكثرَ شمولية: عندما يشجب الكُتَّاب المتدينون الإلحادَ، فإنهم في كثير من الأحيان يصيغون رؤيةً عن «عالَم بلا إله»، وهذا العالم ما هو إلا إسقاط للجوانب المكبوتة من الدِّين نفسه.
لقد استخدمت هنا مصطلح «الغُنُوصية» بمعناه الدقيق، أي كرفض لسِمة أساسية من سِمات العالَم اليهودي المسيحي: ألا وهي ظاهرية الحقيقة. هناك حجةٌ دامغة من شأنها تسويغ العلاقة الوثيقة بين اليهودية والتحليل النفسي: في كلتا الحالتين، ينصبُّ التركيز على اللقاء الصادم مع البُعد السحيق للآخر «الكبير» الراغب، ومع الصورة المرعبة لآخر «كبير» لا يمكن اختراقه، يريد منا شيئًا، ولكنه لا يحدِّد لنا بوضوح ماهية هذا الشيء الذي يريده منا؛ ففي اليهودية، يتجلى هذا اللقاء الصادم في لقاء الشعب اليهودي مع إلههم، الذي يعرقل نداؤه العصي على النفاذ الروتينَ اليومي للوجود البشري، بينما يتجلى في التحليل النفسي في لقاء الطفل مع لغز متعة الآخر (الآخر الأبوي، في هذه الحالة). في تعارُض واضح مع هذا التصوُّر اليهودي المسيحي عن الحقيقة بكونها ترتكز على لقاء خارجي صادم (النداء الإلهي للشعب اليهودي، نداء الله لإبراهيم، الغفران الذي لا يمكن النفاذ خلاله لأنه لا حدود له — كلها غير متوافقة تمامًا مع صفاتنا المتأصلة، وحتى مع أخلاقياتنا الفطرية)، ترى كلٌّ من الوثنية والغُنُوصية (إعادة تضمين الموقف اليهودي المسيحي في الوثنية) المسار إلى الحقيقة بوصفه «رحلة داخلية» نحو التطهير الروحي للذات، وعودة إلى «الذات الداخلية» الحقيقية، و«إعادة اكتشاف» للذات. كان كيركجارد على حق عندما أشار إلى أن التعارض الأساسي في الروحانية الغربية يكمُن بين سقراط والمسيح: رحلة التذكُّر الداخلية في مقابل الانبعاث من خلال صدمة اللقاء الخارجي. فعلى الجانب اليهودي المسيحي، الإله نفسه هو مصدر الإزعاج الأساسي، وهو الدخيل الذي يقلقل انسجام حياتنا ويؤدي إلى اضطرابها.
تظهر آثار الغُنُوصية بوضوح حتى في أيديولوجية الفضاء الإلكتروني الراهنة. فحُلم الفضاء الإلكتروني للذات المحرَّرة من ارتباطها بجسدها الطبيعي، عن طريق تحويل نفسها إلى كيان افتراضي يرتحل من تجسُّد عارض ومؤقت إلى آخر؛ هو التحقق العلمي والتكنولوجي للحُلم الغُنُوصي عن الذات التي تتخلَّص من اضمحلال الواقع المادي وجموده.
لا عجبَ أن فلسفة لايبنتس هي واحدة من المرجعيات الفلسفية السائدة لدى منظِّري الفضاء الإلكتروني؛ فقد تصوَّر لايبنتس العالَم على أنه يتألف من وحدات دقيقة وحيدة النواة «مونادات»؛ أي مواد مجهرية يعيش كلٌّ منها في فضائه الداخلي المنغلق على نفسه، دون أي نوافذ تُفتَح على محيطها الخارجي. ولا يمكننا هنا إغفال التشابه الغريب بين «مونادولوجيا» لايبنتس ومجتمع الفضاء الإلكتروني الناشئ، الذي يتحقَّق فيه الانسجام العالمي والذاتوية (وحدة الأنا) على نحوٍ غريب. بعبارةٍ أخرى، ألَا يتكافأ انغماسنا في الفضاء الإلكتروني مع اختزالنا إلى مونادات لايبنتس التي تنطوي على العالَم بأكمله، على الرغم من «عدم وجود نوافذ» لها من شأنها أن تشرِّعها إلى الواقع الخارجي؟ وعلاوةً على ذلك، فنحن مونادات بلا نوافذ ولكنها ذات إطلالة مباشرة على الواقع، نتفاعل وحدَنا مع شاشة الكمبيوتر، ولا نرى إلا صورًا افتراضية زائفة، ومع ذلك ننغمس أكثرَ من أي وقتٍ مضى في الشبكة العالمية، التي نتواصل عبْرها وعلى نحوٍ متزامن مع العالَم بأسْره.
إن المكان الذي يمكن فيه للأموات الأحياء التحدُّث دون قيود أخلاقية، كما تصوَّره دوستويفسكي، يمهِّد لحُلم الفضاء الإلكتروني الغُنُوصي هذا. إذ يُعزى سبب الانجذاب إلى الجنس الإلكتروني في كونه لا ينطوي على إزعاج أو مضايقات، بما أننا لا نتعامل إلا مع شركاء افتراضيين. وفيما يخص هذا الجانب من الفضاء الإلكتروني بوصفه مكانًا لا يتعرض فيه المرء للمضايقات؛ لكوننا لا نتفاعل مباشرة مع أشخاص حقيقيين؛ ومن ثمَّ يكون لنا مطلق الحرية في إطلاق العِنان لأكثر خيالاتنا فحشًا ومجونًا، فقد تجلَّى على أفضل نحو في اقتراحٍ ظهر مؤخرًا في بعض الأوساط في الولايات المتحدة، وهو اقتراح يدعو إلى «إعادة النظر» في حقوق مُشتهي الموتى (أولئك الذين لديهم ميل مَرضي نحو ممارسة الجنس مع جثث الموتى). لماذا يُحرم هؤلاء من حقوقهم هذه؟ طُرحت الفكرة على النحو التالي: مثلما يمنح الناسُ الإذنَ لاستخدام أعضائهم لأغراض طبية في حالة موتهم المفاجئ، فلا مانع أيضًا من أن يُسمَح لهم بمنح الإذن لتقديم أجسادهم إلى مشتهي الموتى. هذا الاقتراح هو خير تجسيدٍ للكيفية التي يحقِّق بها هذا الموقف التصحيحي الرسمي ضد الإزعاج والمضايقات فكرة كيركجارد القديمة بأن خير جار للمرء هو الجار الميت. الجار الميت — أي الجثة — هو الشريك الجنسي المثالي للذات «المتسامحة» التي تحاول تجنُّب أي مضايقات؛ فالجثة بطبيعة الحال لا يمكن إزعاجها أو مضايقتها، وفي الوقت نفسه، فإن «الجسد الميت لا يستمتع»؛ ومن ثَم ينتفي أيضًا التهديد المزعج بالإفراط في الاستمتاع من جانب الذات التي تمارس الجنس مع الجثة.
«المضايقات» هي كلمةٌ أخرى من تلك الكلمات التي تعمل بآلية مبهمة للغاية، وتثير تضليلًا أيديولوجيًّا على الرغم من أنها تبدو وكأنها تشير إلى حقيقة محدَّدة بوضوح. يشير المصطلح في أبسط معانيه إلى حقائقَ وحشية مثل الاغتصاب والضرب، وغيرهما من أشكال العنف الاجتماعي التي يجب أن نُدينها قَطعًا بلا هوادة. ومع ذلك، في الاستخدام السائد للكلمة، ينجرف هذا المعنى الأوَّلي على نحوٍ غير ملحوظ إلى إدانة أي مبالغة في الاقتراب من إنسان حقيقي آخر، بكل ما يعتمل داخله من رغبات ومخاوف وملذات. هناك محوران يبلوران الموقف الليبرالي المتسامح ليومنا هذا تجاه الآخر: احترام الآخر والانفتاح عليه، والهلع من المضايقات. فالآخر مقبول بقدرِ ما لا يسبِّب حضوره أيَّ شعور بالتطفُّل؛ أي بقدرِ ما لا يستشعر المرء أنه آخَر. ومن ثَمَّ، يتطابق هنا مفهوم التسامح مع نقيضه: ذلك أن واجبي في أن أكون متسامحًا تجاه الآخر إنما يعني في واقع الأمر عدمَ اقترابي منه أكثرَ من اللازم، وعدم اقتحامي لمساحته الخاصة؛ أي أنه يعني باختصارٍ أنني يجب أن أحترم عدم تسامحه إزاء قربي المُفْرط منه. وهذا ما يتجلَّى بوضوحٍ متزايدٍ في المجتمع الرأسمالي الحديث بوصفه «الحقَّ الأساسيَّ للإنسان»: إنه الحق في عدم التعرُّض لأي مضايقات؛ أي البقاء على مسافة آمنة من الآخرين.
في معظم المجتمعات الغربية الآن، تفرض المحاكم أمرًا قضائيًّا يقيِّد من حرية أي شخص يَمثُل أمام القضاء بتهمة إزعاج غيره أو مضايقته (كأن يطارد هذا الشخص غيره، أو يتودَّد إليه جنسيًّا بعروض غير مبرَّرة). يمكن أن يتمثل الأمر القضائي في إلزامه قانونًا بعدم الاقتراب عمدًا من المدعي، والحرص على أن تكون المسافة بينهما أكثرَ من ١٠٠ ياردة. وبصرف النظر عن ضرورة هذا الإجراء، فإنه ينطوي على آلية دفاعية ضد الجانب الواقعي الصادم في رغبة الآخر: أليس من الواضح أن تصريح الشخص علنًا بشغفه تجاه الآخر يمثل قدرًا من العنف الشديد؟ الشغف بحكم تعريفه يؤدي موضوعه، وحتى لو وافق المرء عن طيب نفسٍ أن يشغَل هذا الموقع، فإنه لا يمكنه أبدًا القيام بذلك دون المرور بلحظة من الرهبة والدهشة. أو بصياغة أخرى لما قاله هيجل بأن «الشر يكمُن في مجرد النظرة التي ترى الشر يحيط بها من كل جانب»؛ فإن عدم التساهل تجاه الآخر يكمُن في النظرة التي ترى كلَّ مَن حولها على أنه نموذج للآخر المتجاوز الذي لا يمكن التساهل معه.
علينا النظر بعين الريبة تجاه الهوس بالتحرش الجنسي للمرأة، لا سيَّما عندما يكون المتحدث عنه من الرجال: فما إن نقترب من الظاهر «المؤيد للنسوية» حتى نصطدم بحقيقة الأسطورة الذكورية الشوفينية القديمة بأن النساء كائناتٌ عاجزة تحتاج إلى الحماية ليس فقط من الرجال المتطفلين، ولكن أيضًا من أنفسهن في النهاية. من وجهة نظر الرجل الذكوري الشوفيني الذي يتظاهر بأنه مؤيِّد للنسوية، لا تكمُن المسألة في أن النساء يعجزن عن حماية أنفسهن، ولكن في أنهن قد يستهوين التحرش الجنسي بهن ويستمتعن به؛ إذ قد يطلِق التطفُّل الذكوري فيهن كمًّا من المتعة الجنسية المفرِطة مدمِّرًا للذات. باختصار، ينبغي التركيز على نوع الذاتية المتضمَّنة في الهوس بأوضاع التحرش المختلفة: الذاتية «النرجسية» ترى كلَّ ما يفعله الآخرون (الاقتراب منها بحديث أو نظرة …) تهديدًا محتملًا، إلى الحد الذي يتحقَّق فيه ما قاله سارتر منذ زمنٍ بعيد (الآخرون هم الجحيم). وفيما يتعلَّق بالمرأة من منظور كونها مصدرًا للمشكلات والاضطرابات، فكلما أمعنت المرأة في ستر نفسها، ازداد انتباه الرجل الذكوري إليها وتركيزه على ما هو مُستتِر تحت حجابها. على سبيل المثال، لم تُجبر حركة «طالبان» النساءَ على الظهور بالحجاب الكامل في الأماكن العامة فحسب، بل منعتهن أيضًا من ارتداء الأحذية ذات الكعوب الشديدة الصلابة (سواءٌ كان كعب الحذاء مصنوعًا من المعدِن أو الخشب)، وأمرتهن بالمشي دون إصدار أصوات طقطقة صاخبة من شأنها أن تشتِّت الرجال، فتخل بسلامهم الداخلي وتفانيهم. هذه هي المفارقة التي ينطوي عليها مفهوم «فائض المتعة» أو «الاستمتاع بالفائض»: كلما أمعنا أكثرَ في الستر والحجب، كان أدنى ما يبقى من أثره أكثرَ إزعاجًا.
ينطبق هذا أيضًا على القيود المفروضة على التدخين. في البداية، حُظِرَ التدخين في أماكن العمل، ثم على متن الرحلات الجوية، ثم في المطاعم، ثم في المطارات، ثم الحانات، ثم الأندية الخاصة، ثم في الحرم الجامعي لبعض الجامعات والكليات، وكذلك في محيطِ ما يقرُب من دائرةٍ نصفُ قطرها ٥٠ ياردة حول المباني، ثم أزالت هيئةُ البريد الأمريكية — في حالة فريدة من نوعها من أشكال الرقابة الأبوية، تذكِّرنا بممارسة ستالين الشهيرة لتعديل صور مجلس السوفييت الأعلى — صورةَ السيجارة من الطوابع التي تتضمن صورًا شخصيةً لعازفَي جيتار البلوز روبرت جونسون وجاكسون بولوك. تستهدف قرارات الحظر هذه فكرةَ الاستمتاع المفرِط والخطير لدى الآخر، الذي يتجسَّد في فِعل إشعال السجائر «في عدم اكتراثٍ» واستنشاق الدخان بنَهم، وبتلذُّذ صريح لا يعرف الخجل (على عكس الشباب المتحضرين من حِقبة كلينتون الذين يضعون السيجارة في أفواههم دون استنشاقها، أو الذين يمارسون الجنسَ دون إيلاج فعلي، أو الذين يتناولون الطعام دون دهون)، على غرارِ ما قاله لاكان بأنه «بمجرد أن يموتَ الإله يصبح كل شيءٍ محظورًا».
أحد الموضوعات القياسية في النقد الثقافي المحافِظ اليوم هو أن الأطفال في عصرنا المتساهل يفتقرون إلى الحدود أو المحظورات الصارمة. وهذا الافتقار يحبِطهم، مما يدفعهم من إفراطٍ وتجاوُز إلى آخرَ. ولا يكفُل الاستقرار والإشباع — الإشباع الذي يتحقَّق عن طريق انتهاك المحظور أو تجاوُز الحدود — إلا وجود حَد صارم تحدِّده سلطة رمزية معينة. ولتوضيح آلية عمل الإنكار في اللاوعي، أشار فرويد إلى رد فعل أحد مرضاه على حُلم له يُفترض أنه يتمحور حول امرأة مجهولة، حين قال: «أيًّا كانت هذه المرأة التي أراها في حُلمي، فإنني أعلم أنها ليست أمي». ورأى فرويد أن هذا دليل سلبي واضح على أن المرأة هي أمُّه بالفعل. هل من وسيلة لوصف المريض النموذجي اليوم أفضلُ من تخيُّل ردِّ فعله المعاكس تجاه الحُلم نفسه: «أيًّا كانت هذه المرأة التي أراها في حُلمي، فأنا على يقين تام أنها لا تمُتُّ بصلة إلى أمي!»
كان من المتوقَّع أن يسمح التحليل النفسي للمريض بتجاوز العقبات التي حرَمته من الوصول إلى الإشباع الجنسي الطبيعي: إن كنتَ لا تستطيع تحقيقه، فعليك الذهاب إلى المحلِّل النفسي الذي سيساعدك في التخلص من معوِّقات الإشباع. ولكن، تنهال علينا اليوم محرِّضات «الاستمتاع» من كل حَدَب وصَوب وبأشكال شتَّى، بدءًا من الاستمتاع المباشر بالفعل الجنسي وحتى الاستمتاع بالإنجاز المهني أو بالصحوة الروحية. صار الاستمتاع اليومَ بمثابة واجب أخلاقي غريب: فالأشخاص يشعرون بالذنب ليس لانتهاك الحواجز الأخلاقية عن طريق الانغماس في المتَع غير المشروعة، ولكن لعدم القدرة على الاستمتاع. وفي هذه الحالة، يكون التحليل النفسي بمثابة الخطاب الوحيد الذي يُسمَح لك فيه بعدم الاستمتاع؛ أي إنه لا يحظُر عليك الاستمتاع، ولكن يخلِّصك فقط من وطأة الضغط الناتج عن الإحساس بكونه أمرًا يتوجَّب عليك فعله.